بناء آليات
التوافق للخروج من الأزمة
المشهد الآن خطير، ويحمل سيناريوهات مخيفة تهدد
مستقبل الوطن. كل طرف يريد استخدام الثورة أو الشعب أو السلطة أو القوة أو القانون في
التخلص من الأطراف الأخرى. كل سلطة تحاول نزع الشرعية عن السلطات الأخرى. كل فصيل
يحاول أن يقصي الأطراف الأخرى. البرلمان يحاول أن يعبث بالسلطة القضائية. والقضاء
يسحب الشرعية من البرلمان. تيار الإسلام السياسي يحاول التكويش على تأسيسية
الدستور. الإخوان انقلبوا على المجلس العسكري. والمجلس العسكري قد يقلب الطاولة في
وجه الجميع. والثوار يريدون إسقاط المجلس العسكري والإخوان معاً.
كل هذا يحدث نتيجة لقصور حاد لدينا في فهم فكرة
التفاوض وإدارة الصراع بصورة سلمية. الديمقراطية في الأصل ليست هدفاً في حد ذاتها،
بل آلية تفاوض مستمر، لاتخاذ القرارات الجماعية بصورة تضمن تحقيق الحد المقبول
لمصالح الجماعات والطوائف المختلفة، بما يقلل من الصراعات العنيفة داخل المجتمع. الانتخابات
والبرلمانات ما هي إلا أحد آليات الديمقراطية. فإذا عجزت الانتخابات عن تحقيق
توازن في تمثيل جماعات الوطن المختلفة داخل البرلمان مثلاً، وجب على البرلمان أن
يحاول استعادة هذا التوازن في تشكيل تأسيسية الدستور، وليس التعلل بأن نتيجة
الانتخابات "جت كده" وبالتالي من حق الأغلبية أن تستأثر بكتابة الدستور.
الشعب انتخب البرلمان ليشكل تأسيسية تعبر عن الشعب بتنوعه وليس لتعبر عن البرلمان
بأغلبيته المؤقتة التي قد تتغير غداً أو بعد سنوات.
بداية، لدينا مشكلة ثقافية: لدينا بُغض تلقائي
لفكرة الصراع، رغم أن الصراع هو ظاهرة طبيعية مفيدة للمجتمع وللتطور، طالما في
الحدود السلمية المعقولة. نعاني أيضاً من إنكار فطري لوجود أي مصلحة خاصة لأي طرف
أو حزب أو هيئة أو جماعة، رغم أنه من الطبيعي أن يكون للعمال مثلاً مصالح تختلف عن
أصحاب العمل أو المستهلكين، وترسيم الوطن لابد أن يتضمن تحقيق حد مقبول من المصالح
الخاصة لكل طائفة تعيش فيه. ومع الإنكار، يحاول كل شخص أو طرف أن يحقق أجندته
الخاصة في الخفاء، لأن المجتمع لا يحب الاعتراف بفكرة المصالح الخاصة بل ينكرها،
وتنشأ الصراعات المستترة وتعمل على الهدم الداخلي للمجتمع، كالتقيحات، تأكل في
أنسجة الجسم تحت قشرة هشة تخفي الصديد. يحاول البعض إذن أن ينكر وجود مصالح خاصة
من الأساس، ويجتهد ليقنعنا أنه يعمل فقط من أجل المصلحة العامة. ولكن ينشأ عن هذا
النكران، أن يبتذل كل طرف استخدام مصطلح "المصلحة العامة" و"الإرادة
الشعبية" و "الثورة" و "المصلحة الوطنية" ليعبر عن مصلحته
هو، فتنتشر الأجندات غير المعلنة، وتتوه الحدود الفاصلة بين المصالح المختلفة.
بداية حل الأزمة أن ننحي مصطلح "المصلحة
العامة" جانبا بصورة لحظية، ونسأل كل طرف عن مصلحته الخاصة، بل ونعترف أنه
ليس هناك أي عيب في وجود مصالح خاصة، ثم نبحث عن توافق يحقق الحد الأدنى المقبول من
المصالح الخاصة لكل طرف - ونعود فنسمي هذا التوافق "المصلحة العامة". هذا
"التوافق" لا يعني أن كل طرف سيحصل على كل ما يريده، بل يحصل على حد
مقبول، أعلى من الحد الأدنى. وهذا يتطلب وجود مائدة للحوار المجتمعي، وأن تجلس
عليها كل الأطراف، عمال وفلاحون ورجال أعمال وموظفون، إلخ. أما لو دفعنا أي طرف
خارج الحد الأدنى، سيقوم من على الترابيزة، بل ربما يقلب الترابيزة، ويلجأ لتعطيل
المنظومة، سواء بصراع عنيف، أو إضرابات واعتصامات وتظاهرات، يرفض فيها الاتفاق
المجحف من وجهة نظره، لأن ذلك الاتفاق لم يحقق له الحد الأدنى المقبول، أما
التوافق، فيعني أننا نعمل داخل مربع القبول، حيث تقبل كل الأطراف الاتفاق، ويرون
أنه يحقق حداً مقبولاً من مصالحهم.
كل طرف إذن لديه مصلحة خاصة ويريد تحقيقها وهذا
طبيعي - المشكلة عندما يصر طرف ما أن مصلحته هو أو انفراده هو بالسلطات- يحقق المصلحة
العامة. الصراع ينشأ عندما يريد طرف أو عدة أطراف أن يحققوا مصالحهم هم وحدهم،
وينفردوا باتخاذ القرار أو بالسلطة، بحجة أن هذه هي المصلحة العامة، فيدفعوا بباقي
الأطراف خارج "مربع القبول"، فينشأ الصراع العنيف. الحل ليس في إن
نستنكر وجود مصالح خاصة لأي طرف - بل في إعلان تلك المصالح والعمل على تحقيق أقصى حد
من المصالح الخاصة لكل الأطراف - بما يفوق الحد الأدنى المقبول لكل طرف. الحل ليس في
محاربة المصالح الخاصة لأي طرف واتهامه بأن لديه أجندة خاصة ومنع تحقيقها كما
اعتدنا - بالعكس – بل البحث عن توافق يحقق مصالح الجميع - هذه هي المصلحة العامة –
أن نعمل جميعاً في المساحة المشتركة – في مربع القبول.
دعونا نطبق مفهوم إدارة الصراع على المشهد
السياسي الموجود الآن في مصر. نحن في وضع خطير ومأزق دستوري شديد - كل سلطة ترفض الاعتراف
بالسلطات الأخرى وتهدد بسحب شرعيتها. كل تيار يدعي أنه وحده يمثل الثورة أو الشعب
وأن الباقين خونة ممولون من الخارج. محاولات نزع الشرعية عن الآخرين قد تكون ردود أفعال
ضد من يريد أن يحتكر وحده القرار والسلطة أو افتئات يهدف للاحتكار، سيان – لأن الحل
هو الشراكة وعدم احتكار أي طرف - وليس قبول الأطراف بطرف محتكر. محاولة الانفراد وإقصاء
الآخرين قد تبدو للحظة ممكنة – حتى تتنبه باقي الأطراف أنها هُمشت فيبدأ الصراع
وقد يقودنا لحرب أهلية لا قدر الله مثل ما حدث في الجزائر، أو محاولات لتقسيم
البلاد وتجربة السودان قائمة أمام أعيننا.
الوضع القائم يهدد بانزلاق البلاد نحو صراعات
عنيفة لأننا نرفض أصلاً المبادئ الأولية للعملية السياسية: الاعتراف بالآخرين
وبمصالحهم والجلوس على طاولة تفاوض للبحث عن المساحة المشتركة. تجربة الأشهر الماضية
أثبتت أنه لن يستطيع أي طرف أن ينفرد بالقرار ويقصي الآخرين - حتى لو معه شرعية الصندوق
أو القوة أو أحكام القضاء أو الميدان أو البرلمان. الأشهر الماضية أثبتت أننا
نحتاج لأن نبدأ مرة أخرى في بناء طاولة التفاوض المجتمعي بصورة أشمل تضمن وجود كل
أطراف المصلحة الوطنية.
حكم المحكمة الدستورية العليا بحل البرلمان،
رغم أنه حكم قانوني، ما كان ليحدث لو اجتهد البرلمان في تحقيق التوازن في
تشكيل تأسيسية الدستور. الحل كان بيد مجلس الشعب لشهور، بتشكيل تأسيسية تضم أعلام وعقول
مصرية تمثل المجتمع بتنوعه وليس أيد عددية مهمتها اصطناع أغلبية لأي طرف. وإذا
استمرت أزمة حل البرلمان، الخروج منها لا يكون بأن يستأثر المجلس العسكري
بالتشريع، بل بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت يضم ممثلين للتيارات السياسية وبعض مرشحي
الرئاسة الذين حصلوا على ثقة الشعب، مع ممثلين للمجلس العسكري والقضاء والثورة والنقابات
والهيئات الأخرى. بديل آخر هو أن يتم نقل سلطة التشريع بصورة مؤقتة لحكومة
ائتلافية متوازنة تضم مختلف أطياف المشهد السياسي، ليخرجوا علينا بتشريعات تضمن
شرعية وشمولية الانتخابات البرلمانية القادمة. هذا المجلس التوافقي المؤقت – أو
ذاك - لابد أن يخرج علينا بخطة لإنقاذ البلاد، بعد أن فشلت المرحلة الانتقالية
الأولى في تحقيق معظم أهدافها. التشريعات المؤقتة تعرض على مجلس الشعب القادم في
أولى جلساته ليقرها أو يعدلها أو يلغيها.
أما إذا أصر كل طرف على أن شرعيته هي الأعلى من
الأخرين، ستتمزق البلاد بينما يمسك كل طرف بجزء لا قيمة له، لأنه في هذه الحالة،
لا قيمة للجزء في غياب الكل. لا قيمة للبرلمان إذا قام القضاء بسحب شرعيته. لا
قيمة للقضاء دون ضمانات لاستقلاله وتشريعات سوية يمكن تطبيقها على أرض الواقع. لا البرلمان
ولا الميدان ولا مرشحو الرئاسة ولا المجلس العسكري ولا القضاء لهم شرعية مطلقة - كل
له شرعية محدودة ويمكن بسهولة أن يقوم الآخرون بالتشكيك فيها، إذا اتخذنا التشكيك
منهجاً لنا.
الحل الوحيد هي القبول بوجود كل هذه الأطراف الآن
والعمل معا للخروج بخطة لإنقاذ البلاد من مخاطر جسيمة سيحاسبنا التاريخ عليها. برلمان-ميدان-مجلس
عسكري-قضاء-مرشحي رئاسة إلخ، كل هذه الأطراف لها شرعية ما - وفي اتفاقهم يكمن الأمل
الوحيد - غير هذا سنستمر في حالة تنازع. لابد أن نعترف أن الميدان
وحده لا يستطيع إنجاح الثورة، وأن الرئيس أو المجلس العسكري أو البرلمان أو المجلس
الأعلى للقضاء لا يستطيع أي طرف منهم وحده أن يدير البلاد، نجحنا عندما كان هناك تأييد
شعبي ومؤسسي للثورة، وسنفشل عندما يتصور أي طرف أنه يستطيع وحده أن ينفرد بالقرار.
وصول أي شخص للرئاسة في هذه اللحظة وفي غياب اتفاق
واضح لشكل التوافق الوطني وضماناته - لن ينهي الصراع - بل ربما يأججه. كل طرف مهدد
إن وصل الطرف الآخر للحكم أنه سيضعه في السجن - التوافق إذن فيه مصلحة خاصة لكل طرف
فضلا عن مصلحة الوطن ككل! استبعاد أي طرف من مائدة الحوار - أو من المشاركة في السلطة
- معناه أن تستعد لمحاربة هذا الطرف عندما يحاول أن ينتزع حقوقه.
لابد أن تشعر كل مجموعة أنها ممثلة على
المائدة، لأن من ليس على المائدة - فهو في قائمة الطعام.