في الدولة الوسطى
لا شك أن الدولة الوسطى، قد شهدت نوعاً من أنواع الواقعية، بعد الرومانسية المفرطة – وليدة الاستقرار والعزلة والوفرة - التي رأيناها في الدولة القديمة، فعندما انفرط عقد الدولة القديمة، ودخلت البلاد في حالة مؤسفة من الفوضى لحوالي قرن من الزمان، ترك هذا آثاره على الفيلسوف المصري. ويقال أن الإنسان لا يخرج من مرحلة الطفولة حتى يتوفي أحد والديه، أو يشهد موت أحد الأعزاء عليه، ولعل مصر لم تدخل في مرحلة النضج الفلسفي إلا بعد أن رأت أهوال الفوضى، وبدا واضحاً لأول مرة أن ماعت لن تنزل من عليائها لتجعل حلم مجتمع العدالة والقانون في حكم الواقع، بل أضحى على أبناء مصر أنفسهم أن يعملوا على تحقيقه باحترام القانون ونظام ماعت الذي وفر لهم تلك الحياة الكريمة لأكثر من ألف عام قبل انفراط عقد الدولة القديمة.
ومن المذهل أن تنعكس مثل هذه العوامل على الفيلسوف المصري في تلك المرحلة المبكرة جداً في تاريخ الحضارة، فنجد تأملات فلسفية عميقة عن الوجود تسبق رباعيات عمر الخيام بحوالي 3200 عام، بنظرة متمحصة ونقدية للحكمة السائدة وقتذاك عن الحياة والموت، وجدوى الأهرامات والمقابر والطقوس الكثيرة المحيطة بالموت، تأملات الهدف منها هو الاحتفال بالحياة، قبل فوات الأوان، وكل هذا في مرحلة مبكرة جداً، حيث نجد هذه الأنشودة فوق جدار قبر أحد ملوك الأسرة الحادية عشرة:
ما أسعد هذا الأمير الطيب
إن المقدر الجميل قد وقع
وتذهب الأجيال من الناس
وتبقى أخرى
منذ عهد الذين من قبلنا
والآلهة الذين وجدوا في غابر الأزمان
والذين يرقدون في أهرامهم
وكذلك الأشراف والمبجلون قد رحلوا
ودفنوا في أهرامهم
وأولئك الذين بنوا مزارات لقبورهم
فإن أماكنهم أصبحت كأنها لم تكن
تأمل ماذا جرى فيها
لقد سمعت أحاديث أمحتب وحردادف
وهي كلمات لها شهرة عظيمة مثل أقوالهم
تأمل مساكنهم هناك
فإن جدرانها قد هدمت
وأماكنها قد أصبحت لا وجود لها
كأنها لم تكن قد وجدت قط
ولم يأت أحد من هنالك
ليحدثنا كيف حالهم
وليخبرنا عن حظوظهم
لتطمئن قلوبنا
إلى أن نرحل نحن أيضاً
إلى المكان الذي رحلوا إليه
شجع فؤادك على أن ينسى ذلك
ولتسر باتباع رغباتك
وأنت على قيد الحياة
وضع العطور على رأسك
وارتد ملابس من الكتان الرقيق
وضمخها بالعطور العجيبة
وهي أشياء الإله الأصيلة (!)
وزد كثيراً في مسراتك
ولا تجعلن قلبك يبتئس
واتبع ما تشتهي وما يطيب لك
وهيئ شئونك على الأرض
حسبما يمليه عليه قلبك
إلى أن يأتي يوم مغيبك
حينما لا يسمع صاحب القلب الساكن نعيهم
ولا الذي في القبر يصغي للعويل
اغتنم التمتع باليوم السعيد
ولا تجهدن نفسك فيه
اصغ! لم يأخذ إنسان متاعه معه
ولم يعد إنسان ثانية ممن رحلوا إلى هناك
كلما قرأت البيتين "حينما لا يسمع صاحب القلب الساكن نعيهم، ولا الذي في القبر يصغي للعويل"، تصيبني رعشة، من روعة التعبير السهل الممتنع والذي يهزك هزاً شديداً، أما خاتمة القصيدة " لم يأخذ إنسان متاعه معه ... ولم يعد إنسان ثانية ممن رحلوا إلى هناك"، فهي تلخص حكمة الحياة والموت في كلمات معدودات، مثلما نقول الآن "الكفن مالوش جيوب"، كما استخدم شكسبير وآخرون نفس الجملة تقريباً بعد حوالي 3500 عاماً من صياغتها على لسان الشاعر المصري المجهول.