تعتبر مصر هى الحضارة الوحيدة فى العالم التى استطاعت أن تستمر على مدى أكثر من 5000 عام، متحدية التقلبات السياسية والاقتصادية والدينية والبيئية، بفضل وجود دورة طبيعية مستقرة إلى حد كبير لنهر النيل، تواءم معها المصريون واحترموها وطوروها دون أن يخلوا بتوازنها الطبيعى أساسًا، فأقاموا عليها حضارتهم الزراعية، وفصَّلوا على دورة النهر مواسم الغرس والقلع والحصاد، وتقويم قياس الزمن، والمواسم الدينية والاجتماعية، والقصص والأساطير والعبر الأخلاقية والروحية، ووحدات قياس منسوب المياه ومساحة الأرض وحجم المحصول، والعلوم والتقنيات والنظم والأسواق والمبانى والصوامع المرتبطة بهذا كله والمكملة له. وأضاف المصريون على المجرى الرئيسى شبكة فعالة متعددة المستويات من الترع والقنوات والمساقى على هامش النيل فى الوادى والدلتا، دون أن يغيروا فى دورة النهر الطبيعية نفسها. ولعل الأسلوب المبنى على المشاهدة والمعايشة والتجربة الطويلة للطبيعة، الذى احترم تجليات هذه الطبيعة وما حفرته فى الأرض والإنسان عبر الزمن بقرونه وألفياته الطوال، هو السر وراء صمود حضارة المصريين الزراعية فى دولتهم الموازية لكل دولة أو سلطان. تتابعت الأسر الملكية عبر ثلاثة أو أربعة آلاف عام على الأقل، ثم تعاقب الغزاة الأجانب وتغير الحكام والسلاطين والولاة المستبدون غلاظ القلوب، وضربت الأوبئة والأمراض والطواعين واللعنات ضرباتها القاسية، وظلت مصر كما هى. قد يقول قائل بقيت مصر تتحدى الزمن -ولكننى أقول- بقيت مصر تحترم الزمن والطبيعة والتوازن الذى هو قانون هذه الطبيعة، وتشتق منهم حكمتها وفلسفتها المصرية الخالصة، التى أطلقت عليها فى فجر التاريخ نظام «ماعت».
وخلال القرنين الماضيين، تعاقب على مصر حكام طموحون، أرادوا أن تحذو مصر حذو باقى دول العالم فى سباق «المدنية»، وبدؤوا يخرجون على الأساليب القديمة، ويغيرون فى طبيعة دورة النهر وطريقة الحياة، والعادات والتقاليد المصرية القديمة، وحتى المعاصرة لم تنج من هجوم ماكر، حينما جاء آخرون متخمون بريالات نفطية، وبدؤوا يحاولون أن يتلاعبوا فى الجينات الثقافية المصرية، بفيروسات عدة يستنشقها المصريون إجبارًا فى الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية وقنوات التكفير الفضائية! وليس هدفنا هنا أن نشير بأصابع اللوم أو نطلق الأحكام على أى شخص أو جماعة، لكن لن نستطيع سوى أن نلاحظ بعض المشاهدات، التى تشير إلى حدوث خلل جسيم فى طريقة الحياة المصرية، بدأ يظهر بوضوح خلال الأربعين عامًا الماضية، حيث بدأنا لأول مرة نسمع عن أزمات ومواجهات طائفية فى السبعينيات، واليوم لا يمر أسبوع إلا وهناك حادث طائفى يضرب نسيج الأمة المصرية التى وحدها النهر منذ آلاف السنين.
فى نفس الفترة، تضاعف عدد السكان فى مصر 3 مرات، من نحو 33 مليونا عام 1970 إلى ما يقرب من 89 مليونا هذا العام. فى نفس الوقت، بقيت حصة مصر من مياه النهر كما هى، بل استجدت عليها مخاطر ونزاعات مع إثيوبيا، منبع النيل الأزرق الذى يشكل الجزء الأعظم من موارد النيل المائية. أما مساحة الأرض المزروعة فزادت بنسبة نحو 50% من 6 ملايين فدان إلى نحو 9 ملايين فدان. واليوم نصيب الفرد فى مصر من المياه يصل إلى نحو 700 متر مكعب ونصيبه من الأرض المزروعة نحو واحد على عشرة من الفدان بعد أن كان نحو واحد على خمسة من الفدان عام 1970!
إذا أخذنا قرية متوسطة من قرى مصر، كان عدد سكانها عام 1970، نحو ثلاثة آلاف نسمة، اليوم عدد سكانها رغم نزوح الآلاف للمدن نحو 7000 نسمة. القرية زحف كردون البناء فيها قليلًا وتغول على الأرض الزراعية، رغم قوانين حظر البناء عليها، لكن فى النهاية، البيوت القديمة تم تقسيمها عدة مرات على أبناء ثم أحفاد الأسرة الواحدة، والمنزل الذى كان يحتضن أسرة كريمة، يضم اليوم ثلاث أسر زحيمة. ارتفعت المبانى العشوائية بطوب أحمر وعواميد أسمنتية قبيحة، وأسياخ ممدودة تنتظر الفرج أو تستعد لحمل أدوار إضافية لتتسع لمزيد من الأبناء والأحفاد. الأسرة التى كانت تمتلك قطعة أرض مساحتها 5 فدادين، تفتت قطعة الأرض على 4 أبناء ثم 10 أحفاد، فأصبح نصيب كل فرد عدة قراريط، غالبًا يبيعها أو يبنى عليها. هناك مؤامرة دولية على الزراعة التقليدية والمواد الخام فى العالم، تجعل من المستحيل تحقيق أى عائد تجارى من مزرعة تقل مساحتها عن آلاف الأفدنة وتستخدم الآلات الزراعية بكثافة. أما الزراعة التقليدية، فإنتاجية الفدان لا تزيد على ألفى جنيه فى أفضل الظروف. عبر 50 سنة، شبكة الطرق فى الدلتا زادت بنسبة نحو 50% رغم أن عدد السكان تضاعف 3 مرات ونصف، وعدد السيارات تضاعف عشرات المرات، وبالتالى اختنقت شرايين الدلتا واختنقت فرص التنمية الصناعية والخدمية فيها. مع اغتيال الفرصة الاقتصادية فى الزراعة وانغماس المجتمع فى تقديس الموظف الحكومى والمكتبى، وتكدس الجامعات الإقليمية بطلاب وخريجين لدراسات لا تحتاجها سوق العمل، هاجر الملايين للمدينة، واضطروا لأن يعيشوا على أطرافها فى «مخيمات» العشوائيات التى تمددت لتحيط بحزام سميك حول كل مدينة فى مصر.
الأحياء المتوسطة أو حتى «الراقية» حيث سعر الشقة يتجاوز المليون جنيه، عبارة عن امتداد للعشوائيات. غابات أسمنتية. عمارات متوسط ارتفاعها 10 أو 12 دورا رغم أن تصميم المنطقة ومرافقها كان مخططًا له أن لا تزيد ارتفاعات المبانى فيها على 4 أو 5 أدوار. نصيبنا من الغاز لم يعد يكفى احتياجاتنا وبدأنا نشترى نصيب الشريك الأجنبى دون أن نسدد له، فبدأ يمتنع عن التوريد. فى وسط 90 مليونا، أكيد هناك ملايين من المحظوظين يعملون فى مؤسسات أجنبية أو بنوك أو شركات خاصة فى الداخل أو الخارج، قدرة شرائية واستهلاك ما شاء الله، سيارات وتكييفات وموبايلات وضغط على الأسواق وعلى الطاقة، وترتفع الأسعار، فتزداد معاناة الشخص العادى، كما تزداد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك فيتم قطع الكهرباء عن المناطق السكنية فى ورديات تبادلية.
بعد كل هذا الحديث المؤسف، هل تشعر باختناق وجلطة فى الشرايين؟ هذا بالضبط ما تعانى منه مصر اليوم. شرايين وطرق ومدن ضيقة أو مسدودة، وبالتالى سريان القيمة المضافة والفرصة الاقتصادية مخنوق. الناس على بعضها لا يتزاحمون فقط على مكان فى طابور الخبز أو البوتاجاز أو المدرسة أو الجامعة أو سوق العمل أو الشارع، لكنهم فعليًّا يتزاحمون على موطئ قدم فى الوادى المكتظ والدلتا المخنوقة.
السكان فى الأصل ثروة بشرية لمصر. المشكلة إذن لا تكمن فى زيادة السكان، بل فى افتقاد التوازن بين حجم بعض الأسر ودخلها، وبين ازدحام مناطق بعينها بالسكان، أو تكدس السكان فى قرى مكتظة ومناطق عشوائية تفتقر إلى الخدمات الأساسية التى تسمح بالحياة الكريمة، بينما هناك ظهير صحراوى بطول الوادى وعلى جانبى الدلتا، علاوة على وديان بديلة قديمة وحديثة، ومناطق شاسعة يمكن إقامة المجتمعات العمرانية عليها بصورة حضارية متكاملة. المشكلة هى فى انعدام الرؤية وانسداد شرايين الإبداع والفكر والإنتاج والعمل فى مصر، مع انفصام قومى بين التعليم والأسواق، واجتهاد الدولة فى خنق الفرص الاقتصادية بصور متعددة. كيف نستعيد التوازن؟