‏إظهار الرسائل ذات التسميات social contract. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات social contract. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، أغسطس 04، 2010

A New Social Contract – 2006 Archive

الجمهورية الثالثة

نحو
عقد اجتماعي جديد

مقدمة

تحدثنا في مقالين سابقين (الدولة الموازية – وإعادة الاعتبار لدولة القانون) عن الفشل الإداري والتشريعي للحكومات السلطوية، الذي أدى إلى صعود الدولة الموازية ونموها وتغولها في كافة مجالات الحياة إلى أن طغت على الدولة الرسمية التي انكمشت على نفسها وأصبحت دولة مظهرية قليلة الأثر ينحصر وجودها في قنوات الإعلام الرسمية والصحف القومية. كما تفحصنا الأسباب التي أدت إلى انهيار احترام القانون وتفشي ثقافة خرق القانون، وخلصنا إلى أن كسر هذه الدائرة المفرغة وإعادة بناء دولة القانون يستوجب يتطلب وجود قيادة تتمتع بالرؤية والمصداقية والقبول الشعبي الواسع، تقود المجتمع نحو الاتفاق على عقد اجتماعي جديد.


الجمهورية الأولى

عندما قامت ثورة يوليو 1952 أعلن الثوار في البداية أنهم سوف يعودون إلى ثكناتهم فور أن يطردوا الملك فاروق ويسلموا مقاليد السلطة إلى حكومة ديمقراطية. ولكن سحر خاتم الملك كان أقوى من قدرة الثوار الشباب على المقاومة، فاستمروا في الحكم بشرعية الأمر الواقع، أو وضع اليد، أو ما أطلق عليه فيما بعد "الشرعية الثورية". وفي الواقع فإن الشرعية الحقيقية التي اكتسبها النظام جاءت من القبول الشعبي الواسع لمحاولة النظام صهر الطبقات جميعاً في طبقة واحدة متوسطة وتذويب العوائق الاجتماعية أمام أفراد الشعب، مما مكن أبناء العمال والفلاحين من الجلوس بجوار أبناء الباشوات والبكوات في مقاعد الدراسة والقضاء والشرطة والحكم. الشرعية الحقيقية التي اكتسبها النظام آنذاك جاءت من تعلق وجدان الشعوب العربية بأحلام التحرر من الاستعمار والوحدة والتقدم والمساواة.


ومن المؤكد أن الجمهورية الأولى قد فقدت معظم أو كل شرعيتها بعد هزيمة 1967، عندما استيقظ الشعب من تلك الأحلام الرائعة، على صرخات الألم والكوابيس المروعة، وأصيب نظام الحكم والدولة بل والشعب بحالة من الذهول وعدم الاتزان، مثل من يتلقى ضربة مفاجئة رهيبة على مؤخرة رأسه. وجاء مشهد التنحي الأليم وما تلاه من مظاهرات شعبية أضافت بضعة أشهر أو سنوات لحياة نظام انتهى عمره ودخل في مرحلة الوفاة السريرية Clinical Death. وعندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية على الأحكام الهزيلة التي صدرت بحق بعض كباش الفداء، من رجال النظام وشركائه في المسئولية عن أسوأ هزيمة تعرضت لها مصر على مر تاريخها الطويل، خرج النظام على الشعب ببرنامج 30 مارس يعد بالإصلاح ويلمح بعودة الديمقراطية وإقامة دولة المؤسسات، ولكنه ربط ذلك بتحرير الأرض باعتبار أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ومنذ ذلك الوقت وشرعية نظام الحكم المصري تعد في مرحلة الموت السريري بحيث يحتاج نظام الحكم باستمرار لدعم من أجهزة الحياة الاصطناعية، وتصبح حياة النظام رهناً بأجهزة التنفس الاصطناعي ومنظم ضربات القلب وغسيل الكلى وغيرها من وسائل تبطئ من إعلان الوفاة بعد انتهاء العمر الافتراضي وإصابة النظام بفشل كلوي وكبدي ورئوي وتليف دماغي وجلطات بالقلب وانسداد الشرايين وتآكل الأعصاب والسكر والشلل والزهايمر وغيرها من أمراض الشيخوخة. فمباحث أمن الدولة، وقانون الطوارئ، والأمن المركزي، وتزوير الانتخابات، والدعم الخارجي، وتضخم الدين الحكومي، وتزييف الإعلام، والسيطرة الأمنية على الجامعات، واختراق القضاء، وتفصيل القوانين التي تمنع أي تداول حقيقي للسلطة، ومحاربة أحزاب المعارضة وحصارها ومحاولة تفتيتها من الداخل، كل هذه الأجهزة التعويضية استخدمها النظام لتكريس بقائه، كبديل عن الشرعية التي سقطت.

الجمهورية الثانية

بصدور دستور عام 1971، يمكن أن نرصد محاولة النظام اكتساب شرعية جديدة بديلة عن الشرعية التي سقطت أو "توفيت" في صباح 5 يونيو 1967. ويمكن أن نتصور أن الرئيس السادات تمنى مخلصاً أن يبني نظاماً جديداً، يقوم على التعددية والمؤسسات، بحيث تقوم الجمهورية الثانية بنقل نظام الحكم المصري من "مرحلة الشرعية الثورية – أو اللا شرعية - إلى مرحلة الشرعية الدستورية" و "التحول لدولة المؤسسات" وهي العبارات التي كان يستخدمها الرئيس السادات في تلك الفترة. ولكن صدور الدستور الجديد عام 1971 من رحم السلطة في دولة شمولية جاء ليكرس تسلط الدولة على كل أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فقد تحدث ذلك الدستور عن دور "الاتحاد الاشتراكي" كحزب أوحد يمثل "تحالف قوى الشعب العامل، كما رسخ ذلك الدستور توجه الدولة (في ذلك الوقت) لاحتكار النشاط الاقتصادي وامتلاك أدوات الإنتاج الصناعي والخدمي واحتكار التبادل التجاري، بحيث نصت المادة 30 من الدستور على أن "الملكية العامة هي
ملكية الشعب، وتتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام. ويقود القطاع العام التقدم في
جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية." وربما لو كان ذلك الدستور قد تمت صياغته عام 1976 بعد السماح بعودة الأحزاب لكان له شأن آخر في تاريخ مصر. لقد جاء ذلك الدستور ليعبر عن استمرار التوجه الشمولي السلطوي، ومع ذلك، فقد احتوى ذلك الدستور على بعض الضمانات التي تم نزعها فيما بعد، فقد نص دستور 1971 – عند صدوره - على أن مدة الرئاسة 6 سنوات تجدد مرة واحدة فقط.


وفي منتصف السبعينيات، بدأ التحول من نظام الاقتصاد الموجه إلى نظام الاقتصاد المفتوح أو ما سمي وقتئذ بالانفتاح الاقتصادي، وسُمح بالمنابر التي تحولت إلى أحزاب لتعود التعددية الحزبية للحياة السياسية المصرية، وشهدت مصر انتخابات برلمانية نظيفة نسبياً، وبات من المنتظر إعادة كتابة الدستور ليضع أسساً جديدة تنظم التوجه العام للدولة نحو الليبرالية، ويحرر الممارسة السياسية والنشاط الاقتصادي، ويسمح بالانتخاب الحر المباشر بدلاً من نظام الاستفتاء الذي لا يعطي للشعب أية خيارات أو بدائل. إلا أن الوضع تغير فجأة قرب نهاية السبعينيات، فقد تم تعديل الدستور ليعطي الحق لرئيس الجمهورية في ترشيح نفسه "لمدد أخرى"، بما يعني عملياً الاحتفاظ بالمنصب مدى الحياة، وفي مناورة سياسية للسماح للسادات بالبقاء في السلطة مدى الحياة، تم تعديل المادة الثانية من الدستور لتنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة
العربية لغتها الرسمية، ومبادىء الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع."


ولم يمهل القدر الرئيس السادات ليستخدم ذلك التعديل الدستوري، فقد وافته المنية قبل عام من انتهاء المدة الثانية. واليوم وبعد مرور 33 عاماً على حرب أكتوبر وما يزيد عن ربع قرن من توقيع اتفاقية السلام، وعلى الرغم من تصفية القطاع العام، فلا زلنا نعمل داخل إطار دستور 1971. ولفترة طويلة رفض النظام تعديل الدستور، بل ووجدنا المسئولين يحذرون بأن المطالبة بتعديل الدستور هو "ضرب للاستقرار وتهديد للشرعية" و"خيانة" وأنه "دعوة باطلة". وعندما تصاعد الغضب الشعبي واضطر النظام لتعديل الدستور، جاء التعديل مبتسراً ومفرغاً من المضمون، وهو أمر محزن أن يأتي تعديل المادة 76 في مايو 2005 بنفس الطريقة السلطوية ليخرج معيوباً يعاني من العوار ويفتقد الشرعية نتيجة لما رأيناه من تزوير في الاستفتاء على ذلك التعديل سجلته تقارير القضاة.

الجمهورية الثالثة

إن وظيفة الجمهورية الثالثة كما نراها، هي أن تتحول بمصر من النظام الشمولي إلى النظام المدني الديمقراطي في ظل تعددية حقيقية. إننا ندعو الشعب كله ليشارك في صياغة تلك الملامح من خلال الأحزاب المختلفة ومؤسسات المجتمع المدني والصحف وأجهزة الإعلام ومنتديات الرأي. نحلم بأن يحتوي الدستور الجديد على الضمانات الكفيلة بتداول السلطة بصورة شرعية وسلمية ومنظمة ومنتظمة، تتيح الفرصة للشعب أن يستفيد من القدرات الخلاقة لأبنائه المتميزين، عن طريق انتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة.


إننا نؤمن أن مصر تمتلك مجموعة فريدة من العناصر العبقرية الكامنة في جوهر هذا الوطن العظيم، عناصر تؤهلها لأن تستعيد عافيتها وتسترجع مكانتها المجيدة في سجل الحضارة، عناصر تمكنها من أن تصبح دولة قوية ومتقدمة، تشارك بفاعلية في مسيرة تقدم الإنسانية. إن ما ينقص المصريين اليوم، هو رؤية مستقبلية وقيادة تلهم الشعب وتستنهض روحه، حول مشروع نهضوي شامل، في إطار عقد اجتماعي جديد، يتمثل في دستور عصري، يسمح بتحفيز الطاقات البشرية الخلاقة لتحقيق تنمية حضارية واجتماعية واقتصادية. فالدستور هو المرجعية الأولى للمواطنين والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وكافة المؤسسات الخاصة والعامة بالبلاد. وهو أيضاً اتفاق المبادئ الذي يحكم أفراد ومؤسسات بلد ما. فالدستور يوثق مكنون الضمير الجمعي للمجتمع. وبالتالي، فيجب أن يأتي الدستور متمشياً مع الفطرة السليمة أو ما يطلق عليه البعض "القانون الطبيعي". والحضارة الإنسانية هي نتاج تراكمي لعشرات الآلاف من السنين التي تفاعل عبرها الأفراد مع بعضهم البعض، فنشأت المجتمعات وتفاعلت بدورها مع بعضها البعض. ويمكن القول بأن هناك مجموعة من القيم التي تشترك فيها معظم الحضارات التي نجحت في أن تجتاز اختبار الزمن وامتحان البقاء Survival وهذه القيم المشتركة هي التي تشكل عند أي نقطة زمنية القانون الطبيعي الذي يجب أن يسترشد به من يتصدون لوضع أي دستور وطني أو ميثاق دولي لحقوق الإنسان مثلاً. فلابد أن يرسخ الدستور مبادئ المساواة ومفاهيم المواطنة بين كل المصريين، دون أن يتحيز لطبقة على حساب طبقة، دستور تتوافق عليه مختلف الجماعات والطوائف، دستور توافق عليه الأغلبية ولا يهضم حقوق الأقلية.


لقد جاء دستور 1971 متحيزاً للطبقة العاملة والفقيرة على حساب باقي مجموعات المجتمع، باعتبار أن الطبقة الكادحة تمثل الأغلبية فجاء الدستور يداهنها ليضمن تأييدها للنظام الشمولي. وعلى سبيل المثال فإن الدستور المصري الصادر عام 1971 يبدأ بعبارة "نحن جماهير شعب مصر العامل على هذه الأرض المجيدة منذ فجر التاريخ
والحضارة." بدلاً من أن يقول "نحن جماهير شعب مصر الذي يعيش على هذه الأرض المجيدة منذ فجر التاريخ
والحضارة." بما يوحي أن الدستور يتحدث فقط باسم الطبقة العاملة ويحابيها، ولا يتحدث باسم المواطنين أجمعين. وهكذا يظهر في مختلف أجزاء دستور مصر الصادر عام 1971 مصطلح "تحالف قوى الشعب العامل" يما يشير لوجود اتفاق عام بين عدة قطاعات من المواطنين – العاملين فقط - (تحت وصاية أعضاء التنظيم السياسي الواحد – الاتحاد الاشتراكي العربي) وعدم الاعتداد بأي مجموعات أخرى.


وفي مثال آخر، عندما قيدت الدولة حق الملكية الخاصة وحاربت المبادرة الفردية والجماعية، وحاصرت القطاع الخاص بالتأميم والحراسة والمصادرة والتضييق وجهاز المدعي العام الاشتراكي، وفرض الأسعار الجبرية ورقابة وزارة التموين والشرطة والتعقيدات البيروقراطية ونشر ثقافة الإقصاء والتخوين ووصم التجار ورجال الأعمال بالاستغلال في وسائل الإعلام (الإرشاد القومي)، كانت النتيجة في النهاية انهيار الاقتصاد وبطء نمو الناتج القومي عن معدل النمو السكاني وتفشي البطالة الصريحة والمقنعة وسقوط الملايين تحت خط الفقر. فنجد الدستور المصري يتحدث عن "التزام المجتمع بمراعاة السلوك الاشتراكي – مادة 12" و"دعم السلوك الاشتراكي – مادة 56" وتأتي الطامة الكبرى عندما تنشئ الدولة جهاز المدعي العام الاشتراكي وتكون مسئوليته "فرض السلوك الاشتراكي" كما نرى في الفصل السادس من الدستور:

الفصل السادس - المدعى العام الاشتراكي

مادة 179 يكون المدعى العام الاشتراكي مسئولا عن اتخاذ الإجراءات التي تكفل تأمين حقوق الشعب وسلامة المجتمع ونظامه السياسي، والحفاظ على المكاسب الاشتراكية والتزام السلوك الاشتراكي، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى، ويكون خاضعا لرقابة مجلس الشعب، وذلك كله على الوجه المبين في القانون.


وغيرها من عبارات مطاطة تشير لتوجهات يقصد منها الحد من النجاح الفردي، بل أحياناً بمعاداة النجاح الاقتصادي تمهيداً لقمعه وفرض الحراسة عليه. لم يقل أحد بوضوح، ما هو هذا السلوك الاشتراكي الواجب اتباعه. ومن الملاحظ أن الاقتصاد المصري في إطار هذه التوجهات التي تم الترويج لها، تعرض لعدة موجات من التأميم بدءاً من الخمسينيات والستينيات وصولاً لوضع شركات توظيف الأموال تحت الحراسة في الثمانينات وكذلك الشركات التي حصلت على قروض بنكية أو التي تعثرت في سداد مثل تلك القروض في التسعينيات وما بعدها. وقد أدت كل هذه السياسات لإهدار موارد المجتمع وفشل الاقتصاد وتخلف الدولة ككل عن ركب التقدم العالمي.


وهنا يبرز درس قوامه أن التحيز لأي مجموعة – سواء مثلت أغلبية فقيرة أم أقلية غنية – بالمخالفة لمبادئ العدالة والقانون الطبيعي يؤدي في النهاية لفشل المنظومة ككل، وبالتالي فإن النظم والدساتير لابد أن تحرص على التوازن بين مصالح مختلف الجماعات وتكرس احترام حقوق الأقليات.

اتساق التشريعات والسياسات مع الدستور

عندما فشلت تجربة الاقتصاد الموجه في مصر بدأت الحكومات المتعاقبة تستعير بعض أفكار الاقتصاد الحر منذ منتصف السبعينيات ولكنها فعلت ذلك بصورة مشوشة ومبتسرة، فتجد الحكومات تتحدث عن الاقتصاد الحر تارة وعن ترشيد الاستيراد تارة أخرى، وتنادي باقتصاد السوق ولكنها تتحدث عن ضبط الأسواق وتسعير المحاصيل، وتصر على تسعير الدولار، وتطارد شركات الصرافة بصورة بوليسية، وتتحدث عن الإصلاح الاقتصادي ولكنها تقسم على دعم القطاع العام وعدم المساس به، وغيرها من متناقضات غير مفهومة. ثم تأتي مرحلة قبول الحكومة بحتمية خصخصة القطاع العام بعد أن استنزفت خسائره موارد البلاد، وتبدأ الخصخصة دون أن يتم تعديل الدستور. واليوم نجد أن التشريعات والممارسات والسياسات الاقتصادية تسير في واد والدستور في واد آخر يتحدث عن تحالف قوى الشعب العامل وأهمية دعم القطاع العام وضرورة تحديد الملكية الزراعية. إن هذا الانفصام بين الدستور وبين التشريعات، يضرب دولة القانون في مقتل، ويهدد شرعية ودستورية كل ما يتم من إصلاحات اقتصادية لأنها لا تتفق مع دستور البلاد. وبالتالي فإن إعادة صياغة الدستور بروح جديدة تناسب العصر وتتفق مع التوجهات الحالية هو أمر شديد الأهمية.

دور الدولة

لابد أن يبدأ الدستور بتعريف دور الدولة كحل إداري يشمل نظم الحكم ومؤسساته والسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، التي تعمل على توفير الأمن والعدل والتشريع وتنفيذ القانون وتوفير الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وبنية أساسية ومظلة اجتماعية، لتتفرغ الدولة لهذه الوظائف الإدارية للدول الحديثة، دون أن تشتت جهودها في إقامة المصانع أو تملك وسائل الإنتاج أو التدخل في الأنشطة الاقتصادية، أو الدخول في منافسة غير متكافئة مع القطاع الخاص، إلا في حالات الضرورة القصوى.

روح الدستور

نعتقد أن روح الدستور الجديد لابد أن تختلف عن الدساتير الشمولية بحيث يرسخ المساواة وحقوق المواطنة والحريات العامة وحقوق الإنسان ويؤكد على أهمية التوازن بين السلطات وتداول السلطة بصورة سلمية منتظمة.


الحريات

  • ترسيخ الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان وصون حقوق الأقليات
  • إعلاء قيمة الفرد
  • احترام الملكية الخاصة وصونها
  • ترسيخ الأساس القانوني أن الأصل هو البراءة وافتراض الصدق في كل مواطن
  • التوازن بين حقوق الفرد ومصالح المجتمع
  • التوازن بين السلطات والمسئوليات
  • التوازن بين السلطات المختلفة فلا تطغى سلطة على أخرى
  • التوازن بين مصالح مختلف الطبقات والطوائف
  • يحظر على أي نظام سياسي أن يحاول إخضاع المواطنين عن طريق توجيه عملية التعليم أو الإعلام أو استغلال السلطة أو تقديم مزايا معينة لأي جماعة أو نشاط اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي في اتجاه يكرس حكم حزب ما بعينه، أو جماعة ما، أو مجموعة من الأحزاب، أو مجموعة من الجماعات، أو بأي طريقة تعوق قدرة المجتمع على التداول السلمي للسلطة بحيوية وانتظام.


تشجيع المبادرة الفردية والجماعية وإلغاء العوائق البيروقراطية

  • الأصل في كل نشاط هو السماح وليس المنع
  • الدولة عليها أن تشجع المبادرة الفردية والجماعية، تشجع النجاح وتأخذ بيد من يتعثرون، فلا تجرم مثلاً التعثر الاقتصادي ما دام لم ينشأ عن سوء نية
  • النظم الإدارية والقوانين الموضوعة لابد أن تتيح لأفراد الشعب أن يسعوا للرزق ويمارسوا حياتهم الطبيعية في حرية واطمئنان وبأقل القيود. تدخل المشرع في تقنين التعاملات يكون فقط في حدود التنظيم الذي يتمشى مع الواقع الذي يمكن تطبيقه والقانون الطبيعي. فالتشريعات والحلول الإدارية يجب أن تأخذ في الحسبان الأعراف المستقرة في المجتمع، واعتبارات التطبيق والمواءمة، ومصالح قطاعات الشعب المختلفة قبل التشريع أو التطبيق، وعلى الحكومة أن تراعي تعويض من قد يضار من أي إصلاح إداري أو قانوني.
  • الحكومة بأجهزتها الإدارية إنما هي سلطة تنفيذية قد وجدت لخدمة الشعب وتحقيق مصالح الوطن، وأن الشعب قد أوكل لها مهاماً إدارية محددة ولفترة معينة، في حدود الدستور والقانون، وأن ممثلي الحكومة في كل تعاملاتهم مع الشعب لابد وأن يتحلوا بروح الخدمة والعناية تجاه أفراد الشعب الذين فوضوهم ويتحملون أجورهم من الضرائب، وأنه ليس للمشرع أو للحكومة أن تفرض على الشعب أن يلتزم بإجراءات روتينية معقدة لكي يحصل على الخدمات الأساسية أو التراخيص الخاصة بمزاولة أية مهنة أو نشاط، بل أن مهمة المشرع والحكومة هي أن تيسر من مهمة أفراد الشعب وهيئاته من أجل الإنتاج والتقدم واللحاق بركب الدول المتقدمة.
  • تكفل الدولة تشجيع المشروعات الصغيرة وتقوم هيئات حكومية أو أهلية أو خاصة بتصنيف الشركات الصغيرة طبقاً لما يحدده القانون.
  • تخصص نسبة من مشتريات مؤسسات الدولة (الحكومية والعامة) لا تقل عن 25% من المشروعات الصغيرة.
  • تشجع الدولة البنوك على تخصيص حصص مناسبة لتمويل المشروعات الصغيرة.

منع الاحتكار وحقوق المستهلك والعامل

  • تأكيد الدفاع عن حقوق المستهلك والمسئولية المادية والأدبية والجنائية التي تنشأ نتيجة بعض أعمال العمل الاقتصادي قبل الغير والمجتمع
  • ينظم القانون الضوابط التي تمنع السلوك الاحتكاري وتقومه.
  • ينظم القانون قيام جمعيات حماية المستهلك وعملها.
  • أن أي مؤسسة اقتصادية مسئولة عن أمان وسلامة المستهلك والمستخدم والمجتمع والبيئة وصون حقوقهم في نطاق ما تنتجه من سلع أو تقدمه من خدمات حتى في عدم وجود تشريعات صريحة لذلك، وعليها أن تتخذ الإجراءات الوقائية لمنع أي ضرر يقع على الغير وتبني النظم التأمينية التي تمكنها من تعويض الغير عن هذا الضرر في حالة حدوثه بحسن نية دون الانتقاص من أي حقوق أخرى.
  • ويؤكد على حقوق العمال وإطلاق حق تكوين النقابات (مع السماح بوجود عدة نقابات لنفس المهنة تتنافس فيما بينها على خدمة أصحاب المهنة أو الحرفة) وحظر معاقبة أي عامل نتيجة انتمائه النقابي، وكفالة حق العمال في الإضراب السلمي المنظم – خارج موقع العمل.


التنمية البشرية والفكرية والحراك الاجتماعي

  • تحمي الدولة الابتكار وحقوق الملكية الفكرية من خلال القوانين والسياسات التحفيزية، وتتبني المواهب وتعمل على صقلها وتمكين أصحابها من خدمة الوطن وتقديم التشجيع المادي والمعنوي لهم
  • التركيز على التنمية البشرية وتطوير نظم التعليم والتدريب
  • العقد شريعة المتعاقدين وليس للمشرع التدخل إلا بمنع العقود التي تشير بنودها لوقوع أحد أطراف التعاقد في وضع إذعان يغبن حقوقه الطبيعية.
  • تشجع الدولة البنوك ومؤسسات الاستثمار على إنشاء الصناديق الخاصة بتمويل مشروعات المخاطر Venture Capital والمشروعات التي تعتمد على تطوير التقنيات الحديثة والبحوث والتطوير.
  • تشجع الدولة الحراك الاجتماعي، ويحظر الدستور إصدار أي تشريعات أو لوائح أو إجراءات داخلية سواء عامة أم خاصة تقف عقبة أمام المساواة بين الأشخاص نتيجة للجنس أو اللون أو المعتقد أو الانتماء القبلي أو العائلي أو محل الإقامة أو الاتجاه السياسي أو الفكري أو السن – عدا القصر أو ما ينص عليه الدستور بالنسبة لسن من ينتخبون للمجالس الشعبية أو الوظائف العامة – كما يحظر التمييز بين المواطنين بناءً على الخلفية الاجتماعية لأي منهم، سواء في مؤسسات القطاع الخاص أو مؤسسات الدولة أو في الانتماء لأي نقابات أو جمعيات أو منتديات خاصة أو عامة أو أهلية، بحيث تقتصر المفاضلة على أسس موضوعية مثل الخبرة والمهارة والعطاء في المجالات المتعلقة بموضوع المفاضلة.


ملاحظة: تأتي فكرة الحراك الاجتماعي كبديل عن فكرة تذويب الفوارق بين الطبقات (الموجودة في الدستور الحالي) نظراً لعدم اقتناعنا بتصنيف المجتمع طبقاً للتصنيف الطبقي، بل أننا نعتقد أن المجتمع هو عبارة عن مجموعات مصالح متداخلة من منتجين ومستهلكين وأصحاب حرف ومستثمرين وغيرهم - بمعنى أن كل فرد ينتمي للعديد من جماعات المصالح في المواقف المختلفة، فالعامل هو أيضاً مستهلك، وقد تتعارض مصلحته كعامل يريد رفع الأجور عن مصلحته كمستهلك يريد خفض الأسعار، وفي نفس الوقت قد يمتلك أسهم شركة ما ويريد كمالك أن يحصل على أعلى عائد على الاستثمار بتقليل تكلفة العمالة ورفع هوامش الربح وهكذا. ونرى أيضاً أنه في الوقت الذي تشدقت فيه الدولة بالانحياز لمحدودي الدخل وركزت على " تذويب الفوارق بين الطبقات" نسمع عن الشاب الذي انتحر لاستبعاده من التعيين في إحدى الوزارات بعد التحري عنه واكتشاف أنه يأتي من خلفية اجتماعية متواضعة، وهو مثال واحد لظاهرة مؤسفة في العديد من الوزارات والمصالح العامة قبل الخاصة.

الحوكمة ومقاومة الفساد

لابد أن يحتوي الدستور على المبادئ التي تضمن الحد من الفساد الحكومي وتفعيل الرقابة الشعبية. وهذه المبادئ ضرورية لتشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية.

  • عدم جواز تعامل رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو الوزراء ومن ينوب عنهم أو المحافظين ورؤساء المدن والعمد والأحياء ومن ينوب عنهم أو المسئولين الحكوميين أو القضاة أو أعضاء المجالس الشعبية مع الدولة بيعاً أو شراءً ويحظر تقاضي أية عمولات أو هدايا من أي شخص أو جهة داخلية أو خارجية تتعامل مع الدولة بيعاً أو شراءً أو قضاءً أو لها مصالح تمسها سياسات الدولة. كما يحظر أن يستغل أي من أولئك المسئولين منصبه لصالح أي من أقاربه أو أصهاره أو معارفه أو مؤيديه بالاستثناء خارج إطار القانون حتى لو لم ينشأ عن هذا منفعة شخصية مباشرة للمسئول.
  • يحظر تعيين القضاة في المناصب التنفيذية أو كمستشارين لأي من المؤسسات العامة أو الخاصة إلا بعد مضي 3 سنوات على خروجهم من سلك القضاء.
  • على كل من يتصدى للعمل العام أن يقدم إقراراً لمجلس الشعب بممتلكاته هو وأسرته عند توليه الوظيفة وبصورة سنوية وعند خروجه منها، عدا أعضاء مجلس الشعب فيقدمون إقراراتهم لمحكمة النقض.
  • يكون اختيار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والمحافظين ورؤساء المدن والأحياء والعمد ونواب العموم بالانتخاب الحر المباشر بين أكثر من مرشح لفترة يحددها القانون بحد أقصى 10 سنوات في نفس الموقع.
  • يحق لمجلس الشعب أن يسحب الثقة من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء والمحافظين ورؤساء المدن والأحياء والعمد بناء على اقتراح من عشرين عضواً بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس. وفي الحالات التي تم فيها اختيار المسئول بالانتخاب (كل ما سبق من مناصب عدا الوزراء) يعرض قرار سحب الثقة في استفتاء يقترع عليه من انتخبوه لتأييد بقائه أو عزله من موقعه.
  • يقوم رئيس مجلس الشعب بتعيين رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ورئيس الجهاز المركزي للإحصاء وذلك بعد موافقة المجلس.
  • يراقب مجلس الشعب بمعاونة الجهاز المركزي للمحاسبات إيرادات الدولة ومصروفاتها والحسابات الختامية للحكومة في خلال ثلاثة أشهر من انتهاء السنة المالية.
  • يتولى الجهاز المركزي للمحاسبات كذلك رقابة ميزانيات الهيئات المحلية وغيرها من ميزانيات المؤسسات العامة والهيئات التي يعينها القانون.
  • يراقب مجلس الشعب بمعاونة الجهاز المركزي للإحصاء مؤشرات الأداء الحكومي مقارنة بخطة الحكومة.
  • يكفل الدستور حرية تداول المعلومات وحرية تكوين مراكز استطلاع الرأي وحرية إصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام وحرية الرأي وحرية النشر وحرية تداول المعلومات الخاصة بالأداء الحكومي ورأي الشعب في أي شأن أو قانون أو تشريع.

لابد من وضع ضوابط لمنع الفساد المحتمل نتيجة قيام بعض المؤسسات التابعة لأجهزة الأمن مثلاً بالدخول في أنشطة اقتصادية، أو استغلال أراضي المعسكرات في إقامة مشروعات اقتصادية، أو الفساد الناشئ عن تخصيص أراضي الدولة لكبار المسئولين، وغيرها.


فترة انتقالية

لعل من أصعب الأمور هو إدارة عملية التحول بحيث لا تحدث فوضى أو ردود فعل تهدد السلام الاجتماعي أو الاستقرار السياسي. ولهذا من الضروري وجود فترة انتقالية ذات مدة محددة وأهداف واضحة وخطة زمنية معلنة لتنفيذ الإصلاحات المرجوة.


الخلاصة

ما سبق هو رؤية سريعة لبعض الأسس والمبادئ التي نرى أنها ضرورية لإطلاق الاقتصاد المصري. ولا شك أن عملية صياغة دستور جديد عصري متناسق هي عملية معقدة ويجب أن يتصدى لها الخبراء والفقهاء الدستوريون، ولكننا نعتقد بضرورة أن يشترك المفكرون وخبراء الاقتصاد وممثلو المجتمع والنقابات وجماعات المصالح المختلفة في وضع الدستور الجديد. ويلي ذلك مرحلة شاقة لتنقية التشريعات المتضاربة وإعادة صياغة اللوائح والنظم الإدارية التي تسمح للاقتصاد المصري بأن يصل بنا لما نطمح إليه من تقدم ورخاء.



وائل نوارة

نشرة الإصلاح الاقتصادي CIPE
العدد 16 - 2006

الأحد، أغسطس 02، 2009

Freedom of Faith - Republished

التمييز الديني

رؤية ثقافية

وائل نوارة


religion.jpg image by shrew19

Daniel Marsula/Post-Gazette

مقدمة
عبر الثلاثين عاماً الماضية، عانت مصر من حالة متنامية من الهوس الديني، اخترقت المجتمع بكافة شرائحه، بما يشبه الغزو الفيروسي الذي يقتحم جسداً ضعيف المناعة، فيصيبه بالحمى والهذيان ومختلف الأعراض المرضية. والمناعة هنا هي المناعة الحضارية والثقافية التي ضعفت بصورة شديدة، فأدت إلى استشراء الفيروس في جسد الأمة المصرية بصورة هددت عافيتها. وبالطبع فقد صاحب هذا الهوس الديني تصاعد في التمييز الديني، ومصادمات وحوداث متكررة تقف وراءها أسباب طائفية، أدت بدورها للمزيد من التقطب والتحزب الديني، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة.



وبينما تنعقد الكثير من المؤتمرات لتناقش التغيرات المطلوبة في القوانين واللوائح، ينسى الكثيرون أن المشكلة في مصر ليست فقط مشكلة قوانين، بل أن القوانين هي أحد أعراض المشكلة، وربما تكون أقل أطراف المشكلة في حدتها. أما المشكلة الرئيسية في رأينا فهي مشكلة ثقافية وحضارية. ولابد هنا أن نعرف الثقافة culture ليس بمعنى الآداب والفنون، بل بمعنى طريقة الحياة، أو الحل الحضاري. ونعني هنا بالحل الحضاري Culture أو "طريقة الحياة" Way of Life ونعرف طريقة الحياة بأنها "مجموعة القيم والطبائع والسلوكيات والقناعات الفكرية والعادات والتقاليد ونظم التفاعل الاجتماعي التي تتبناها جماعة ما، باعتبارها تمثل الإجابة أو الحل الحضاري Solution لمشكلة البقاء".



المشكلة الرئيسية إذن لا تتعلق ببعض القوانين أو حتى مواد الدستور، بل هي تتعلق بتراجع الحل الحضاري المتجه للحداثة أمام حلول حضارية سلفية. بل أننا يمكن أن نقول أنه مع تراجع تبني المجتمع لقيم الحداثة والتطور، فإن التشريعات تسبق المجتمع ليس في مصر فحسب، بل في العديد من الدول العربية الأخرى، مثل تونس والمغرب. بمعنى آخر، فإن الرأي العام يميل للمحافظة أكثر من التشريعات التي قد تمررها النخب الحاكمة. المشكلة إذن في المجتمع، والحل هو في التنوير، وليس فقط في التشريع، بل أن التنوير يجعل التشريعات التي تكفل المساواة تأتي من الشعب، من أسفل إلى أعلى، بما يضمن جدية التطبيق وانتشاره على أرض الواقع.



والدليل على ذلك يظهر في تأييد القيادات الدينية الكنيسة الأرثوذكسية مثلاً للحزب الحاكم ورموزه، على الرغم مما قد يبدو على السطح أحياناً من خلافات، لكن تلك القيادات ترى أن النظام الموجود يكفل لها حقوقاً أفضل ويطرح مخاطر أقل من آخرين قد لا يرون في المسيحي مواطن كامل الحقوق، بل يرون أنه يمكن لأجنبي مسلم أن يتولى رئاسة الدولة بينما لا يصلح مسيحي مصري لذلك، رغم أننا نتحدث عن الدولة المصرية.



وبينما تؤيد القوى السياسية الليبرالية مثلاً إلغاء الخط الهمايوني وإقرار قانون موحد لبناء وصيانة دور العبادة، وإزالة خانة الديانة من بطاقة الهوية القومية، وحرية المعتقد والتحول الديني، وعدم التفرقة بين الأديان بحجة أن بعضها سماوي وبعضها غير سماوي، أو أن بعضها صحيح والآخر محرف، وغيرها من أطروحات غريبة في أمور هي في الأساس قائمة على الإيمان الشخصي، ولكن المحك الحقيقي يأتي على أرض الواقع: هل عند التطبيق سيستطيع أصحاب الديانات المختلفة بناء دور العبادة بنفس الدرجة من الحرية والمساواة، أم أن السلطات المحلية ستتفنن في وضع العراقيل أمام البعض وتسهيل الطريق أمام البعض الآخر، في محاكاة لرواية مزرعة الحيوانات "كل الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر استواء من الآخر"! فالعبرة إذن ليست بالقوانين ولكن بالمناخ الثقافي السائد في المجتمع. مثال آخر، نحن نعلم أن عقوبة القتل والاعتداء معروفة ولا تحتاج لقوانين إضافية، لماذا إذن لم نر أحكاماً تصدر بحق مرتكبي حوادث العنف الطائفية على مدى ثلاثين عاماً، مع الاكتفاء بجلسات الصلح وتقبيل اللحى وغيرها من وسائل تضرب هيبة القانون في مقتل وتستحل دماء ضحايا جدد. فالقوانين موجودة ولكن التطبيق منعدم. ومن أخطر القيم التي تتسبب في فساد المناخ الثقافي تأتي الأحادية الفكرية، والإصرار على أن هناك
وجه واحد للحقيقة المطلقة. ورغم أن مبدأ الشك قد دخل في الفكر الإنساني منذ مئات السنين في كتابات ديكارت وغيره من الفلاسفة، وجاء هذا المبدأ ليعكس فكرة أن للحقيقة أوجه متعددة وأن هناك العديد من الزوايا التي يمكن أن ننظر بها لنفس الموضوع، وجاءت التطورات العلمية ليطرح أينشتين مبادئ النسبية التي تجعل الأطوال والكتل والسرعات تختلف حسب مرجعية كل مراقب، ثم طرح هايزنبرج مبدأ عدم اليقين في تحديد مواضع وسرعات الجسيمات باعتباره مبدأ ثابت في فيزياء الكون Heisenberg Uncertainty Principle، إلا أن غسيل المخ الذي يحدث بصورة ممنهجة للطفل المسلم أو المسيحي منذ مراحل نموه الأولى، يتكفل بانتزاع أو تعطيل خلايا المخ المسئولة عن التفكير النقدي.



ومبدأ الشك وعدم اليقين في جانبه الإيجابي يشجع روح البحث العلمي والإبداع والتطوير الفكري الدائم، والقدرة على نقد الواقع بل ونقد الذات، والقدرة على تقبل الآخر والتعايش بين الأضداد، وفي جانبه السلبي فإن مبدأ الشك يزعزع العقيدة وهي الأرض الروحية التي يقف عليها الإنسان مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى التعاسة والاكتئاب، فالتوازن إذن هو ما ينبغي أن نسعى إليه. ولكن ما يهمنا هنا هو أن سيادة فكرة أحادية الحقيقة يعوق قدرة المجتمع على التطور ويتسبب في تجمده كما قد يؤدي إلى انتشار العنف ومعاقبة من يختلفون في الفكر مع المجموعة أو من قد يمثلها من حكام مما يهدد فكرة التعددية والديمقراطية والانتخاب الطبيعي للأصلح وهو ما يهدد أيضاً بقاء المجتمع ككل في وجه المجتمعات القادرة على تطوير نفسها داخلياً.



وقد يقترح البعض أن الطبيعة المصرية التي تميل إلى التدين والتمسك بالعقيدة هي التي تؤدي بالمصري إلى التمسك بالمطلق وعدم تقبل فكرة أن الحقيقة نسبية وأنها متعددة الأوجه، ولكننا نقول إنه لا يجب أن نخلق تعارضاً أو نوع من التضاد بين وحدانية العقيدة وما تفرضه من الإيمان المطلق بثوابت دينية وبين روح البحث العلمي والسعي إلى العمل والأخذ بأسباب القوة والنجاح وقبول فكرة أن الآخر له حق الاختلاف في الرأي أو الاقتناع بفكر معاكس أو اعتناق عقيدة مغايرة، كما أن اليقين والأحادية التي ترتبط بالدين، لا يجب أن تتوسع لتجور على الموضوعية والفكر النقدي والتحليلي في الأمور غير الدينية.



فالعقيدة هي اقتناع القلب ولا تحتاج أدلة مادية أو إثباتا منطقيا وبالتالي فليس هناك ما يمنع قبول فكرة أن كلاً منا قد تكون له عقيدته وحقيقته الشخصية المتفردة طالما لا يحاول فرضها على الآخرين وطالما جاءت قواعد الحوار المنطقي كأساس لإثبات الحقيقة الوضعية عند وجود الخلاف. وهناك مساحة شاسعة للاتفاق بين أصحاب العقائد الدينية المختلفة، بل وغيرهم ممن يؤمنون بمنظومة القيم الإنسانية ويلتزمون بالقوانين الوضعية، ولذلك المنطق يقول أن القاسم المشترك بين كل هؤلاء هي القيم العليا والمقاصد العامة والمبادئ المشتركة وليست الطقوس أو النصوص الحرفية. هنا تكون المرجعية في المنطق الطبيعي والقوانين الوضعية، بعيداً عن الثوابت الدينية التي قد يختلف عليها البعض، وبالتالي عند تنظيم المعاملات المدنية بين الأشخاص المختلفين يكون الأصل هو استخدام القانون الطبيعي وقواعد المنطق والاستنباط دون التقيد بمرجعيات دينية قد يُختلف عليها.



وفي نفس الوقت لا نستطيع أن نعفي النظم الاستبدادية بأنها تقف وراء تنامي نفوذ التيارات السلفية والمتطرفة، باستخدام الدين في السياسة للتخلص من تيارات معارضة حيناً، والعمل على رفض وتفتيت وتجميد ومحاصرة الأحزاب المدنية حيناً آخر، واستخدام التيارات المتطرفة كفزاعة لمنع التطور الديمقراطي، رغم أن تنامي قوة التيارات المتطرفة لم يحدث إلا في ظل غياب الديمقراطية، الذي أدى أيضاً لفشل هيكلي بنيوي مزمن للنظم التي قد يراها الشعب نظماً أقرب للعلمانية، وبالتالي يدفعه هذا الفشل إلى الاتجاه الآخر، اتجاه الدولة الدينية.
إن حق كل مواطن هو أن يعيش آمناً في بيته دون أن يعتدي عليه غيره بالفعل أو اللفظ، ولنا أن نضع أنفسنا مكان غير المسلمين الذين يتعين عليهم أحياناً أن يستمعوا عبر الميكروفونات لخطباء غاضبين لا هم لهم سوى تكفير أصحاب الديانات المغايرة والتحريض على كراهيتهم. وحق كل مواطن هو أن يتمتع أطفاله بخدمة تعليمية لا تمييز فيها، لكننا نجد أن وزارة التربية والتعليم قد تغلغلت فيها الجماعات السلفية والمتطرفة، حتى أصبح الحجاب فرضاً على كل تلميذة منذ عمر 8 أو 9 سنوات، ناهيك عن تدريس نصوص إسلامية في مناهج اللغة العربية سواء النحو أو القراءة، وعدم تدريس اللغة المصرية (القبطية) ولو حتى كمادة اختيارية. دعونا نتخيل أن الدولة أصدرت قوانين بتلافي هذا كله، كيف سيتم تطبيقها على أرض الواقع إذا كان القائمون على التطبيق من المروجين للفكر السلفي ويعدونه هو الطريق إلى الجنة؟



انهيار فكرة الوطن وتآكل الانتماء والمواطنة
المواطنة، ما هي إلا انتماء مواطن لوطن، يتمتع معه المواطن بوضع قانوني وسياسي ومزايا والتزامات اقتصادية واجتماعية وثقافية. فالمواطنة تعبر عن انتماء الأفراد للوطن بما يتضمنه ذلك من حقوق للأفراد، وواجبات ومسؤوليات تقع عليهم تجاه الوطن الذي ينتمون له.


وتشمل المواطنة الحقوق القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين في الوطن الذي يحتضنهم، بما يضمن تمتع جميع المواطنين بالمساواة دون أن يقع على أي منهم أي نوع من أنواع التمييز القائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري.


العلاقة بين الوطن والمواطن
فالعلاقة بين الوطن والمواطن إذن تظهر على أكثر من محور:

  • قانوني: فهذه العلاقة لها شق قانوني يشبه التعاقد الضمني، يشمل الحقوق التي يتمتع بها المواطن والواجبات التي تقع عليه، ولعل الدستور هو الوثيقة الأساسية التي تجسد بنود هذا العقد الاجتماعي، وفي الناحية الأخرى يتعين على المواطن احترام القانون والخضوع له.
  • سياسي: أن يشارك المواطن في صنع القرار المجتمعي، وفي الناحية المقابلة يحترم المواطن السلطة السياسية ويلتزم بقراراتها طالما تمتعت تلك السلطة بالشرعية، وصولاً لأن يضع المواطن حياته على المحك رهناً لأمر السلطة السياسية في حالات الحرب والدفاع عن الوطن
  • ثقافي: هو مخزون تراكمي من القيم المشتركة والتراث التاريخي والحضاري، تتجسد في مجموعة ضخمة ومتشابكة من العادات والتقاليد والسلوكيات ونظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالقيم المشتركة هي التي تشكل الضمير والعقل الجمعي للمواطنين، وهي التي تحدد بنيان وطبيعة نظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التي ترسم طريقة الحياة أو "كتالوج الحياة" على أرض الوطن
  • اقتصادي: أن يستطيع الفرد نتيجة لهذا الانتماء أن يحصل على احتياجاته الأساسية، من خلال انخراطه في المنظومة الاقتصادية لهذا الوطن وتفاعله معها، وهذا هو مفهوم المواطنة الاقتصادية، ويرمز له البعض بالعدالة الاجتماعية، ومن الناحية الأخرى يلتزم المواطن بسداد الضرائب والرسوم التي تذهب لخزينة الدولة لتنفق منها على المرافق والخدمات الاجتماعية المشتركة
  • اجتماعي: أن يتمتع الفرد بالعلاقات الاجتماعية التي تربطه بهذا الوطن، من خلال علاقات قرابة وصداقة وزمالة وجيرة لمواطنين آخرين
  • معنوي أو نفسي: ونتيجة لكل ما سبق، يتولد لدى المواطن شعور بالانتماء للوطن، وهو شعور نفسي لدى الفرد بعضوية كيان اعتباري هو الوطن، والتضامن مع المواطنين الآخرين بناء على الاشتراك في التاريخ والمصير.


    فالعوامل أو الروابط التي تتحكم في الانتماء لوطن لها شقان على الأقل، أحدهما يقع في الماضي بتراثه وذكرياته، والآخر يكمن في الموافقة الجماعية على العيش المشترك في الحاضر والمستقبل. ويمكن أن نقول أن الشق الأول الذي يقع في الماضي هو شق قدري لا يملك المواطن أن يتحكم فيه، ولكن الشق الثاني هو شق اختياري، لأننا قد نجد بعض المواطنين وقد عجزوا عن الحياة في الوطن، أو عجزت الحياة في ذلك الوطن عن أن توفر لهم احتياجاتهم الحياتية الأساسية، فيلجأون للانتساب لوطن آخر بصورة اختيارية عقلانية و – أو عاطفية.



تحلل وضعف الدولة الرسمية وصعود الدويلات الموازية



ويمكننا أن نتصور هذه العوامل أو الروابط، مثل الخيوط الدقيقة المغزولة معاً، والتي تتجمع لتكون حبل الانتماء. وعندما تتآكل تلك الخيوط واحداً بعد الآخر، يهترئ حبل الانتماء، حتى ينقطع أو يكاد.

فعندما يفقد المواطن حقوقه القانونية المكفولة له بموجب الدستور، أو تفتئت الدولة أو من يمثلها من موظفي العموم أو ضباط الشرطة على حريته أو كرامته كمواطن، أو يفتقد الشعور بالأمن، أو تتعطل منظومة العدالة، أو تغتال ممارسات الدولة والمجتمع أبسط قواعد المساواة وتكافؤ الفرص، أو يشعر "المواطن" أن رأيه لا يقدم ولا يؤخر، وأن صوته الانتخابي مهدر، وأن القرارات الاجتماعية تصدرها طبقة حاكمة بمعزل عنه، والأسوأ أنها لا تمثله ولا تراعي مصالحه، عندها، تنفصم بعض خيوط الانتماء.

وعندما يشعر المواطن بالاغتراب الثقافي، وبأن القيم الحاكمة في المجتمع، لا تتوافق مع قيمه الشخصية، بل وتتعارض معها في تضاد وتنافر، وأن منطق الحياة في المجتمع لم يعد يكافئ المجد أو الماهر أو الموهوب، بل أن المنافق والفاسد والممالئ للطبقة الحاكمة على حساب مصالح الوطن والمواطنين، هو الذي يتبوأ مقاليد الأمر والنهي ... عندئذ لابد وأن تتآكل خيوط أخرى.


وعندما تعجز قوانين ونظم الدولة التي تجسد مفهوم الوطن في الوفاء باحتياجاته الحياتية، من رعاية صحية، وخدمات تعليمية، وتأمين اجتماعي، وأمن وعدالة، فيضطر للجوء لقوانين ونظم بديلة في الدولة الموازية، يصبح فعلياً ولاؤه مزعزاً بين الدولة الرسمية والدولة الموازية. وقد يسأل سائل، أليست "الدولة الموازية" هي فكرة نظرية، بمعنى أنه لا توجد فعلياً دولة "رسمية" باسم الدولة الموازية، طبقاً لتعريف الدولة الموازية نفسها؟ فكيف ينتمي المواطن لدولة غير موجودة رسمياً؟

وهنا نرد بمثال بسيط، عندما يضعف أو يختفي دور الدولة في المجالات التي ذكرناها، وتأتي جماعة أو حزب أو جمعية أو شخص، ليقوم بتقديم هذه الخدمات بدلاً من الدولة الرسمية، فيفتتح عيادة طبية بأسعار رمزية في مسجد مثلاً أو كنيسة، كبديل عن الخدمات الطبية المنعدمة أو فاحشة التكلفة في تلك المنطقة مثلاً، ثم يلحق بها عدة فصول للتقوية تعويضاً عن فشل أو عجز أو تدهور أو قصور النظام التعليمي الرسمي، ثم يبدأ في تخصيص مبالغ شهرية من عائد الزكاة أو النذور أو التبرعات لمساعدة الأسر الفقيرة بتخصيص "معاشات" شهرية لتلك الأسر، كبديل عن الضمان الاجتماعي الذي لم تقدمه الدولة الرسمية، وهكذا.

مع كل هذا، ألا يتحول ولاء المواطن ليصبح مرتبطاً بهذه الجماعة أو الجمعية أو المسجد أو الكنيسة، بسياساتها وشخوصها ومصالحها، بدلاً من ولائه للوطن الأصلي؟ وعندما تعرض له قضية وطنية أو سياسية، ألا يأتي قراره بناء على مصالح أو توجيهات قادة الدولة الموازية التي تفي باحتياجاته؟ هنا نكتشف أن انتماء وولاء المواطن يصبح للمسجد أو الكنيسة أو الجمعية أو صاحب العمل أو عضو مجلس الشعب الذي يفي باحتياجاته الحياتية، وتصبح مصلحة تلك الدولة الموازية مقدمة على مصلحة الدولة الرسمية التي تجسد مفهوم الوطن الأصلي.


لقد تقوقع المسلمون في الدين الإسلامي، وتقوقع المسيحيون حول الكنيسة، فأصبح للإخوان مثلاً دويلة إسلامية موازية، وأصبحت الكنيسة دويلة موازية أخرى، وتدريجياً اجتذبت هذه الدويلات الموازية الولاء من مواطني الدولة الرسمية الذين أرادوا بدورهم أن ينتموا لكيان بديل عن الوطن الضائع، فضعفت فكرة الوطن، واقتربنا من أن نصبح شعبين في وطن واحد. بل أننا نسمع هذه التعبيرات بالحرف: الشعب المسيحي، أو شعب الكنيسة والأمة الإسلامية، إين إذن الأمة الموحدة التي تسكن هذا الوطن، مصر؟ نحن ندعو للدولة المدنية ولفصل الدين عن السياسة، فما هو البديل عن ذلك، هل نريد نظام محاصة طائفي حتى نصبح شعبين يعيشان على أرض واحدة يتربصان ببعضهما البعض انتظاراً للحظة الانفصال، أم ندافع جميعاً عن حقوق المواطنة لكل فرد، مسلم أو مسيحي أو بهائي أو بوذي أو غير متدين؟



دور يجب أن يتغير

لا شك أن المؤسسات الدينية في مصر لعبت دوراً إيجابياً في مجمله في الماضي في الحفاظ على الشخصية الثقافية المصرية بل وتطويرها. فالأزهر حافظ على الطابع الوسطي للإسلام المصري إلى أن تغلغل فيروس الهوس الديني المستورد في المجتمع ككل والأزهر جزء من هذا المجتمع. كما نذكر أن حركة التنوير والتطوير خرجت من رحم الأزهر في بدايات القرن التاسع عشر، علاوة على وقوف الأزهر كجزء قيادي لا يتجزأ، من حركات المقاومة والاحتجاج بل والثورة. والكنيسة المصرية أيضاً لعبت دوراً إيجابياً في الحفاظ على اللغة المصرية والتقاليد المصرية القديمة التي تربطنا بالأجداد وتجعلنا نتواصل مع شخصيتنا القومية تاريخياً. ولكن مع ظهور الدولة الحديثة، كان من المفترض أن يتطور دور الأزهر والكنيسة ليتناسب مع تحديات العصر ومتغيراته، حيث أصبح التخصص هو سمة الحياة العصرية، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. ولكن المؤسستين بدلاً من أن يفسحا المجال لمؤسسات الدولة المدنية ويشجعان على التطور الديمقراطي وانتخاب مجالس وبرلمانات ومسئولين مدنيين، نجد أن الحرص على عدم فقدان سلطة دنيوية جعل المؤسسة تقوم بدور هو خليط من مؤسسة دينية وسلطة حكم أو دور دولة ذات سيادة – داخل الدولة الرسمية.



فانقلب الدور الإيجابي إلى سلبي بسبب عدم مواكبة هذه التطورات، ولا شك أن لتلك المؤسسات الدينية اليوم دوراً سلبياً في التمييز الديني، ونحن هنا نتحدث عن كل من المؤسسة الإسلامية والكنيسة الأرثوذكسية. فالأولى تنهال علينا بسيول من الفتاوى التي لا يقبلها عقل ولا منطق، والثانية تصر على انتزاع الحقوق المدنية من المواطنين المسيحيين، فدمجت مثلاً الزواج بشقيه القانوني والروحي في حزمة واحدة، رغم أن الطبيعي أن تترك الشق القانوني للدولة المدنية، وتتحكم هي في الشق الروحي كما تشاء. ولا ننسى بالطبع جلسات الإرشاد، وقضايا الحسبة، والتعامل مع المسائل الدينية وكأنها ملف أمني في الأساس.



الإخوان المسلمين وإخوان الصليب

ومن أجل الحفاظ على السلطة الدنيوية، يجتهد زعماء الحركات السياسية التي تستخدم الدين، في تعريف الدولة من خلال قالب ديني، لأنهم يعلمون أن استخدام التعريف العصري المتفق عليه للدولة الحديثة، يقلص من سلطاتهم لتنحصر في المجال الروحي، فتضيع سلطاتهم الدنيوية والسياسية، فنجد الإخوان المسلمين مثلاً يعرفون الأمة بأنها الأمة الإسلامية، ويعرفون الهوية المصرية باعتبارها جزء من الهوية الإسلامية، في برنامجهم الذي أعلنوا عنه عام 2007. وقد جاء في سياق هذا البرنامج فكرة "المجلس الملي" أو "هيئة كبار علماء الدين" (صفحة 10)، المنوط به "تطبيق الشريعة الإسلامية" الذي أعطاه البرنامج سلطات فوق - دستورية، باعتباره مجلساً يحتكر تفسير الإرادة الإلهية، بمثابة الصدمة للمراقبين، الذين رأوا في المجلس تكريساً للدولة الدينية وولاية الفقيه، إلا أن هذه الصدمة، حجبت أموراً فنية جوهرية في البرنامج، وهي أمور أراها أخطر بكثير، وتعد بمثابة إعلان حرب على "الهوية المصرية" نفسها.



ورغم أن البرنامج تحدث عن "دولة تقوم على مبدأ المواطنة"، تساوي بين كل المواطنين "في صفحة 12 و 26، إلا أن البرنامج عاد وأعلن أن "الهوية الإسلامية" هي أساس العقد الاجتماعي، والعلاقات الخارجية، والبناء الثقافي، في صفحة (18، 28، 32، 113، 114)، بينما لم يأت أي ذكر "للهوية المصرية" ولا مرة واحدة في البرنامج المكون من 128 صفحة.



وهنا يبرز تناقض واضح، كيف تقوم دولة مصرية على مبدأ المواطنة كما يدعي البرنامج، بينما هي لا ترى أن مصر لها هوية أصلاً، وتصر على أن الهوية الإسلامية هي الأساس التعاقدي للمجتمع؟ كيف تكون الهوية الدينية هي أساس العقد الاجتماعي في الدولة، التي يفترض فيها ألا تفرق بين مواطن وآخر على أساس الدين؟ إن الدولة الوحيدة في العالم تقريباً التي تركز على الدين كأساس للمواطنة هي إسرائيل، بالطبع إلى جانب الدولة التي يدعو لها هذا البرنامج.



ويتضح في البرنامج الهدف الرئيسي من الحرب على الهوية المصرية ممن يضعون لهم شعاراً "طظ في مصر"، حينما يدعو إلى "دولة تحقق وحدة الأمة الإسلامية" (صفحة 15 و 16 و 27 و 32) وهي في الواقع دولة الخلافة الإسلامية التي أعلن الشيخ على عبد الرازق منذ ثمانين عاماً أنها سبب تخلف الدول الإسلامية كلها، في كتابه التاريخي، الإسلام وأصول الحكم. واليوم يعلن علينا الإخوان أن مسح الهوية المصرية هو السبيل لتحقيق الوحدة، رغم أننا رأينا كيف استطاعت دول أوروبا أن تتحد، مع الاحتفاظ بالهوية القومية والحضارية لكل شعب واحترامها، وفي تصورنا أن التحالف أو الاتحاد مع الدول الأخرى لابد أن يأخذ في الاعتبار المصلحة الوطنية والعوامل المختلفة للهوية وليس الدين فقط.



وفي نفس الوقت يخرج علينا "إخوان الصليب" ليقولوا لنا أن المصريين الذين دخلوا في الإسلام قد تنازلوا عن هويتهم المصرية. ولا يفوتني أن أقول أن عدداً ضخماً من "إخوان الصليب"، يتشدقون بالعلمانية، ظناً منهم أن العلمانية هي سب الإسلام، ولكن عند بحث القضايا المفصلية، تجدهم يأخذون جانب المرجعية الدينية على طول الخط، تماماً مثلما يتشدق الإخوان المسلمون بفكرة المواطنة، ثم يعودون ويعرفون الوطن على أساس أنه دار الإسلام والأمة الإسلامية، وبالتالي فغير المسلمين هم أهل الذمة مواطنون من الدرجة الثانية على أفضل تقدير.



والهوية المصرية لا تتعارض مع الهوية الإسلامية أو المسيحية، وأحيانا قد يقع بعضنا في حيرة ترتيب أولويات الانتماء، فالبعض يقول أنا مصري أولاً والآخر يقول أنا مسلم أو مسيحي أولاً، وفي رأيي هذا به خلط للأوراق، فتعدد الانتماءات في كل شخص شيء طبيعي، ولكن يجب أن نبحث عن موضوع النقاش حتى نحدد أي من الانتماءات له الأولوية في ذلك الموضوع، مثلاً أنا أهلاوي أولاً عندما يتعلق الموضوع بماتش كورة في الدوري المصري، ومصري أولاً عندما يتعلق الموضوع بشيء سياسي أو شيء يمس وضعي كمواطن في دولة اسمها مصر، أو أمر يمس أرض مصر أو حدودهأ، ومسلم أولاً أو مسيحي أولاً عندما يتعلق الموضوع بشيء ديني يمس علاقتي الشخصية بالخالق، وقد أكون مهندساً أولاً أو خبيراً في الإدارة أولاً عندما يتعلق الموضوع بشيء فني مهني أو إداري. فكوني مصرياً لن يجعلني أدلي برأي يخالف أصول المهنة أو المبادئ العلمية المتعارف عليها إذا سئلت للشهادة مثلاً في قضية حكومة مصر تكون أحد أطرافها. وأنا إنسان أولاً عندما يتعلق الموضوع بأمر يمس الإنسانية كلها مثلا حقوق الإنسان لا فرق فيها بين مصري وغير مصري، وهكذا، فتعدد الانتماءات بالطبع موجود، ولكن الأولوية تكون حسب الموضوع الذي نتحدث فيه. ودائرة المركز في دوائر الهوية، وهي الدائرة التي نشترك جميعاً في الانتماء لها كمصريين، هي دائرة انتمائنا لمصر، الوطن الأم، وأساس المواطنة بين كل المصريين، هو المساواة بيننا جميعاً كمصريين، لا فرق في ذلك بين مسلم أو مسيحي أو غير متدين، وهذا هو الحل لهذا الخلط الذي يتم بحسن نية من البعض أو بسوء نية من البعض الآخر.



إخواني المسلمين والمسيحيين يا من ترون أن الوطن هو الدين، أقول لكم: طرحكم يعني اغتيال الهوية المصرية، هوية الوطن الأم، لصالح هوية دينية رغم أن الدين لا يطلع عليه سوى الديان، أنتم تفتحون الباب واسعاً لاغتيال وحدة مصر، ربما بحسن نية. ندعوكم لمراجعة النفس، والنظر في تاريخنا الذاخر، ثم في المستقبل وكيف يمكن أن تستعيد مصر عبره مكانتها كدولة رائدة في العالم، لنرسم معاً صورة، لما نتمنى أن نرى مصر عليه، ثم دعونا نعود إلى الحاضر، لنعلن كلمتنا في كنه ومكونات هوية مصر، ونتمنى أن يكون الانتماء الديني قد ترك في قلوبكم مكاناً يتسع لهوية مصرية.



الدين ليس هو العدو

إلى من يرون أن الدين هو العدو ... إلى من يرون أن الإسلام هو العدو ... إلى من يرون أن المسيحية هي العدو ... أقول لهم، الدين يمكن أن يكون أقوى داعم في الدعوة للتسامح والإخاء، أما إذا خيرتم الناس بين الدين وبين ما تدعون إليه، لاختاروا الدين، وفي نفس الوقت، لا يوجد سبب لمثل هذه الخيارات المتعسفة، فيمكن لكل إنسان أن يحتفظ بعقيدته، وفي نفس الوقت يتعامل مع إخوانه في الوطن بمساواة كاملة وتسامح غير محدود. أقول لمن يحاولون افتعال معركة مع الدين، الديانات حمالة أوجه، يمكننا أن نجد فيها الآيات والتفسيرات التي تدعو للتسامح، "لكم دينكم ولي دين"، "لا إكراه في الدين"، "أحبوا أعداءكم"، "لست عليهم بمسيطر"، وهو ما يضع حدوداً بين الولاية الروحية والسلطة الدنيوية، فالسيطرة تدل على السلطة الدنيوية، تماماً مثل "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وهناك أيضاً آيات وأحاديث وقصص يمكن أن يجد فيها البعض ما يفسره في اتجاه الإقصاء، ويستخدمه في التحريض على الكراهية، بمفهوم "من ليس معي فهو ضدي"، أو "قد أتيت بسيف"، أو "وأعدوا لهم ..."، أو "وقاتلوهم ..."، إذا استخدم التفسير الحرفي دون أن ينظر لسياق الموضوع، والأهم، دون أن يستخدم المقياس الأصلي، وهو مقاصد الدين والقيم العليا التي يحض عليها. وعلى سبيل المثال يذكر البعض آيات مثل "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، باعتبارها تحض على العنف والإرهاب، بينما قد يفسرها البعض بأنها تدعو لتطوير قوة الردع التي تمنع الاعتداء وتضمن السلام، لإن إعداد القوة لتخويف العدو من مغبة العدوان هو توجه نحو السلام من منطلق القوة الدفاعية أو قوة الردع، فأي التفسيرين نريد ونستلهم؟ التفسير الذي يحاصر الأديان في خانة الإرهاب أم التفسير الذي يفتح الباب والقلب للسلام والإخاء؟ هل نريد أن نحاصر الأديان في التفاسير المتعصبة التي قد تحض على العنف وعدم قبول الآخر أم نسعى لتطوير الفكر الديني والتركيز على التفاسير والآيات التي تنشر المحبة والإخاء والقبول بالآخر؟


هل ندمغ الإسلام بالعنف لوجود حوادث إرهابية من مسلمين، أو بسبب توسع الإمبراطورية الإسلامية عن طريق الحروب، أو كنتيجة لوجود فترات من الاضطهاد الديني في عصور حكام مسلمين؟ وهل كان توسع الإمبراطوريات القديمة سوى عن طريق الحرب؟ هل ندمغ المسيحية بالعنف نتيجة لاضطهاد غير المسيحيين والأريوسيين وغيرهم بعدما تبنت الدولة الرومانية المسيحية كديانة رسمية للدولة، أو بسبب محاكم التفتيش في أسبانيا وإيطاليا وغيرها، أم نستلهم عظات المسيح المملوءة بالدعوة للحب والتسامح ونأخذ حوادث العنف باعتبارها أمثلة ودروساً لما يمكن أن يحدث إذا شجعنا التوجه المتعصب لأي دين؟

المعركة ليست ضد الدين، وإنما ضد الكراهية والتعصب باسم الدين، والاقصاء باسم الدين، والشيطنة والتكفير والقتل باسم الدين. المعركة هي تطوير الفكر والفهم الديني ليتناسب مع متغيرات الحياة، وفي نفس الوقت مع الحفاظ على القيم والمقاصد، وليس النصوص والتفاسير الجامدة. فالدين إذن مثل البوصلة التي ترشدنا للاتجاه، وليس كالوتد الذي يثبتنا في الأرض فنتوقف عن المسير، أو ننكفئ على وجوهنا بفعل التباين بين طبيعة الزمن الذي يتحرك للأمام، وأحكام الشيوخ أو الآباء الذين يريدوننا أن نتشبث بذلك الوتد الذي لا يعرفون غيره.



الخلاصة

إن الأساس في مناهضة التمييز، هو التطور الثقافي والحضاري، بما يشمله هذا من تطوير منظومة القيم والمعاملات والتشريعات، أما التركيز على التشريعات فقط فهو أمر محكوم عليه بالفشل وقد يؤدي لنتائج عكسية. وفي نفس الوقت، من يحاولون افتعال معارك وهمية مع الدين – أي دين – فهم يضربون المواطنة والدولة المدنية في مقتل، ويعملون لصالح دعاة الدولة الدينية. بل يجب علينا أن نساهم في تطوير الفكر الديني والتركيز على قيم الحب والتسامح وليس استعراض التفاسير الشاذة أو معايرة أصحاب الديانات بالفتاوى المشينة.



والتطور الحضاري أساسه النتاج الفكري، ثم بث هذا النتاج من خلال منظومات الثقافة والإعلام والتعليم، إلى أن نرى القيم الحضارية تتجلى في السلوكيات والمعاملات بل والطبائع والعادات الشخصية والاجتماعية، وعندها تتنامي قوة المناعة الحضارية، للقضاء على فيروس التطرف والهوس الديني. وفي نفس الوقت، فإن التطور الديمقراطي وتحقيق المواطنة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تدفع بالدولة الرسمية لتحل محل الدويلات الموازية التي اقتنصت ولاء المواطنين منها، حتى تصبح المواطنة والولاء والانتماء الأول هو للوطن، وليس لجيتو ديني.


My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook