Saturday, August 30, 2014

مصر 2030 - المقالات اللي مسحها جرنان التحرير


رؤية مصرية
مـصـر 2030 (1)
وائل نوارة

هذه المقالات نشرت في جريدة التحرير في شهر سبتمبر 2012 - يعني أيام حكم مرسي والإخوان الله لا يرجعها أيام ....  وفجأة تم مسح المقالات واختفت من على وجه البسيطة ... فرأيت إعادة نشرها



في يناير عام 2000، بدأنا ومجموعة من الزملاء في صياغة رؤية 2020 لمصر. وكان منطلق تلك الرؤية أن مصر غنية، ولكنها غنية بثروات مهدرة، وأن السبب الرئيسي في هذا الإهدار وما نتج عنه من فقر وتخلف كنا نعاني منه وقتها – وإلى الآن – هو غياب الرؤية، وبالتالي عدم وجود إرادة مجتمعية لتحقيق تلك الرؤية – الغائبة – وغياب الإدارة الرشيدة التي تستطيع أن تأخذنا من الوضع الذي نحن فيه للوضع المأمول – نتيجة لأننا ليس لدينا فكرة واضحة عن المكان الذي نريد أن نصل إليه – بل أكاد اقول أننا لا نعلم بالتحديد أين نقف الآن – ليس فقط نتيجة لغياب الإحصائيات والمعلومات الدقيقة، واعتذار المؤشرات والتحليلات الملهمة، لكن أيضاً وهو الأهم، نتيجة لحالة من التوهان الحضاري تجعلنا لا نعلم من نحن.

عندما تقابل درويشاً مذهولاً في طريقك، ربما لا تلتفت إليه كثيراً، لكن بالتنقيب وراء ذلك الشخص الذاهل عن الواقع، قد تكون هناك أسرة كريمة ذات حسب ونسب، وأم ملتاعة دامعة، وأبناء مشتاقين لرجوع أبيهم، ومكانة محترمة وعلم راسخ ومهارات فريدة، وثروة صنعها فيما مضى من الزمان حين كان بكامل وعيه. أي رفعة وسمو ورقي غابر، تشهد عليهم المعابد والقصور التي شيدها، والأهرامات والمقابر التي سجل فيها حضارته وتقدم أجداده، نقوش وتماثيل وتقاويم ومسلات وصروح مشيدة، وتطبيب وهندسة ومعمار وشبكات ري ممهدة، كل هذه الأشياء لا يمكن إنكارها، فما الذي حدث لذلك الدرويش الطيب، وكيف فقد وعيه وذاكرته فهام على وجهه تائها بين الأمم؟ كيف فقد الذاكرة، أم أن الذاكرة موجودة – بل محفورة على تلك الجدران التي يتطلع إليها أحياناً، لكنه لا يعلم إن كانت تخصه أم هو من الغرباء الذين وفدوا حديثا مع من وفد على تلك الأرض الطيبة؟ ينظر ذاهلاً إلى جدران تلك الصروح العظيمة، ويتلقف شاكراً دراهم وحسنات الزوار القادمين من بعيد في خضم كرم انبهارهم بعظمة أجداده، ويسرع ليشتري رغيفا مستورداً يقيم به أوده بعد طول جوع مقيم.

قال الواعظ أنه كان رجل سوء في غابر الزمان، وأن أجداده كانوا كفاراً ظالمين، وأن الله قد من عليه بالنسيان، حتى يتخلص من تلك الذنوب القديمة، وعليه أن يبتعد عن كل ما يذكره بهويته الأولى، حتى لا يلحق به غضب الإله المنتقم الجبار. وهكذا ومع مرور الزمن تآكلت تدريجياً خيوط الحبل الذي ربطه بهويته الحقيقية خيطاً بعد خيط، حتى أصبح اليوم كما تراه، درويشاً هائما على وجهه مشعث اللحية أسود الجبهة، يتعيش على صدقات المحسنين، وربما تذكر بعض المارة سابق فضله وتوقفوا عنده يحاولون أن ينتشلوه من عثرته المؤقتة، فيستقبلهم ببشاشته المعهودة التي تعيد لهم الأمل في شفائه وإنقاذه، وما يلبث أن يبدأ في الهوس بترديد حديث الكهان وأسلافهم الماكرين، وتهديداتهم لكل من يخالفهم بأنه موصوم بالكفر مدان، وعليه سيحل الغضب المقيم، ويزيد على ذلك فيشرع في الهذيان المحموم، وتنتابه حالة من الصرع ورجفات لا إرادية عنيفة تؤذي القريبين، فيهز الأصدقاء القدامى رأسهم ويبتعدون آسفين، يائسين من شفاء الدرويش المسكين.


لابد أن نبدأ إذن بالاستيقاظ من غيبوبتنا الحضارية، ونعلم جيداً من نحن، ونعترف بأصولنا كلها على تنوعها، حتى نستطيع أن نعرف أين نقف، وما هي منابعنا الثقافية، حتى نرى النهر الحضاري الذي نستطيع أن نبحر فيه لآفاق المستقبل. يلي ذلك أن نعلم، أن مصر قدرها أن تكون رائدة وقائدة لحيها، ولا يستقيم ذلك مع أن تكون تابعة لجزيرة أو إمارة أو طائفة أو جماعة، وأن تلك القيادة لا تتحقق إلا من خلال التصرف والتعامل بشخصيتنا الحقيقية، وفقاً لقيمنا الحضارية الأصيلة، التي قد لا يرضاها كهان الغبرة. ثم نبحث في مصادر ثروتنا وتفردنا. فنجد أولاً أن مصر موقعها العبقري يضعها في سرة العالم، وكأنها ميدان التحرير نفسه من القاهرة، تتلاقى في رحابها مسالك الشرق والغرب، ودروب الشمال والجنوب، وندرك أنه كما للموقع مزاياه المادية واللوجيستية، فهو يأتي مع تحدياته الحضارية، ويفرض التزامات أخلاقية وسلوكية، تجسدها الشخصية المصرية الأصيلة، في تسامحها وجنوحها للسلام والصداقة والانفتاح على كل عابر، بثقة الشجرة المتجذرة الأصيلة الراسخة التي لا يضيرها أن يستظل العابرون بأوراقها، وفي نفس الوقت امتلاك القوة الفائقة على محاورها المختلفة، التي تتناسب مع الأهمية الاستراتيجية الفائقة أيضاً لذلك الموقع. وعندما نقول القوة، فنحن نعني القوة الحامية الرادعة، التي تتوازن فيها القدرة العسكرية الدفاعية، مع مكونات القوة الناعمة - من مصالح مغزولة جيداً بضفائر اقتصادية وسياسية وثقافية وروحية واجتماعية مع الأمم والقوى الإقليمية والدولية، وإعلام مبدع مؤثر، يبث جوهر وروح الحضارة المصرية ويكتسب المؤيدين والأصدقاء بل والعشاق لمصر التي تستحق العشق، وأزهر يعود كمنارة لنشر الرؤية المصرية للإسلام الوسطي السمح الذي أحبه العالم، وكنيسة مصرية رائدة تشع الحب والإخاء، وجامعات وشركات ومنظمات أهلية، والمصريين أنفسهم الذين يساهمون في بناء الحضارة في الدول التي تستضيفهم، ويعملون كسفراء يقدمون المثل في تحضرهم عن مصر وحضارتها وشعبها، ويتوازن هذا كله مع علاقات دبلوماسية واتفاقيات سياسية واقتصادية تجسد الصداقة والمصالح المشتركة بيننا وبين العالم كله. لا تسلني أين كل هذا من اقتحام السفارات وخطاب التكفير والكراهية، بل سل الكهان الذين أتى من قبل ذكرهم. الخطوات التالية، هي تحديد باقي مميزاتنا الحضارية، وكيف نصنع حواراً مجتمعياً، تتمخض عنه الرؤية المأمولة، بحيث تخرج من رحم الأمة المصرية، لتحظى بالتوافق اللازم، وهذا حديث نتمنى أن نستكمله - نحن وغيرنا - في لقاءات قادمة بإذن الله. 

رؤية مصرية
مـصـر 2030 (2)
وائل نوارة

في 29 أغسطس عام 1897، اجتمع 197 شخصاً من قادة الحركة الصهيونية العالمية في بازل، ليعقدوا المؤتمر الصهيوني الأول. وجاءت توصيات ذلك المؤتمر بأهداف طموحة ومحددة، قام عليها "المشروع الصهيوني"، كان أهمها العمل على قيام وطن قومي لليهود في خلال خمسين عاماً، لوضع حد لاضطهاد اليهود في روسيا وأوروبا. وبعد المؤتمر كتب تيودور هرتزل: "في بازل، أسستُ (أي هرتزل) الدولة اليهودية". وفي 29 نوفمبر من عام 1947، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين لدولتين، دولة عربية، وأخرى يهودية، وفي 15 مايو 1948، أي بعد 51 عاماً من المؤتمر الصهيوني الأول، قامت دولة إسرائيل. كيف جاء هذا النجاح المذهل؟ دولة تنشأ من العدم في نصف قرن من مجرد إعلان تلك الفكرة الطموحة، على حساب السكان العرب الأصليين، لتصبح "فلسطين" أثراً بعد عين، فيطرد أهلها، ويصبحون لاجئين تتقاذفهم الأقدار؟

 في السنوات والعقود التي تلت المؤتمر الصهيوني الأول، عمل قادة المشروع الصهيوني في عدة محاور. ورغم وفاة هيرتزل في 1904، فقد استمرت الجهود الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان، وهو كيميائي روسي المولد. ومن المثير أن وايزمان اكتشف تقنية لاستنباط الأسيتون الصناعي، وكان لهذا الاكتشاف دور هام في قيام دولة إسرائيل. فأثناء الحرب العالمية الأولى، ساعد وايزمان البريطانيين على تصنيع بارود المدافع بكميات ضخمة، باعتبار الأسيتون هو المكون الرئيسي لمادة الكرودايت، مما جعل البريطانيين يدعمون الطموحات الصهيونية، وحسب تعبير اللورد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا "لقد اعتنقت الصهيونية على يد الأسيتون!". وجاء وعد بلفور في 2 نوفمبر من عام 1917، في خطاب إلى اللورد روتشيلد، يؤكد "أن حكومة جلالة الملك، تنظر بعين العطف للطموحات اليهودية بإقامة وطن قومي لليهود (وليس دولة) في فلسطين، على ألا يخل ذلك بحقوق السكان الأصليين". وقد جاءت قرارات مؤتمر سان ريمو وعصبة الأمم عام 1920 لتضع فلسطين والأردن تحت الانتداب البريطاني، وتؤكد وعد بلفور بإنشاء "وطن قومي" لليهود في فلسطين.

لماذا أذكر هذه القصة عن إسرائيل – رغم أننا نتحدث عن مصر 2030؟ ربما نرى أن هذا الحلم غير أخلاقي وغير مشروع لأنه يقوم على شقاء الآخرين، لكن هذه لا ينفي قوة الحلم تأثيراً في القلوب والعقول، وقدرة الرؤية على النفاذ من سحب وغيوم وعشوائيات الواقع، لترى بجلاء آفاق المستقبل. هذه القصة أيضاً توضح باختصار، أن الرؤية ليست مجرد مانشيتات وفرقعات إعلامية، أو خطب حماسية رنانة في مؤتمر، تتبخر وتتلاشى بإطفاء الأنوار وسكون الميكروفونات، وهنا تبرز أهمية وجود المشروع القومي، ليكون جسداً تعيش فيه الرؤية على أرض الواقع، جسداً تتقمصه الرؤية وتنمو معه إلى أن تتمدد فتملأ الفراغ الأيديولوجي والعاطفي، بثقافة وطريقة حياة يتبناها المجتمع، تتيح لهذه الرؤية أن تكون المرجعية في كل قرار سياسي واقتصادي، تعليمي وإعلامي، زراعي وصناعي، شخصي أو جماعي.

من الناحية الأخرى، هل إسرائيل اليوم – وهي دولة دينية بامتياز - دولة ناجحة، تصلح نموذجاً نقتدي به فنقوم نحن أيضاً بإنشاء دولة دينية مقابلة؟ أدعي أن الجواب هو النفي، إسرائيل رغم تقدمها الاقتصادي وتفوقها العسكري، لديها أزمة جوهرية في أساس وجودها الذي يقوم فقط على الديانة اليهودية، في أرض سكانها الأصليون من ديانات متعددة. كان من الممكن قيام دولة ديمقراطية ناجحة تقوم على المساواة بين المواطنين اليهود وغير اليهود، وترتكز على العدالة بين السكان الأصليين وترحب ببعض الوافدين دون أن يأتي هذا على حساب أصحاب الأرض. فليس من الممكن قيام ديمقراطية في دولة تميز بين مواطنيها على أساس الدين. وليس من الممكن أن تنعم دولة بالسلام والاستمرارية، إذا ما هي اعتمدت على استيراد أو تمكين مواطنين من ديانة ما، وتطفيش أصحاب الديانات الأخرى، أو شرعت لبعض مواطنيها من دين ما - اغتصاب أراضي وحقوق الباقين، أو الاعتداء على أصحاب الديانات الأخرى، والنجاة من العقاب بعد جلسة عرفية لتقبيل اللحى.

إذن ما هي شروط الحلم والرؤية الناجحة؟ وكيف نفرق بين الأحلام المشروعة والرؤى القومية من ناحية، وبين أضغاث الأحلام النرجسية التي يبتغي من خلالها فرد الزعامة وتنتهي عادة بكوابيس مروعة – من الناحية الأخرى؟ أو بين الرؤى  القومية التي تنبع من طبيعة الأرض والشعب، وبين شبق جماعة شوفونية أو عنصرية تستورد المذاهب المتطرفة، وتسعى للهيمنة والوصول للسلطة والجاه والمال، ولو على حساب تدمير الأساس الجيني لنسيج المجتمع؟

أدعي أن الأحلام القومية الناجحة في عصرنا هذا، تسعى في جوهرها لتحرير وتمكين الإنسان كأساس لتقدم المجتمع ليشارك ذلك المجتمع ككل في تقدم الإنسانية. أما الكوابيس العنصرية، فتقوم على دغدغة مشاعر الجماهير بفكرة تفوق دين أو عرق ما، وتسعى لتمكين زعيم مستبد أو جماعة فاشية، بدعوى أن الزعيم هو "أبو الأمة"، أو أن الأمة "مختارة"، أو أن الجماعة "ربانية" مكلفة بتنقية البلاد من الرجس، باستخدام ماء السماء الطهور الذي تنفرد به، لتغسل به نجاسات المجتمع وآثامه – والمقصود طبعاً هو الحصول على تفويض من الشعب بعد غسيل مخه، يستطيع به النظام الفاشي أن يمحي الاختلافات ويبيد المعارضة، بينما يقوم باختلاس إرادة الشعب وتجميعها في قبضة نظام سلطوي يتحكم في كل شيء في المجتمع، لشل قدرته على التغيير، حمايةً لنظام الاستبداد. يتم كل هذا تحت دعاوى دينية أو عرقية، تقصي شركاء الوطن من تعريف الأمة القومية بحجة أن الهوية الأساسية للوطن يجسدها دين أو عرق، يشطر العالم إلى جزئين – معنا وعلينا – يقسمه إلى جزء صالح طيب معنا – وجزء خبيث شرير أو كافر ضدنا، بحجة أننا مكلفون من الرب بنشر هذا الدين أو ذاك، وتحقيق الهيمنة العالمية، أو أستاذية العالم، وغيرها من ترهات عفا عليها الزمن، ولم تعد تناسب العالم الجديد.


استعادة التوازن
وائل نوارة

مصر 2030 (3):
تعتبر مصر هي الحضارة الوحيدة في العالم التي استطاعت أن تستمر على مدى أكثر من 5000 عام، متحدية التقلبات السياسية والاقتصادية والدينية والبيئية، بفضل وجود دورة طبيعية مستقرة إلى حد كبير لنهر النيل، تواءم معها المصريين واحترموها وطوروها دون أن يخلوا بتوازنها الطبيعي أساساً، فأقاموا عليها حضارتهم الزراعية، وفصَّلوا على دورة النهر مواسم الغرس والقلع والحصاد، وتقويم قياس الزمن، والمواسم الدينية والاجتماعية، والقصص والأساطير والعبر الأخلاقية والروحية، ووحدات قياس منسوب المياه ومساحة الأرض وحجم المحصول، والعلوم والتقنيات والنظم والأسواق والمباني والصوامع المرتبطة بهذا كله والمكملة له. وأضاف المصريون على المجرى الرئيسي شبكة فعالة متعددة المستويات من الترع والقنوات والمساقي على هامش النيل في الوادي والدلتا، دون أن يغيروا في دورة النهر الطبيعية نفسها. ولعل الأسلوب المبني على المشاهدة والمعايشة والتجربة الطويلة للطبيعة، الذي احترم تجليات هذه الطبيعة وما حفرته في الأرض والإنسان عبر الزمن بقرونه وألفياته الطوال، هو السر وراء صمود حضارة المصريين الزراعية في دولتهم الموازية لكل دولة أو سلطان. تتابعت الأسر الملكية عبر ثلاثة أو أربعة آلاف عاما على الأقل، ثم تعاقب الغزاة الأجانب وتغير الحكام والسلاطين والولاة المستبدين غلاظ القلوب، وضربت الأوبئة والأمراض والطواعين واللعنات ضرباتها القاسية، وظلت مصر كما هي. قد يقول قائل بقيت مصر تتحدى الزمن – ولكنني أقول – بقيت مصر تحترم الزمن والطبيعة والتوازن الذي هو قانون هذه الطبيعة، وتشتق منهم حكمتها وفلسفتها المصرية الخالصة، التي أطلقت عليها في فجر التاريخ نظام "ماعـت".

وخلال القرنين الماضيين، تعاقب على مصر حكام طموحين، أرادوا أن تحذو مصر حذو باقي دول العالم في سباق "المدنية"، وبدأوا يخرجون على الأساليب القديمة، ويغيرون في طبيعة دورة النهر وطريقة الحياة، والعادات والتقاليد المصرية القديمة، وحتى المعاصرة لم تنج من هجوم ماكر، حينما جاء آخرون متخمين بريالات نفطية، وبدأوا يحاولون أن يتلاعبوا في الجينات الثقافية المصرية، بفيروسات عدة يستنشقها المصريون إجباراً في الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية وقنوات التكفير الفضائية! وليس هدفنا هنا أن نشير بأصابع اللوم أو نطلق الأحكام على أي شخص أو جماعة، لكن لن نستطيع سوى أن نلاحظ بعض المشاهدات، التي تشير إلى حدوث خلل جسيم في طريقة الحياة المصرية، بدأ يظهر بوضوح خلال الأربعين عاماً الماضية، حيث بدأنا لأول مرة نسمع عن أزمات ومواجهات طائفية في السبعينيات، واليوم لا يمر إسبوع إلا وهناك حادث طائفي يضرب نسيج الأمة المصرية التي وحدها النهر منذ آلاف السنين.

في نفس الفترة، تضاعف عدد السكان في مصر 3 مرات، من حوالي 33 مليون عام 1970 – إلى ما يقرب من 89 مليون هذا العام. في نفس الوقت، بقيت حصة مصر من مياه النهر كما هي – بل استجدت عليها مخاطر ونزاعات مع أثيوبيا، منبع النيل الأزرق الذي يشكل الجزء الأعظم من موارد النيل المائية. أما مساحة الأرض المزروعة، فزادت بنسبة حوالي 50% من 6 مليون فدان إلى حوالي 9 مليون فدان. واليوم نصيب الفرد في مصر من المياه يصل إلى حوالي 700 متر مكعب ونصيبه من الأرض المزروعة حوالي واحد على عشرة من الفدان بعد أن كان حوالي واحد على خمسة من الفدان عام 1970!

إذا أخذنا قرية متوسطة من قرى مصر،  كان عدد سكانها عام 1970، حوالي ثلاثة آلاف نسمة، اليوم عدد سكانها رغم نزوح الآلاف للمدن حوالي 7000 نسمة. القرية زحف كردون البناء فيها قليلاً وتغول على الأرض الزراعية، رغم قوانين حظر البناء عليها، لكن في النهاية، البيوت القديمة تم تقسيمها عدة مرات على أبناء ثم أحفاد الأسرة الواحدة، والمنزل الذي كان يحتضن أسرة كريمة، يضم اليوم ثلاث أسر زحيمة. ارتفعت المباني العشوائية بطوب أحمر وعواميد أسمنتية قبيحة، وأسياخ ممدودة تنتظر الفرج أو تستعد لحمل أدوار إضافية لتتسع لمزيد من الأبناء والأحفاد. الأسرة التي كانت تمتلك قطعة أرض مساحتها 5 فدادين، تفتت قطعة الأرض على 4 أبناء ثم 10 أحفاد فأصبح نصيب كل فرد عدة قراريط، غالباً يبيعها أو يبني عليها. هناك مؤامرة دولية على الزراعة التقليدية والمواد الخام في العالم، تجعل من المستحيل تحقيق أي عائد تجاري من مزرعة تقل مساحتها عن آلاف الأفدنة وتستخدم الآلات الزراعية بكثافة. أما الزراعة التقليدية، فإنتاجية الفدان لا تزيد عن ألفي جنيها في أفضل الظروف. عبر 50 سنة، شبكة الطرق في الدلتا زادت بنسبة حوالي 50% رغم أن عدد السكان تضاعف 3 مرات ونصف وعدد السيارات تضاعف عشرات المرات، وبالتالي اختنقت شرايين الدلتا واختنقت فرص التنمية الصناعية والخدمية فيها. مع اغتيال الفرصة الاقتصادية في الزراعة وانغماس المجتمع في تقديس الموظف الحكومي والمكتبي، وتكدس الجامعات الإقليمية بطلاب وخريجين لدراسات لا يحتاجها سوق العمل، هاجر الملايين للمدينة، واضطروا لأن يعيشوا على أطرافها في "مخيمات" العشوائيات التي تمددت لتحيط بحزام سميك حول كل مدينة في مصر.

الأحياء المتوسطة أو حتى "الراقية" حيث سعر الشقة يتجاوز المليون جنيه، عبارة عن امتداد للعشوائيات. غابات أسمنتية. عمارات متوسط ارتفاعها 10 أو 12 دور رغم أن تصميم المنطقة ومرافقها كان مخططاً له ألا تزيد ارتفاعات المباني فيها عن 4 أو 5 أدوار. نصيبنا من الغاز لم يعد يكفي احتياجاتنا وبدأنا نشتري نصيب الشريك الأجنبي دون أن نسدد له، فبدأ يمتنع عن التوريد. في وسط 90 مليون، أكيد هناك ملايين من المحظوظين يعملون في مؤسسات أجنبية أو بنوك أو شركات خاصة في الداخل أو الخارج، قدرة شرائية واستهلاك ما شاء الله، سيارات وتكييفات وموبايلات وضغط على الأسواق وعلى الطاقة وترتفع الأسعار فتزداد معاناة الشخص العادي، كما تزداد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك فيتم قطع الكهرباء عن المناطق السكنية في ورديات تبادلية.
بعد كل هذا الحديث المؤسف، هل تشعر باختناق وجلطة في الشرايين؟ هذا بالضبط ما تعاني منه مصر اليوم. شرايين وطرق ومدن ضيقة أو مسدودة، وبالتالي سريان القيمة المضافة والفرصة الاقتصادية مخنوق. الناس على بعضها لا يتزاحمون فقط على مكان في طابور الخبز أو البوتجاز أو المدرسة أو الجامعة أو سوق العمل أو الشارع، لكنهم فعليا يتزاحمون على موطئ قدم في الوادي المكتظ والدلتا المخنوقة.

السكان في الأصل ثروة بشرية لمصر. المشكلة إذن لا تكمن في زيادة السكان، بل في افتقاد التوازن بين حجم بعض الأسر ودخلها، وبين ازدحام مناطق بعينها بالسكان، أو تكدس السكان في قرى مكتظة ومناطق عشوائية تفتقر إلى الخدمات الأساسية التي تسمح بالحياة الكريمة، بينما هناك ظهير صحراوي بطول الوادي وعلى جانبي الدلتا، علاوة على وديان بديلة قديمة وحديثة، ومناطق شاسعة يمكن إقامة المجتمعات العمرانية عليها بصورة حضارية متكاملة. المشكلة هي في انعدام الرؤية وانسداد شرايين الإبداع والفكر والإنتاج والعمل في مصر، مع انفصام قومي بين التعليم والأسواق، واجتهاد الدولة في خنق الفرص الاقتصادية بصور متعددة. كيف نستعيد التوازن؟



No comments:

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook