رؤية مصرية - وائل نوارة
أعتذر عن قطع سلسلة مقالات مصر 2030 هذا الأسبوع – فقد رأيت أنه من الواجب أن أعلق على هذه الموضوع الطريف.
السرقة عيب وحرام لكنها يومياً بتحصل وأكتر
مما نتخيل وأحياناً في أشياء بسيطة غير ملحوظة، وأحياناً في حاجات كبيرة ولكنها غير
ملحوظة برضو. القصة إن فيه فيللا في شارعنا في مصر الجديدة بينا وبينها بيت واحد.
كان يملكها شخص غير متزوج يلبس نضارة شمس غامقة لا نعرف عنه أي شيء سوى إن اسمه
عمو اللوا. غالباً هو كان لواءا متقاعدا في الجيش أو المخابرات، وكان عنده عربية
فيات 1100 بيضاء في أوائل السبعينات – أيام ما كان الشارع كله فيه حوالي 3 عربيات –
كان لازم نتجنبهم ونختار حتة فاضية في الشارع واحنا بنخطط الأسفلت بالجير أو الطوب
الأحمر علشان نقسم ونلعب كورة. في التمانينات أتوفى اللوا وعرفنا إنه انتقل لرحمة
الله لأنه اختفى من الشارع وبعد شوية جت ست محترمة شيك كبيرة في السن وشبهه –
تقريباً أخته - واتنقلت تسكن في الفيللا حيث كان المجلس المفضل لها في البلكونة.
في التسعينات أتوفت هي كمان بدليل انها اختفت – الله يرحمهم هما الاتنين. فضلت
الفيللا مقفولة فترة، نعدي عليها ونترحم على اللوا وأخته. وفجأة السنة اللي فاتت
بعد الثورة بأسابيع، لقينا واحد حارس كشر بدقن طويلة مشعثة، قاعد جوا الفيللا
نفسها ومشغل التليفزيون بصوت عالي وكدا، عامل حس يعني بيقول نحن هنا. بعد كام
أسبوع فجأة الفيللا اتهدت، وبعدين الأرض اتباعت بيقولوا لواحد من قطر، والمشتري
الجديد بيطلع رخصة علشان يبني بدل الفيللا اللي كانت دور واحد أرضي – عمارة من 8
أدوار.
هناك أشخاص حرفتهم الأساسية أن يمروا على
الشوارع في الأحياء القديمة يرصدون الفيللات القديمة المغلقة. وكل فترة، يعثرون
على فيللا أو قصر مغلق لفترة طويلة، يتقصون عن شأنه، وأحياناً يعلمون أن اصحابه
متوفين ولا ورثة لهم، أو أن ورثتهم يعيشون بالخارج مثلاً، فيأخذون الخطوة التالية.
يصطنعون عقد بيع ابتدائي بإمضاء مزيف من المتوفي لأحدهم. ثم يستأجرون أحد البلطجية
ويكلفونه بأن يقتحم الفيللا ويعيش فيها لعدة أسابيع أو أشهر ويبدأون في إرسال بعض
الخطابات والمراسلات باسم المشتري المزيف لإثبات سكنه بالمكان. وقد يقوم المشتري
الجديد بتحرير عقد إيجار مؤقت لأحد أعوانه، ويقوم الأخير بإثبات تاريخ لهذا العقد
في "الشهر العقاري"، ثم يقوم مثلاً بتغيير اسم المشترك في شركة الكهرباء
أو الغاز وهكذا. وبعد فترة يبيع المشتري الفيللا والأرض لمشتري آخر بعقد
"صحيح" حتى تنطمس معالم الجريمة ويصبح المالك الجديد محصناً من أي سوء
لأنه هو نفسه اشترى الفيللا والأرض بعقد "صحيح" من شخص موجود وحي – لكن
المشكلة بالطبع أن البائع لا يملك الفيللا ولا الأرض – ولكن مع وضع اليد على
الحيازة وغياب الورثة أو ابتعادهم عن الصورة – تكتمل أركان الجريمة مع عدم وجود
نزاع أو استشكال من أي صاحب شأن في كل هذه الإجراءات المزيفة.
نفس الشيء حدث معنا في الثمانينات في
الأسكندرية. ذهبنا لشقة المصيف كما تعودنا في شهر يونيو وهي إيجار دائم قديم باسم
والد أحد أصدقائنا. ودخلنا الشارع في المندرة ولكننا لم نتعرف على العمارة.
العمارة لا زالت موجودة على الناصية ولكن لونها تغير وبوابتها انتقلت من الشارع
العمودي على البحر لشارع موازي للبحر، حيث أن العمارة على الناصية، وتوجد بوابة
حديد مغلقة بجنزير وقفل ثقيل. وبعد حيرة ومكالمات وبحث، تأكدنا وتأكد صديقنا أنها
نفس العمارة فدخلنا نستطلع الأمر. وجدنا شقة أسرته بابها مفتوح ولا يوجد بداخلها أي
أثاث أو أجهزة، وبها سلم نقاشين وبعض جرادل الطلاء وآثار تشطيب جديد. في الصباح
جاء من ادعى أنه المالك، شخص ملتحي يكثر من استخدام العبارات الدينية ويقسم أنه
اشترى العمارة خالية من السكان وأن أوراقه سليمة، وأننا معاً ضحية لنصب من "طرف
ثالث" باع له العمارة، لكن بما أن العمارة تحت حيازته – بوضع اليد – فعوضنا
على الله – وخاصة أن صديقي "مجرد مستأجر" على حد كلامه – أما هو، فقد
دفع الملايين في العمارة كلها وتسلمها خالية دون أثاث أو أجهزة على حد وصفه
وبالتالي فهو أولى بالحيازة. استغرقت القضية حوالي 10 سنوات حتى حصل والد صديقي
مرة أخرى على شقته المؤجرة، قبل وفاته بسنوات قليلة.
نفس الشيء حدث بعد الثورة. جاءت جماعة سرية
ذات أنشطة معروفة في غسيل الأموال وجمع التبرعات من شيوخ الخليج وتوظيف وتسفير
المجاهدين والبطاطين، والسطو على النقابات وشفط أموالها في تمويل معارض السلع
المعمرة التي يديرها أحد أشطر رجالها، ومجموعة أخرى من الأنشطة المحلية والدولية المتعددة
باسم أشخاص هم واجهة لهذه الجماعة السرطانية الأشبه بالمافيا، التي ليس لها أي
كيان قانوني ولا تخضع لأي رقابة من أي نوع. وتدير الجماعة علاوة على الشركات
والميليشيات بعض الجمعيات "الخيرية" في القرى التي تتلقى على حسها
التبرعات، مع ما تيسر من لجان "الإغاثة" النشطة في توزيع البطاطين والسرنجات
والأسبرين في أفغانستان والصومال وبعض البؤر الإرهابية ومعاقل القرصنة.
في الهيصة، زحفت الجماعة على الفيللا، وأدعت أمام
الجيران والثوار والإعلام مشاركتها في الثورة، وأقسمت أنها جماعة وطنية تحمل الخير
ولم تشارك في أي شر أو فساد هو يخص النظام القديم وحده، وأنها لم تكن جزءاً من ذلك
النظام القديم ولم يكن لها 88 كرسي في البرلمان ولا حاجة. أما أمام رموز النظام
القديم فقد ادعت العكس تماماً، ذهبت الجماعة أولاً لنائب الرئيس المخلوع بعد يومين
من انضمامها للثورة، وأكدت أنها عارضت الثورة في البداية ولم تنضم لها إلا من أجل احتواء
الأوضاع، وأقسمت أنها على استعداد للانسحاب من الميدان لتصفية الثورة بمجرد
الإشارة لها بذلك، مقابل بعض المكاسب السياسية المتواضعة للجماعة. ولكن الجماعة
والنائب فوجئوا بنجاح الثورة واختفاء المخلوع من الصورة، فتوجهت الجماعة مباشرة
للمجلس العسكري، ودللت على ولائها للنظام بجلوسها المبكر مع النائب واستعدادها
المعلن للانسحاب من الميدان وأحاديث قياداتها في الفضائيات التي قبلت بخطة المخلوع
بالبقاء في السلطة لمدة ستة أشهر، وأكدت للمجلس سيطرتها على الميدان واحتواءها للثورة،
وأقسمت له على الإخلاص والتعاون والنصح الأمين، ورشحت له مجموعة من الرجال
"الثقات" تكتب التعديلات الدستورية بما يرضي الله. وقامت المجموعة
بكتابة التعديلات تحت إرشاد الجماعة، بصورة تضمن أن تتم الانتخابات البرلمانية قبل
كتابة الدستور، بحيث تسيطر الجماعة على البرلمان قبل قيام أي أحزاب جديدة،
وبالتالي تهيمن على تشكيل تأسيسية الدستور، وتكتب العقد الاجتماعي الذي
"يسجل" ملكيتها للأرض، ويمكنها من مفاتيح الفيللا، ويجعل الدولة ملكية
خالصة لجماعة غير شرعية، لا تمثل نصف في المائة من الشعب. السرقة معروفة ومنتشرة،
لكن المذهل والشاطر هو من يسرق السريقة ثم يقوم بتسجيلها في الشهر العقاري رسمياً
لنفسه وعصابته.
من أرشيف 2012
24 أكتوبر 2012
نشرت في جريدة التحرير ثم ضاع السيرفير!