تداولت الأخبار خروج حركة شعبية تحت مسمى "كمل جميلك" ، تهدف لتعبئة الرأي العام للضغط على الفريق السيسي للترشح لرئاسة الجمهورية. وكالعادة ابتسم الخبثاء باعتبار أن مثل هذه الخطة متوقعة، أن يتظاهر الفريق السيسي بالعزوف عن رئاسة الجمهورية، بينما تجهز المخابرات أو الأجهزة الأمنية مثل هذه الضغوط الشعبية والإعلامية، "ويضطر" الفريق السيسي في النهاية للترشح من أجل أن يبدو الأمر عفوياً، رغم أنه مدبر في الأساس.
والمتحمسون لترشح وزير الدفاع للرئاسة، يرون أن مصر تحتاج الآن لقائد قوي، يستطيع أن يلهم الشعب ويستنهض الهمم، ويوجه المؤسسات وينسق الجهود، من أجل أن تقوم البلاد من عثرتها، ويستعيد هيبة الدولة بحزم، ويدفع بالسياسات المطلوبة حتى لو حملت بعض المعاناة، معتمداً على التأييد الشعبي، ويستشهدون بما حدث بعد ثورة 30 يونيو، حيث تقبل المصريون مثلاً حظر التجوال والتزموا به طواعية كما لم يفعلوا من زمن، على الرغم من العواقب السلبية على اقتصاد اعتمد دائما على التسوق المسائي، مع أن المصريين ثاروا من قبل لمجرد مناقشة الحكومة لفكرة فرض مواعيد غلق المحال التجارية التاسعة مساء ، بينما عاصمة البلاد ومدنها الرئيسية لا تنام وتكاد تعمل على مدار ال 24 ساعة! كما يرى بعض المحللين أن وجود السيسي ضروري بل وطبيعي، فالبلاد لم تعرف سوى حكم العسكريين منذ قيام ثورة 1952، ومؤخرا فقط برز التيار الديني متمثلاً في الإخوان، ومن ثم لابد في هذه اللحظة من وجهة نظرهم، أن يتصدى قائد عسكري مثل السيسي لمحاولات الإخوان للعودة إلى صدارة المشهد السياسي، بكل ما يحمله هذا من مخاطر الارتداد إلى الخلف
وفي المقابل فإن معظم ثوار يناير يرون في هذه الاحتمالية عودة للحكم العسكري وانتكاسة خطيرة لثورة راح ضحيتها آلاف الشهداء، وتحمل مخاطر العودة للنظام الذي ثاروا عليه، وهو ما قد يكشف طبيعة الاختلاف بين ثوار يناير وبقية ثوار 30 يونيو. أما السيسي نفسه، فقد أعلن في مناسبات عديدة أن حكم مصر من منصب رئيس الجمهورية هو أمر خارج اهتماماته، وأن "حماية إرادة الشعب أعز وأغلى من حكم مصر"، وهو ما زاد مؤيديه حماسة وإصراراً على أنه هو الشخص المناسب. والواقع أن السيسي قد برز في لحظة تاريخية لا تتكرر كثيراً، كقائد شعبي قوي ومنقذ للبلاد وللمصريين، من أهوال الحكم الإخواني الديني الذي كاد يختطف البلاد بلا عودة، ودخلت معه مصر في بدايات صراع واقتتال أهلي يشبه بوادر الحرب الأهلية التي تشهدها بلدان محيطة مثل سوريا.
من الناحية السياسية، فما تحتاجه مصر الآن هو استكمال خريطة الطريق على وجه السرعة، للانتهاء من إعداد الدستور الجديد وإقراره، ثم إنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، واستعادة الحكم الديمقراطي دون إقصاء لأي طرف، ومن ثم تحسن الظروف الأمنية، واستعادة الحيوية للاقتصاد والنشاط السياحي والصناعي، ثم البدء في إصلاح الهياكل المهترئة للدولة، ووضع مصر على عتبة انطلاقة كبرى لتتحول مصر لدولة حديثة ومتقدمة. وهذا يستدعي وجود مؤسسة قوية ومحايدة، ليست طرفا في الصراع السياسي، تعمل بمثابة الضامن والمراقب لهذا المسار، وهذه المؤسسة في رأي معظم المصريين هي القوات المسلحة، التي يتعين عليها أن تقوم بهذا الدور عبر فترة انتقالية تالية، قد تطول لخمس أو عشر سنوات، ومن ثم فترشح الفريق السيسي للرئاسة سيخل بهذا الحياد وتصبح الرئاسة والقوات المسلحة كيان مدمج بإرادة واحدة، لا راد لأمرها، ولا رقيب عليها.
لقد أثبتت القوات المسلحة المصرية عزوفها عن تولي شئون الحكم في البلاد في لحظات ضعف شديد للدولة، كان الجيش قادر خلالها على الاستيلاء على السلطة دون مقاومة وبترحيب شعبي، مثلاً عقب انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير من عام 1977، وأحداث تمرد الأمن المركزي في فبراير 1986، ثم بعد ثورة يناير 2011، وفي المرات الثلاثة، اصرت القوات المسلحة على أن يقتصر دورها على استعادة الأمن الداخلي، ومن ثم العودة لثكناتها، تاركة الحكم للرئيس الشرعي للبلاد. وفي مجموعة مقابلات مع المرحوم المشير الجمسي، أحد أعظم قادة حرب أكتوبر 73 ووزير الحربية إبان انتفاضة الخبز في عام 1977، ذكر أنه اشترط على الرئيس السادات قبل أن يقبل بمنصب الوزارة، ألا يطلب الرئيس منه استخدام الجيش لقمع المصريين ، لأن الجيش على حد قوله كان قد استعاد مكانته في قلوب المصريين بعد حرب أكتوبر 73، ومسح بهذا عار هزيمة 67، وأن الجيش بعد 67 كان قد كون عقيدة راسخة، بضرورة الابتعاد عن السياسة والتفرغ لإعداد ورفع قدراته القتالية بصورة احترافية، من أجل تجنب ما حدث قبل 67 من فساد نتج عن تدخل الجيش في الحكم وسيطرته على معظم شئون الدولة، بما أدى إلى أسوأ هزيمة شهدتها مصر في تاريخها الحديث.
وبالتالي، ليس هناك قائد عسكري مهما علت شعبيته، يستطيع أن يغير هذه العقيدة لدى الجيش المصري، الذي يعمل كمؤسسة لها تقاليدها التي لا يستطيع أي عضو أن يزعزعها منفردا، وإلا قوبل بتمرد من القيادات العليا والوسطى، التي تستطيع إزاحته دون أدنى جهد إن هو حاد عن هذه العقيدة، وصرحت مصادر عسكرية بصورة شخصية أن القوات المسلحة قد أجرت استطلاع رأي واسع بين الضباط والجنود، كانت نتيجته توافق واسع يقترب من الإجماع يؤيد الوقوف في صف الشعب في 30 يونيو، لأن المواجهات المحتملة بعد مثل هذه الخطوة، لا يمكن أن تنجح إلا إذا اجتمعت إرادة أفراد الجيش حول قناعة كاملة، تسمح لهم بخوض مواجهات دموية ضد بعض أفراد الشعب، وهو أمر شديد الصعوبة نفسيا على أي جندي، إلا في وجود قناعة فكرية وعاطفية، بأن مثل هذه المواجهات حتمية لمنع خطر أكبر بكثير وفتنة تهدد الشعب والوطن.
لقد خرج بعض المقربين من الفريق السيسي وصرحوا بأنه طلب وقف الحملات الشعبية المطالبة بترشيحه لرئاسة الجمهورية، باعتبار أن قرار عدم الترشح هو قرار لن يتراجع عنه، وأنه يريد أن يدلل للمصريين وللعالم أجمع، بأن التحرك الذي قام به الجيش لم يكن كما صوره الغرب وبعض المعارضين في مصر رغبة في الاستيلاء على السلطة، بل كان من منطلق وطني لحماية هوية مصر وأمنها القومي وصونا لمصالحها العليا، والحيلولة دون انهيار الدولة وانزلاق البلاد للفوضى واتساع الاقتتال بين المصريين، وصولاً لحرب أهلية. وصرح عبد الله السناوي نقلاً عن السيسي، أنه لن يرشح نفسه للرئاسة حتى لو خرجت الملايين إلى الشوارع وأغلقتها لمدة أسبوع للضغط عليه
إن المصريين يعيشون أزمة ثقة كبيرة في مؤسسات الدولة، سواء نتيجة لفساد النظام السابق، وسقوط قيادات ورموز كثيرة في الدولة، أم التشكيك في كل المؤسسات بصورة هدامة، ولم يعد هناك شخص معروف يمكن تقديمه للشباب كقدوة أو كمثل أعلى يحتذى به، وهو ما يهز منظومة القيم نفسها ويشكك فيها، عندما يشيع إحساس عام بأن الكل فاسد، والجميع منافق أو مدع، وأن كل من يتحدث بشعارات وطنية، هو أول من لا يلتزم بتطبيقها على نفسه. وبينما أن النقد والمطالبة بالإصلاح هو أمر صحي ومطلوب وخاصة بعد ثورة عظيمة مثل 25 يناير، ولكن هذا يختلف عن دمغ كل المؤسسات بالخيانة، ومحاولات تصوير الجيش مثلاً بأنه جيش غير وطني، والهجوم عليه بصورة تهز من هيبته وهيبة الدولة ككل، والآن بيد السيسي فرصة لتصحيح هذه الصورة وإعادة الثقة لمؤسسات الدولة.
إن قرار السيسي عدم الترشح في رأينا هو قرار صائب يجب أن يتمسك به، لأنه يعيد بناء الثقة في مؤسسات الدولة، وقد يكسر هذه الحلقة المفرغة من التشكيك الذي يؤدي في ذاته للفساد أو على الأقل غياب الإنجاز والعمل، وانتشار حالة "الأيادي المرتعشة" التي لا تقدر على اتخاذ أي قرار مهما كان ضروريا لمصلحة البلاد، خوفا من أن يتهم المسئول فيما بعد بأنه اتخذ القرار لدوافع شخصية ومصلحة خاصة.
إن مصر اليوم قد لا تحتاج السيسي كرئيس، قدر ما يحتاج الشباب أن يستعيدوا الثقة مرة أخرى في وجود شخصيات وطنية تبدي مصلحة الوطن على مصالحها الشخصية. مصر لا تحتاج الجيش كحاكم، ولكنها في المرحلة الانتقالية التالية، تحتاجه كضامن قوي، يستطيع أن يدعم الشرعية والتحول الديمقراطي، ويستغل شعبيته ومصداقيته في حشد التأييد الشعبي للحكومات المنتخبة.
إن هذا يضع السيسي والجيش في وضع استثنائي لفترة قادمة، وربما لن يستطيع الرئيس القادم مباشرة أن يتصرف في الجيش كما يحلو له، أو يعزل قياداته دون تشاور مع قيادات الجيش نفسها، وهذا إن حدث لابد أن يكون وضعا مؤقتا ينتهي مع الوقت، ويمكن أن ننظر لنماذج تحول في بلدان أخرى مرت بنفس التجربة للاستفادة منها في هذه المرحلة، وقد يستدعي الأمر أن ينص الدستور صراحة على وضع استثنائي لفترة محددة، يقوم فيها الجيش بحماية الشرعية والدولة المدنية، مع قيام البرلمان والمحكمة الدستورية العليا مثلاً بتنظيم هذه الضمانات خلال الفترة الانتقالية الثالثة.
إن الرسالة التي نود توصيلها للسيسي هي "كمل جميلك، ولا تخضع لضغوط المطالبين بترشحك، فمصر تحتاج استعادة الثقة، أكثر من احتياجها لأي رئيس"
Read more: http://www.al-monitor.com/pulse/ar/contents/authors/wael-nawara.html#ixzz2fqYQQXNC