غزوة اليونسكو
لم أعلق بشيء أثناء المعركة الانتخابية لغزوة اليونسكو حتى لا يقال - المعارضة المصرية الخائنة العميلة تدعم المؤامرة الصهيونية الأمريكية - لكن الآن وبعد أن انتهت تلك المعركة بنتيجة مشرفة بالفعل لمرشح مصر وللجهد الدبلوماسي المصري الذي نجح رغم كل شيء ومهما كان رأينا فيه – نجح في حشد نصف الأصوات لصالح المرشح المصري الذي كان أقرب للفوز في كل الجولات الأربعة الأولى. والآن وبعد أن رمينا كل هذا وراء ظهرنا طبقاً للنصيحة - لابد أن نعود وننظر قليلاً للوراء ونحاسب أنفسنا ونتساءل عن السياسات الثقافية ليس فقط لفاروق حسني - ولكن للنظام بأكمله الذي جعل الثقافة - مثل التعليم والصحة والمرافق - مسئولية كل مخبول يبحث عن الثقافة في بلد كتب فيه طه حسين منذ 80 عاماً عن مستقبل الثقافة في مصر. لابد أن نتساءل لماذا عقمت مصر ثقافياً عن أن تلد أمثال طه حسين ولطفي السيد وعلى عبد الرازق والعقاد وقاسم أمين ومحمد عبده والمازني ويوسف إدريس ويحيى حقي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي والدكتور محمد حسين هيكل وأم كلثوم؟ أين الإذاعة المصرية القديمة ذات حديث الأربعاء بالمقارنة بالبرامج التليفزيونية لشيوخ إرضاع الكبير والتبرك بالبول؟
لقد تقهقرنا للوراء ثقافياً 200 عاماً على الأيدي الطاهرة لقادة وقواد النظام الشمولي الذي أمم كل شيء، الاقتصاد والسياسة والعمل المدني والإعلام والثقافة بل أمم العقل المصري ووظف "الإرشاد القومي" في خدمة غسيل المخ السياسي والديني على أيد أبطال وجهابذة مثل محمد حسنين هيكل وغيره ممن تولوا وزارات الثقافة والإرشاد القومي والصحف القومية المأممة التي أصبحت أبواقاً للنظام في حربه النفسية مع الروح الحرة للشعب – فذبح هؤلاء القواد الثقافة والمثقفين ودمروا الهوية القومية.
فاروق حسني بكل موضوعية حقق نتيجة جيدة في انتخابات اليونسكو بالنظر لمعطيات الأمور - لكن ما هي النتيجة التي حققها في معركة الثقافة في مصر؟ لا يمكن أن نتجاهل أن في عهده السعيد تصاعد الغزو الوهابي – صحيح جاء هذا التصاعد لأسباب اقتصادية اجتماعية سياسية - لكن ماذا فعل وزير الثقافة المصري ليطور الثقافة والمناعة الحضارية المصرية القادرة على تعميق الهوية المصرية الأصيلة والمتفاعلة أيضاً مع الآخر ومع العولمة؟ برنامج فاروق حسني لليونكسو تحدث عن الحفاظ على الثقافات واللغات القديمة، ولكن ماذا فعل فاروق حسني في الحفاظ على اللغة القبطية – المصرية القديمة، ولو كلغة اختيارية في المدارس أو حتى كشعبة في أقسام اللغات الشرقية، فنحن ندرس في كليات الآداب اللغات العبرية والفارسية والتركية والسيريانية والآرامية ولكن لا وألف لا للقبطية – مع أن اللغة القبطية هي الأقرب لأصل اللغات الأفروأسيوية (المسماة قديماً وحتى وقت قريب زوراً بالسامية والحامية وهو التصنيف العبراني الشوفوني)؟ ماذا فعل وزير الثقافة المصري لمنح الاعتبار للغة العامية المصرية – حفيدة المصرية القديمة والعربية – وهي اللغة التي نعاملها كلغة لقيطة رغم أن أولادنا وأمهاتنا وآباؤنا يتحدثون بها منذ مئات السنين، لأنها لغة عبقرية سلسة قادرة على التعبير عن كل شيء واستيعاب كل المتغيرات والاختراعات دون خجل أو إبطاء، ومع ذلك هي محرومة من التأليف والتوثيق والتنظير الأكاديمي أو الاستخدام الرسمي لأسباب سياسية؟
الكتابة والنشر والفكر في مصر أصبحوا وبالاً على الكاتب والناشر والمفكر - وكل ما فعلته الدولة هو أنها وفرت بعض الكتب القديمة بجنيه - وفي نفس الوقت تجاهلت حقوق المؤلفين أو همشت من تلك الحقوق فماتت حركة التأليف والترجمة إذ أصبح على المؤلف والباحث أن يبحث - ليس عن علم أو فكر أو فن أو إبداع جديد يقدمه - ولكن عن لقمة عيش من مصدر آخر، عن كسرات خبز يسد بها رمقه ورمق أولاده من خلال مهن أخرى - فالتأليف أصبح عالة مالية وعبء نفسي على المؤلف، والبحث أصبح نزيفاً مادياً ومعنوياً للباحث، والتفكير اصبح نكبة على المفكر الحر من كل النواح- والإقصاء لمن لا يطبل للسلطة وحكامها وزوجاتهم وأبنائهم وأصهارهم هو النتيجة الحتمية في واقع اللوغاريتم المعكوس. توفير الكتب بجنيه شيء جميل من ناحية تشجيع الطلب، ولكن ماذا عن تشجيع العرض؟ ماذا عن تشجيع الإنتاج؟ فالذي يريد أن يبقشش بتخفيض قيمة الكتاب يجب أن يبقشش من جيبه، وليس من عرق المؤلف أو الناشر، لأن انعدام العائد المادي على المؤلف جعله يبحث عن مصدر آخر للرزق ويهجر الكتابة أو يمارسها بصورة غير احترافية في وقت فراغه.
في ظل ولاية فاروق حسني الذي نحترمه كفنان ونتساءل عن مهارته كإداري ورؤيته كسياسي ومواقفه كمثقف – في ظل تلك الولاية التي دامت 23 عاماً – أين منح الدولة والمجتمع المدني للأفلام الجدية؟ أو الأفلام التسجيلية؟ أين منح الكتب والأبحاث؟ أين منح الفنانين التشكيليين والنحاتين والمثالين؟ أين منح إنتاج أفلام الكارتون للأطفال بعيداً عن غابات ماسبيرو والأعمال المتخلفة؟ أين الإنتاج الثقافي المصري في ظل سيطرة الدولة على وسائل الإعلام حتى الخاصة منها؟ في ظل ولاية فاروق حسني، ألم يتفش الفساد والتجارة في الآثار في وزارة الثقافة المصرية وباتت فضائحها المتتالية مادة للتندر الإعلامي؟ ماذا يقول هذا عن فاروق حسني المدير والسياسي؟
هل طبيعي أن يفوز وزير ثقافة جلس على كرسيه لمدة 23 سنة في هذا الإطار - بصرف النظر عن أنه مسلم أو مسيحي أو بوذي، مصري أو عربي أو إفريقي – شمالي أو جنوبي؟ مع تقديري لفاروق حسني الفنان - لابد أن أتساءل عن فاروق حسني السياسي التنفيذي في مجال الثقافة - فمنصب مدير عام اليونسكو هو منصب سياسي ثقافي - لأنه يتطلب وضع سياسات ثقافية للعالم والترويج لها وسط الدول الأعضاء بصورة سياسية - فالمنصب نفسه هو منصب سياسي في مجال الثقافة، مما يحتم السؤال – ما هي السياسات والرؤية الملهمة التي قدمها فاروق حسني للثقافة في مصر وكيف نجح في تحويلها لواقع ثقافي ملموس؟
صحيح قد يكون فاروق حسني خسر غزوة اليونسكو بسبب رد فعل عصبي منه احتوى على كلمة "حرق" و"يهودي" في نفس الجملة، وهو ما اعتذر عنه، ولكن المنظمات الصهيونية أو اليهودية أو الأمريكية لم تغفر له ذلك. قد يكون هذا صحيحاً بدرجة ما.
ولكن لو افترضنا أن فاروق حسني لم يكن سيء الحظ ولم يتلفظ بهذين اللفظين المحرمين، بل وبذل جهداً في التطبيع مع إسرائيل، كان فاروق حسني سوف ينجح في الفوز بغزوة اليونسكو، ولكن، ماذا يقول هذا للأجيال القادمة؟ هل يشجع على الثقافة الحرة والإبداع أم على مسايرة الأنظمة الدكتاتورية واستخدام الثقافة كسلاح في يدها لتطويع الشعب ومنعه من تغيير الوضع القائم، مهما كان سيئاً؟ هل يشجع على الفكر الحر أم الوقوع في براثن الابتزاز السلفي الفاشي؟ عندما فازت وزيرة الثقافة البلغارية كان وراؤها كفاحاً ضد سلطة شيوعية غاشمة وقفت المرشحة البلغارية فيه مع الحرية والثقافة والمثقفين، فأين هذا من كفاح فاروق حسني في التمرغ تحت أقدام سلطة شمولية بابوية دكتاتورية وخضوعه ومهادنته للابتزاز السلفي الوهابي؟ لقد خسر فاروق حسني غزوة اليونسكو لأسباب قد لا تكون موضوعية، لكن النظام الكوني كثيراً ما يعطي الأشارات الصحيحة من خلال أغرب الطرق والمسالك!
نعم لابد أن نعترف أن الكون يعمل بصورة غامضة أحياناً.