Religion, a Compass
or a Fixed Wedge
النسبية الزمنية والمكانية والشخصية في الأحكام
هل الدين يعطينا توجهاً ومقاصد تجسد القيم العليا والمبادئ السامية التي لا خلاف عليها ...
أم هو يلزمنا بتقليد مواقف ثابتة من أزمنة فائتة، واتباعها بجملتها من خلال التفاصيل الموجودة بالتفاسير والشروح؟
ألا تحتوي التفاصيل على اعتبارات تخص زمنا بعينه – أو مكانا بعينه – أو فهما شخصياً لمفسر بعينه، وهو ما يمكن أن نتوه فيها؟
أليس من الأفضل أن نعود لروح الدين بعيدا عن التفاصيل التي تختلف بتباين المكان والزمان والشخص و والمواقف؟
فالسؤال ليس عما إذا كان الدين يمكن أن يكون مصدراً للقوانين أم لا
لأنه بالفعل من خلال القيم التي يقدمها، يلهم المشرعين بالقوانين، التي تحاول أن تحقق هذه القيم والمصلحة العامة للمجتمع من خلال وضع قوانين تأخذ في الاعتبار تحليل الموقف والبيئة الداخلية والخارجية، ثم تضع الحوافز الإيجابية والسلبية لتعظم من التزام المواطنين بالقوانين ...
السؤال هو: هل نغلب التمسك بالنصوص والأحكام على حساب تحقيق المقاصد والأهداف؟
هل نتمسك باتباع السلف الصالح أم نبحث نحن عن الصلاح فيما نفعله طبقاً لظروفنا بما يحقق المقاصد الكريمة؟
وفي رأيي أن دعوة الرسل كانت في معظمها دعوة ثورية في وقتها لتحرير الإنسان، ثورية لأنها تطرح فكرا مغايرا عن السلف، وتدعو لإعمال العقل، وتحرير الفئات المهمشة في زمنها، مثل النساء والعبيد، ونشر المساواة بين بني البشر جميعاً
وقمة التحرر كان التحرر من من السلفية المقيتة، فقد كان أهل قريش مثلاً يقولون إنا رأينا آباءنا يفعلون كذا وكذا، فدعاهم الرسول لمكارم الأخلاق ونهاهم عن تقليد السلف الصالح فيما يجافي العقل والفطرة السليمة
ولم يكن من الممكن أن تحدث كل هذه التغيرات الثورية في 23 عاماً هي عمر الدعوة، فترك لنا الرسول من القرآن ومن سيرته ما يبين مقاصد دعوته، ليس بالضرورة كأحكام وأوامر ونواه، بل كاتجاهات ومقاصد، تتماشى مع الفطرة السليمة للإنسان، وتتفق مع الضمير والقلب والعقل
فمعظم الأحكام والأوامر والنواه تخص عصرا بعينه، بما يتماشى مع مقاصد الدعوة التي تتناسب مع ذلك العصر
فالأحكام مثل النقاط الثابتة في عصر معين
أما المقاصد، فهي توجهات أو اتجاهات – وعندما تتقاطع تلك الاتجاهات مع أي إحداثي زمني في مكان معين، ترشدنا لما يمكن أن نفعله في ذلك الزمن
وهذه هي النسبية الزمنية والمكانية في الأحكام
فلم يتيسر مثلاً أن يقوم الرسول بتحريم الرق، وإن كانت كل سيرته تدل على أن تحريم العبودية لغير الله وحده، وتحريم الرق، وعتق الرقاب في كل مناسبة، هي مقصد أصيل من مقاصد الدعوة
فلا يمكن أن نأتي اليوم ونقول أن الإسلام قد أحل العبودية لأنها كانت موجودة أيام الرسول
إذا فعلنا ذلك نكون كمن يتشبث بوتد مدقوق في الأرض بينما هو يحاول أن يمشي ليجاري تطور الزمن
أما معظم الشيوخ والسلفيين، فهم ينظرون للدين نظرة جامدة استاتيكية، لا تتطور مع الزمن، ويريدون أن يلزموا الناس بأحكام كانت تخص أزماناً وأمكنة وأناساً ومجتمعات وحضارات أخرى، وهذا المنهج، إنما يصيب الدين في مقتل، لأنه يؤدي أن ينفصم الدين عن الواقع الإنساني، فيهجره كل ذي عقل، ويصيب التخلف من يتمسكون به، فيهلكون وتنتهي الدعوة بهلاكهم
وهذا هو أكبر خطر يواجه الدين في نظري ، فتجميد الدين يجعله مثل الأديان السابقة التي انقرضت لأن اصحابها تجمدوا عند نقطة معينة
وبالتالي، فإن مثل هؤلاء الشيوخ هم أكبر خطر على الدين لأن كل ما يقومون به هو الحفظ والاستظهار، أما التفكر والاجتهاد، فقد أغلق بابه منذ عشر قرون، تغيرت فيها الحضارة الإنسانية بصورة مذهلة، فتجمد المسلمون وتوقفوا عن السير حضارياً، وأصابهم التخلف، فضعفوا وأصبحوا مطمعاً لكل غاز وناهب
وليس من الصدفة في شيء أن معظم الدول الإسلامية تعاني من التخلف الشديد بكل المقاييس، لأن هذا هو نصيب من يرفض التطور ويتمسك بالنقل والعنعنة، ويحارب الفكر، مثلما رأينا من قبل مع الكنيسة الكاثوليكية، ولم يتطور الغرب إلا مع التحرر من سطوتها وإطلاق العديد من المبادرات الإصلاحية التحررية لمراجعة فلسفة الدين ودوره في حياة الإنسان
الدين إذا مثل البوصلة التي ترشدنا للاتجاه، وليس كالوتد الذي يثبتنا في الأرض فنتوقف عن المسير، أو ننكفئ على وجوهنا بفعل التباين بين طبيعة الزمن الذي يتحرك للأمام، وأحكام الشيوخ الذين يريدوننا أن نتشبث بذلك الوتد الذي لا يعرفون غيره
وهنا تبرز فكرة نسبية الزمان والمكان
فلو أخذنا بمقاصد الدين كاتجاه
وليس كنقط ثابتة في الزمن
واستنبطنا التعاليم من تقاطع تلك الاتجاهات
مع خطوط الزمان والمكان
لتخلصنا من فكرة القيود السلفية
التي جاء الدين في الأساس ليهدمها
وحافظنا على المرجعية الروحية في نفس الوقت
أما إذا أصر البعض على ثبات النقط وليس المقاصد والاتجاهات
هنا يصبح الدين مقيداً للحرية لأن الإنسان يمشي في مسيرة الزمن ليجد أقدامه مقيدة بنقاط ثابتة في الماضي
ويتحول الدين
لنفس الحالة
التي جاء ليخلص الناس منها
وهي
إنا رأينا آباءنا يفعلون كذا وكذا
ويشيخ الدين نفسه ويندثر مثل الأديان التي سبقته
والتي عجزت عن مواكبة الزمن بصورة ديناميكية
ولذلك فإن السلفيين في رأيي
هم أعدى أعداء الدين
لأنهم يحكمون عليه بالاندثار
نتيجة للجمود وعدم التجدد
بما يؤدي لتباين بين الدين بالمفهوم الاستاتيكي الذي يصرون عليه ويروجون له
وبين الواقع المتغير مع الزمن والاحتياجات المتجددة والتحديات غير المسبوقة والتي تطرح نفسها على ضمير الإنسان وعلى أسلوب حياته
ولا ننسى أن أصحاب الأديان المختلفة يختلفون في النصوص لكنهم عادة ما يتفقون في القيم والمقاصد
فكل الأديان تقول
لا تكذب
لا تشهد زوراً
لا تسرق ما ليس لك
لا تقتل النفس البريئة
عامل الناس كما تحب أن تعامل
احسن لجارك
احسن للفقراء
ولذلك
فمن السهل الوصول لقوانين يتوافق عليها مجتمع متعدد الديانات إذا ما أخذنا المقاصد كمرشد أو كبوصلة، بدلاً من النصوص أو التفاسير التي تخص ديناً ما بينما تعتبر غير مقبولة لأصحاب الأديان الأخرى.
وهذا ما يشجع على التعايش السلمي بين اصحاب الأديان المختلفة في نفس المجتمع. حتى من لا يؤمنون بدين معين، نجدهم يتمسكون بمنظومة أخلاقية تشترك مع المنظومة الأخلاقية للأديان في معظم المبادئ العامة، وإن اختلفت في العبادات والمعبودات ...
فالمنظومة الأخلاقية، هي في الواقع نتاج للتطور الحضاري والاجتماعي، والأخلاق لم تبتدعها الأديان، وإن جسدتها ...
منظومة الخير، تضع قواعد، تحاول إيجاد التوازن بصورة ما بين مصالح ورغبات واحتياجات الفرد، ومصالح الجماعة أو المجتمع ... على سبيل المثال، فكرة الملكية ... بدأت كاستجابة لاحتياج الإنسان – بل والحيوان – لخصوصية ما لديه من صيد أو ناتج زراعي يخصه هو ومن يحب ... سواء أهل أم جيران ...
فكرة المشاركة أو العطاء للآخرين، بدأت كاستجابة أيضاً لاحتياج الإنسان لنظام تأمين اجتماعي، يحصل من خلاله على المساعدة من الآخرين عندما يفسد محصوله لسبب أو آخر، وفي المقابل يعطي هو أيضاً لجاره بعض ما يملك، إذا وقع جاره في ظروف متعسرة مشابهة.
إذن الأخلاق نشأت كحل اجتماعي نفعي، وليست فقط مرتبطة بالأديان والحساب والعقاب في الآخرة، بل أن لها أهمية للبقاء في الحياة العادية.
نعود للسؤال ... هل نرى في الدين بوصلة – ترشد الضمير الإنساني – لتحقيق المقاصد السامية التي حملتها الأديان، أم نرى فيه وتداً وضعه في الأرض مفكرون ومفسرون من عشرات القرون، استجابة لتحديات عصورهم.
ملحوظة
المشكلة أصلاً في فكرة السلف الصالح - وليس فيمن هو هذا السلف - فكرة السلف الصالح أدت بقريش لعبادة الأصنام - إنا رأينا آباءنا
والسبب في انحراف من يتبع السلف رياضي بحت - كلما ابتعدت عن المصدر وأنت تتبع العلامات بدلا من أن تتبع المصدر نفسه - يزيد انحرافك عن المصدر
هي فكرة معروفة في علم الملاحة وحساب المثلثات - تراكم الخطأ
وبينما السلف نفسه يمكن أن يكون صالحاً بالفعل- إلا أن اتباعه لابد وأن ينشأ عنه انحراف يتزايد تدريجيا مع الوقت واختلاف العدسات - عدسات الزمان والمكان
لذلك الأفضل أن نتحدث دائما عن المبادئ والمقاصد وليس النصوص والتفاسير والأحكام
فإذا تعارض فهمنا لبعض النصوص أو التفاسير أو الأحاديث أو الأحكام مع المقاصد العامة - نغلب المقاصد وليس النصوص - ولا يعني هذا خطأ النصوص - بقدر فهمنا للسياق - أسباب النزول - ظروف النزول - الغرض من التطبيق - هل هو في حالة معينة أم على إطلاقه ... وهكذا ... فلا نحاصر الدين - وهو حمال أوجه - في التفاصيل المختلف عليها، فننفر من يختلف معنا أو نكفره - بل نسترشد بالمقاصد العامة ونترك التفاصيل والتطبيق مفتوحة للاجتهاد والاختلاف ...