السبت، سبتمبر 01، 2012

الحق فى الجمال - التحرير

الحق فى الجمال - التحرير



الحق في الجمال
وائل نوارة


مدينون للجمال باعتذار، وإعادة الاعتبار. فطر الله الروح تتغذى على الحب والجمال. وعندما نزيح الجمال جانباً ليصبح القبح هو الخيار الوحيد للوجود المادي، يتدهور البقاء المادي  نفسه تدريجيا حتى تفنى الأمة أو تكاد. لأن الأمم تبنى على الروح الإنسانية. ونحن الآن نكتب دستور الأمة المصرية: هل هناك فعلاً ما يسمى بالحق في الجمال؟ والحق في الحق؟ والحق في الحلم والكرامة والإنسانية؟ ماذا عن الحق في الأهمية؟ أن كل شخص -بل كل حياة- مهمة في ذاتها، ويجب أن نحتفل بوجودها؟

الجمال قيمة رئيسية في منظومة "ماعت" التي شكلت الأساس الثقافي والأخلاقي للتوازن والبقاء في الحضارة المصرية القديمة. نجد هذا واضحاً في عمارة المعابد، واللوحات الجدارية والتماثيل التي احتفلت بالجمال في الإنسان والنيل والزرع والطبيعة. في الرجل والمرأة والحيوان والنبات والأرض والنهر العظيم. إذن،  كيف اختفت هذه القيمة من حياتنا، وصار القبح شعاراً لوجودنا – يعلن عن نفسه في كل مناسبة وبدون مناسبة، في الكتل الخرسانية القبيحة، في العشوائيات المتغلغلة في كل شيء في حياتنا، في قبح لغوي ولفظي وابتذال أدبي وعاطفي؟ في اختفاء المساحات الخضراء والاعتبارات الجمالية تحت مبررات اقتصادية وسياسية عديدة. أين إعادة الاعتبار للجمال في مشروع النهضة أو في أي مشروع سياسي أو اقتصادي آخر؟ وهل يمكن أن نبني نهضة على القبح والأرف المخفي والمعلن؟

لقد تعرض الجمال لعدوان من الجميع. دعاة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، على ما يبدو رأوا أن الجمال والأناقة ترفا برجوازيا لا يخص الفقراء، فشيدوا مجمعات المساكن "العمالية" على نموذج واحد، الصندوق أو الكفن الخرساني الشهير باسم نموذج 6 – عبارة عن متوازي مستطيلات ترابي اللون، قبيح تنشع المجاري من جنباته لتعطي لكل مار صورة متكاملة عن  حياة قاطنيه، باعتبار أن ليس لهم الحق في الجمال، رغم أن العدالة الاجتماعية يجب أن تكون عدالة في توزيع وانتشار الجمال ليستمتع به الجميع – وليس في انتشار القبح والدمامة والوساخة والعطانة وتوزيعها إجبارياً ليعاني كل مواطن ويكتئب.

المتأسلمين والمتاجرين بالدين، رأوا في الجمال والفن وسواس الخطيئة، وملهاة عن ذكر الله، فاجتهدوا في إخفاء الجمال وتقبيح الوجود والوجوه والأزياء والأرواح شكلاً وموضوعاً، باعتبار أن الزهد يظهر في القبح، وعلامات الصلاح لابد أن تظهر في اللحية المشعثة والجبين المكفهر، وطاردوا الفن والفنانين والأدباء والمبدعين وكفروهم أجمعين، واحتفوا بعذاب القبر والثعبان الأقرع باعتباره رمزاً لحكمهم الأغبر، وبالكتب الصفراء التي تتحدث عن أهوال يوم يبعثون، رغم أن الله جميل يحب الجمال، وفي الكون آياته التي تهدينا لحكمته في كمال صنعه، وجمال الطبيعة التي خلقها لنا بروعة، ترشدنا لوجوده وكماله، تعالى عما يصفون.

الرأسماليين أيضاً ابتذلوا الجمال كسلعة، ووظفوه فقط للربح. عندما لا يكون هناك ربح فيه – لا داعي لتحمل تكلفة الجمال. تجد هذه الرؤية القاصرة مثلاً في بعض الفنادق والشركات: الأماكن التي يراها العملاء جميلة منمقة، والمناطق التي يعمل فيها الموظفون قبيحة وسقيمة الذوق. الجمال في حد ذاته ليس قيمة إنسانية بالنسبة لهم، بل يكتسب قيمته المادية فقط إذا كان يمكن استخدامه في زيادة المبيعات والأرباح!

المتاجرين بآلام الكادحين، أعلنوا أن التفرد والمساحة الفردية والملكية الفردية هي محاولة بورجوازية آثمة لتميز المترفين الفاسدين، عن العاملين الكادحين – رغم أن العمل الذي يخلو من الجمال، ضعيف أو معدوم القيمة، ولا يوفر للكادحين سوى الكفاف، ويحاصرهم في وجود هامشي قبيح. وبالتالي لا عجب أن تجتهد الدولة بكل أجهزتها في نشر القبح والترويج له، سواء في المدارس أو الكتب القبيحة الخالية من أي مسحة من موهبة أدبية أو فنية، أو في المباني الحكومية المؤذية للعين والروح، أو وسائل الإعلام المملوكة للدولة التي تجتهد في نشر القبح والابتذال والسماجة وانعدام الموهبة كدين جديد.


حجة الدولة أن الجمال مكلف ولا نحتمل نفقاته، رغم أن الجمال تكلفته الرئيسية في التأمل والتصميم والخيال والتفكير قليلاً قبل التنفيذ، لأن التنفيذ هو الذي يمثل التكلفة الرئيسية، ورغم أن انتشار الجمال يحسن من صورة الدولة ومن القيمة المضافة والقدرة التنافسية لها ككل.

البعض فسر مقال : "متحرشون حركة احتجاجية أبيحة" بأنني أرجع مشكلة التحرش للأزمة الاقتصادية - رغم أن المقال بأكمله يتحدث في الأساس عن مشكلة في الثقافة والقيم ... وهي تفشي القبح والنفاق والتدين المظهري -- على حساب الجمال والمساحة الفردية.  إذا كانت المشكلة هي القبح والنفاق والمظهرية على مستوى المجتمع- واغتيال المساحة الفردية على مستوى الفرد - فما هي الحلول؟

قد تكون في إعادة الاعتبار للجمال كقيمة معنوية ومادية أيضاً - على المستوى الثقافي والقانوني والتنظيمي -- الإعلامي والتعليمي ... بمعنى ... هل الكتب التعليمية تهتم بالجمال والأناقة كقيمة في المناهج - أو كمعيار لتصميم الكتاب نفسه؟ هل القواعد التي تنظم التخطيط العمراني والبناء في مختلف الأحياء السكنية تراعي الاعتبارات الجمالية والمساحات الخضراء والجمال الكلي؟ وعندما نتحدث عن الاعتبارات الاقتصادية - فنضحي بالجمال مثلاً بحجة تخفيض التكلفة – يجب أن ننظر للناحية المقابلة، وندرك أن الجمال والتصميم والإبداع يحمل في طياته جل القيمة الاقتصادية، ولا يمكن أن نتقدم اقتصاديا دون تنمية الحس بالذوق والجمال والإبداع في كل منتج أو خدمة أو كيان اقتصادي، ونضع لهذا الحلول الثقافية والتوعوية وأيضاً التشريعية – لضمان الجمال الكلي والجزئي. أما دعاة التدين المظهري، الناشطين في محاربة الجمال والفن والإبداع، وتحريمه على الناس، مع الترويج للقبح والوجود المكفهر المشعث كدليل على الصلاح، فلابد من معالجتهم من داخل المؤسسة الدينية نفسها، من خلال مفكرين ودعاة حقيقيين، مؤمنين بجمال الله وكماله، وبأن قدرته وآياته تتجلى في جمال الكون والوجود، وأن الإبداعات الإنسانية ما هي إلا قبس بسيط يحاول أن يحاكي الجمال الرباني في الطبيعة.

مشكلتنا ليست مشكلة اقتصادية -- بل أن المشكلة الاقتصادية هي أحد أعراض المشكلة – مشكلتنا ثقافية في الأساس -- وبالتالي حلها ثقافي – وبدايته هو استعادة التوازن في منظومة القيم المصرية الأصيلة، بعيداً عن الانحرافات الوهابية القبيحة، وربما تكون بداية عودة الروح تكمن في الإصرار على هذا الحق الإنساني المصري الأصيل: الحق في الجمال.


هناك تعليقان (2):

Entrümpelung يقول...

شكرا على الموضع..))

Entrümpelung wien يقول...

شكرا لكم ..))

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook