المصري اليوم بقلم وائل نوارة ١٥/ ٥/ ٢٠١١ |
قبل قيام الثورة بأيام قليلة، كتبت عن أهمية مبادرات التصالح بعد قيام الثورة، والاستفادة من تجارب أمم أخرى قامت بثورات واستطاعت أن تجد حلولاً تضمن استعادة الثروات المنهوبة والأرباح المتضخمة نتيجة الفساد، وفى الوقت نفسه تفعل ذلك بصورة تضمن الحفاظ على الوظائف واستعادة حيوية الاقتصاد بصورة سريعة. أن نتصور أن العدالة الاجتماعية هى عملية لتقسيم ثروة المجتمع على أفراده، فهو مفهوم منقوص يتجاهل أن الثروة، مهما كانت كبيرة، لا يمكن أن تستمر فى الوفاء بالاحتياجات الحياتية للأبد ما لم تتحول لقوة إنتاجية قادرة على توفير فرص العمل والكسب لأفراد المجتمع، ومع غياب آليات صناعة الثروة بصورة متجددة تنفد الثروة، إن عاجلاً أو آجلاً، وتخلف وراءها الفقر المدقع، وتتحول عملية توزيع الثروة لعملية توزيع الفقر، ونجد من يهلل لهذا باعتبار أن المساواة فى الظلم عدل. لقد قمنا بثورة ٢٥ يناير من أجل أهداف رئيسية «عيش - حرية - كرامة إنسانية»، والعيش هنا لا يعنى فقط الخبز، بل العيش بمعناه المصرى، أى الحياة الكريمة ومتطلباتها. ماذا يحدث عندما نندمج فى موضوع محاكمات الفساد وتتوقف الشركات عن العمل أو تنهار إنتاجيتها أو يبدأ المستثمرون فى الهروب من البلاد ونقل أعمالهم وثرواتهم من مصر لدول أخرى؟ لابد أن نعترف بأن النظام السابق وضع قواعد صارمة للعمل لا تسمح لأى شركة - أو مواطن - بأن تنشأ أو تعمل إلا من خلال منظومة الفساد. صحيح أن البعض انغمس فى الفساد أكثر من غيره، لكن هذا ليس لأن كل المصريين فسدة، فقد رأينا بوضوح أن المعدن المصرى الطيب الأصيل كشف عن نفسه فى ميدان التحرير وفى اللجان الشعبية وفى كل مكان فى مصر. النظام السابق استخدم فكرة الإدارة بالفساد، وبالتالى دخل الفساد كل معاملة وكل بيت بصورة أو بأخرى. بالطبع لابد من تغيير هذا، وهو التحدى الحقيقى أن نستطيع إصلاح التشريعات واللوائح التنفيذية وهياكل الرواتب والصناديق لإزالة العوامل التى كانت تدفع بالبشر والمؤسسات والشركات دفعاً للفساد أو تسهله لهم أو تغريهم به. أخشى ما يجب أن نخشاه الآن هو محاولة البعض استعداء المجتمع على القطاع الخاص. فالقطاع الخاص يمثل ٧٠% من الناتج القومى ونحو ٦٥% من العمالة، وربما ٨٠% من فرص العمل الجديدة. القطاع الخاص ليس فقط الشركات العملاقة أو أباطرة الحزب الوطنى الذين احتكروا كل شىء فى مصر - بالعكس - القطاع الخاص هو محل البقالة وورشة إصلاح السيارات ومحل السباك وصاحب التاكسى والكشك ومشغل الخياطة. من المؤكد أن القطاع الخاص يحتاج لأن يطور من نفسه لتدخل الثورة إلى قلبه وعقله ويفكر بطريقة جديدة فى كيفية مشاركته بجدية فى تنفيذ الحلم المشروع المصرى، لكن القطاع الخاص له أيضاً حق على المشرّع وصانع القرار السياسى والإدارى، لتوفير بيئة محفزة للنمو وإزالة العوائق البيروقراطية، التى تضطر الشركات للاعتماد على منظومات وقنوات الفساد الموازية للقنوات الشرعية والسبل القانونية المنغلقة. أخشى ما يجب أن نخشاه، أن تتحول ثورتنا إلى موجة من محاكم التفتيش الانتقامية، ونتفرغ للانتقام لا لبناء الهياكل التى تضمن توفير بيئة صحية للأعمال بدلا من البيئة الفاسدة والمفسدة التى أفرزها النظام السابق. ماذا نفعل فى التراكمات الرأسمالية والمؤسسات التى استفادت مثلا من شراء أراض بأسعار أقل بكثير من أسعار السوق، فحققت أرباحاً غير عادلة لقلة مالكة؟ هل نستولى على تلك الشركات ونضع مدراءها فى السجون، فتتوقف عن الإنتاج كلياً أو جزئياً ويتشرد الآلاف من العاملين بها، ينضمون لطوابير العاطلين، ويعجزون عن إعالة أسرهم، وفى الوقت نفسه تنكمش مشترياتهم، فيقل الطلب على سلع وخدمات أخرى، وتضطر مصانع ومؤسسات أخرى لتسريح عامليها، وهكذا فى دورة انكماشية حلزونية مفرغة، لا تؤدى بنا إلا إلى الخراب. وبدلاً من أن تفى الثورة بوعدها بتحسين مستويات الدخول وجودة الحياة، تصبح سبباً للبؤس والشقاء والخراب، وعندها ينقلب الشعب على الثورة وتتحقق آمال من يقفون وراء الثورة المضادة فى العودة للنظام القديم - هذه المرة بتفويض مجتمعى - وتضيع مكتسبات الثورة. والآن، لابد أن نطلق مبادرة للتصالح الطوعى، يقوم من خلالها من استفادوا مثلاً من الحصول على أراض بأسعار منخفضة عن السعر العادل، بالتقدم طوعاً بطريقة لسداد الفروق، سواء من خلال جدولة السداد نقداً، أو التنازل عن بعض أسهم الشركة طوعا لصالح صناديق وطنية تديرها مؤسسات مالية متخصصة، صناديق توجه عوائدها لأهداف العدالة الاجتماعية والتنمية المجتمعية الاقتصادية المستدامة، سواء ببناء مجتمعات عمرانية جديدة للشباب بأسعار وشروط ميسرة، أو بتطوير العشوائيات بصورة حضارية تليق بالمواطن المصرى الذى قامت الثورة من أجل إنصافه، أو من خلال تعهد تلك الشركات بتقديم أعداد متفق عليها من المساكن المجانية التى تقوم الدولة بإعادة بيعها بشروط ميسرة للشباب وهكذا، وتوجه عائد البيع للصناديق نفسها لتفيد آخرين بصورة متجددة ذاتيا ومستدامة، مقابل العفو عن مسؤولى تلك الشركات واستمرار الأكفاء منهم فى وظائفهم. نحن هنا لا نتحدث عن إعفاء أى من المسؤولين المتورطين فى قضايا جنائية أو من تلوثت أياديهم بدماء الشهداء أو الجرحى، سواء بصورة مباشرة أو من خلال التحريض، ولا ننادى بالعفو عن أى من الذين أفسدوا الحياة السياسية المصرية بصورة مباشرة، لكننا نريد أن نتعلم مثلاً من لجان مماثلة نجحت فى بعض دول أمريكا اللاتينية فى استرداد ثروات المجتمع وفى الوقت نفسه استطاعت تجنب الهبوط الحاد فى دورة الاقتصاد ومخاطر وقوع ملايين الضحايا من المواطنين الأبرياء نتيجة لذلك. يجب ألا نصبح رهائن لفكرة مجتزأة قوامها أن العدالة يجب أن تأخذ مجراها مع كل من أخطأ، فنجد أنفسنا وقد ظلمنا ملايين الأبرياء فى سعينا للانتقام، بل يجب أن نسعى لإصلاح النظام نفسه وإعادة بنائه بسرعة، حتى لا تشغلنا الملاحقة والحساب والعقاب، عن اعتبارات أوسع وأشمل، تحقق العدالة الكلية، بأفضل صورة ممكنة، من خلال روح التسامح والنظر لما هو آت.
|