وائل نوارة
فى 29 أغسطس عام 1897، اجتمع 197 شخصًا من قادة الحركة الصهيونية العالمية فى بازل، ليعقدوا المؤتمر الصهيونى الأول. وجاءت توصيات ذلك المؤتمر بأهداف طموحة ومحددة، قام عليها «المشروع الصهيونى»، كان أهمها العمل على قيام وطن قومى لليهود فى خلال خمسين عامًا، لوضع حد لاضطهاد اليهود فى روسيا وأوروبا. وبعد المؤتمر كتب تيودور هرتزل: «فى بازل، أسستُ (أى هرتزل) الدولة اليهودية». وفى 29 نوفمبر من عام 1947، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين، دولة عربية، وأخرى يهودية، وفى 15 مايو 1948، أى بعد 51 عامًا من المؤتمر الصهيونى الأول، قامت دولة إسرائيل. كيف جاء هذا النجاح المذهل؟ دولة تنشأ من العدم فى نصف قرن من مجرد إعلان تلك الفكرة الطموحة، على حساب السكان العرب الأصليين، لتصبح «فلسطين» أثرًا بعد عين، فيُطرد أهلُها، ويصبحون لاجئين تتقاذفهم الأقدار؟
فى السنوات والعقود التى تلت المؤتمر الصهيونى الأول، عمل قادة المشروع الصهيونى فى عدة محاور. ورغم وفاة هرتزل فى 1904، فقد استمرت الجهود الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان، وهو كيميائى روسى المولد. ومن المثير أن وايزمان اكتشف تقنية لاستنباط الأسيتون الصناعى، وكان لهذا الاكتشاف دورًا هامًّا فى قيام دولة إسرائيل. ففى أثناء الحرب العالمية الأولى، ساعد وايزمان البريطانيين على تصنيع بارود المدافع بكميات ضخمة، باعتبار الأسيتون هو المكون الرئيسى لمادة الكرودايت، مما جعل البريطانيين يدعمون الطموحات الصهيونية، وحسب تعبير اللورد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا «لقد اعتنقت الصهيونية على يد الأسيتون!». وجاء وعد بلفور فى 2 نوفمبر من عام 1917، فى خطاب إلى اللورد روتشيلد، يؤكد «أن حكومة جلالة الملك، تنظر بعين العطف إلى الطموحات اليهودية بإقامة وطن قومى لليهود (وليس دولة) فى فلسطين، على أن لا يخل ذلك بحقوق السكان الأصليين». وقد جاءت قرارات مؤتمر سان ريمو وعصبة الأمم عام 1920 لتضع فلسطين والأردن تحت الانتداب البريطانى، وتؤكد وعد بلفور بإنشاء «وطن قومى» لليهود فى فلسطين.
لماذا أذكر هذه القصة عن إسرائيل، رغم أننا نتحدث عن مصر 2030؟ ربما نرى أن هذا الحلم غير أخلاقى وغير مشروع لأنه يقوم على شقاء الآخرين، لكن هذا لا ينفى قوة الحلم تأثيرًا فى القلوب والعقول، وقدرة الرؤية على النفاذ من سُحب وغيوم وعشوائيات الواقع، لترى بجلاء آفاق المستقبل. هذه القصة أيضًا توضح باختصار أن الرؤية ليست مجرد مانشيتات وفرقعات إعلامية، أو خطب حماسية رنانة فى مؤتمر، تتبخر وتتلاشى بإطفاء الأنوار وسكون الميكروفونات، وهنا تبرز أهمية وجود المشروع القومى، ليكون جسدًا تعيش فيه الرؤية على أرض الواقع، جسدًا تتقمصه الرؤية وتنمو معه، إلى أن تتمدد فتملأ الفراغ الأيديولوجى والعاطفى، بثقافة وطريقة حياة يتبناها المجتمع، تتيح لهذه الرؤية أن تكون المرجعية فى كل قرار سياسى واقتصادى، تعليمى وإعلامى، زراعى وصناعى، شخصى أو جماعى.
من الناحية الأخرى، هل إسرائيل اليوم -وهى دولة دينية بامتياز- دولة ناجحة، تصلح نموذجًا نقتدى به، فنقوم نحن أيضًا بإنشاء دولة دينية مقابلة؟ أدّعى أن الجواب هو النفى، إسرائيل رغم تقدمها الاقتصادى وتفوقها العسكرى، لديها أزمة جوهرية فى أساس وجودها الذى يقوم فقط على الديانة اليهودية، فى أرضٍ سكانها الأصليون من ديانات متعددة. كان من الممكن قيام دولة ديمقراطية ناجحة تقوم على المساواة بين المواطنين اليهود وغير اليهود، وترتكز على العدالة بين السكان الأصليين وترحب ببعض الوافدين، دون أن يأتى هذا على حساب أصحاب الأرض. فليس من الممكن قيام ديمقراطية فى دولة تميز بين مواطنيها على أساس الدين. وليس من الممكن أن تنعم دولة بالسلام والاستمرارية، إذا ما هى اعتمدت على استيراد أو تمكين مواطنين من ديانة ما، وتطفيش أصحاب الديانات الأخرى، أو شرّعت لبعض مواطنيها من دين ما، اغتصاب أراضى وحقوق الباقين، أو الاعتداء على أصحاب الديانات الأخرى، والنجاة من العقاب بعد جلسة عرفية لتقبيل اللحى.
إذن ما شروط الحلم والرؤية الناجحة؟ وكيف نفرّق بين الأحلام المشروعة والرؤى القومية من ناحية، وبين أضغاث الأحلام النرجسية التى يُبتغى من خلالها فرد الزعامة وتنتهى عادة بكوابيس مروعة، من الناحية الأخرى؟ أو بين الرؤى القومية التى تنبع من طبيعة الأرض والشعب، وبين شبق جماعة شوفونية أو عنصرية تستورد المذاهب المتطرفة، وتسعى للهيمنة والوصول إلى السلطة والجاه والمال، ولو على حساب تدمير الأساس الجينى لنسيج المجتمع؟
أدعى أن الأحلام القومية الناجحة فى عصرنا هذا، تسعى فى جوهرها لتحرير وتمكين الإنسان كأساس لتقدم المجتمع، ليشارك ذلك المجتمع ككل فى تقدم الإنسانية. أما الكوابيس العنصرية، فتقوم على دغدغة مشاعر الجماهير بفكرة تفوق دين أو عرق ما، وتسعى لتمكين زعيم مستبد أو جماعة فاشية، بدعوى أن الزعيم هو «أبو الأمة»، أو أن الأمة «مختارة»، أو أن الجماعة «ربانية» مكلفة بتنقية البلاد من الرجس، باستخدام ماء السماء الطهور الذى تنفرد به، لتغسل به نجاسات المجتمع وآثامه، والمقصود طبعًا هو الحصول على تفويض من الشعب بعد غسيل مخه، يستطيع به النظام الفاشى أن يمحو الاختلافات ويبيد المعارضة، بينما يقوم باختلاس إرادة الشعب وتجميعها فى قبضة نظام سلطوى يتحكم فى كل شىء فى المجتمع، لشل قدرته على التغيير، حمايةً لنظام الاستبداد. يتم كل هذا تحت دعاوى دينية أو عرقية، تقصى شركاء الوطن من تعريف الأمة القومية بحجة أن الهوية الأساسية للوطن يجسدها دين أو عرق، يشطر العالم إلى جزأين -معنا وعلينا- يقسمه إلى جزء صالح طيب معنا، وجزء خبيث شرير أو كافر ضدنا، بحجة أننا مكلفون من الرب بنشر هذا الدين أو ذاك، وتحقيق الهيمنة العالمية، أو أستاذية العالم، وغيرها من ترهات عفا عليها الزمن، ولم تعد تناسب العالم الجديد.