دلف إلى غرفة المكتب مجموعة من رجال «العائلة»، ومن مكانها فى الغرفة الصغيرة الملحقة بمكتب البيت، حيث كانت تعد كأسين لها ولزوجها، استطاعت «كاى آدامز» أن تلمح «كليمنزا»، قائد إحدى الكتائب التابعة للعصابة، وهو ينحنى فى تقديس ليقبل يد زوجها، «مايكل كورليون» ويناديه باللقب الرسمى «دون كورليون» الذى استحقه بجدارة دموية بعد اغتيالات اليوم، كزعيم للعائلة -عائلة كورليون لأعمال الجريمة المنظمة- المافيا. وخطا نحوها «آل نيرى» الحارس الشخصى الكتوم لزوجها. وقف آل نيرى للحظة عند الباب وانحنى أمامها فى احترام ظاهرى، مبطن برسالة حدية، تقصى كاى عن «أعمال» زوجها ومنظمته الإجرامية، وأغلق «آل نيرى» الشرطى السابق -يا للمفارقة- الباب الذى يفصل المكتب بالغرفة الصغيرة، التى وقعت فى ظلام دامس.
وقفت «كاى آدامز» فى الظلام. عند تلك اللحظة علمت «كاى» أنها ستعيش فى هذا الظلام طويلًا، وانغلق الباب بينها وبين حياة زوجها - الحياة التى اتضح الآن جليًّا طبيعتها الإجرامية المشبّعة بالعنف. زوجها الذى أقسم لها منذ قليل أنه لم يكن الآمر وراء موسم القتل الذى اجتاح المدينة فى ذلك اليوم - وشمل زوج أخته هو شخصيًّا، فقامت على إثر ذلك لتعد مشروبين ليلتقطا أنفاسهما ويفيقا من الاتهامات الكارثية التى ألقتها «كونى» -أخت مايكل- عليه فى نوبة اختلط فيها الحزن بالغضب الهيستيرى بعد موت زوجها على يد رجال أخيها.
وأصبح «دون كورليون» زعيم المافيا فى نيويورك والولايات المتحدة بلا منازع، بعد أن قتل جميع رؤوس عائلات المافيا الأخرى عقابًا لهم على تآمرهم ضد أخيه وأبيه وعائلته. وتجلى هذا فى إشارة رمزية، وأحد الطقوس الموحية، عندما انحنى قادة العصابة من المجرمين الأشداء يقبلون يد الدون، علامة على الخضوع المطلق لزعيم العصابة. يا للمفارقة.
عندما انغلق الباب، وقعت «كاى» والغرفة كلها فى الظلام، إيذانًا بمشهد النهاية. لكن كما علمنا من قبل، هناك مشاهد كثيرة تلى كل مشهد يدعى أنه مشهد النهاية.
الزوجة ليست آخر مَن يعلم
هل كانت «كاى آدامز» -مدرسة الأطفال القادمة من قرية صغيرة هادئة فى ولاية نيوهامبشير- حقًّا غافلة عن طبيعة حياة زوجها كما توحى الصدمة التى بدت عليها قرب نهاية الجزء الأول من فيلم «الأب الروحى»؟
وهل صدقت فعلًا ادعاءات زوجها أنه سيحول كل «أعمال» العائلة من الجريمة المنظمة إلى إطار «الشرعية» -ويترك «تجارة زيت الزيتون» فى نيويورك والساحل الشرقى- نازحًا إلى لاس فيجاس بولاية نيفادا، حيث بدأ فى شراء الفنادق وكازينوهات القمار التى أصبحت شرعية فى تلك الولاية.
وهل يمكن أن تنشأ أعمال شرعية ببنكنوت ورأسمال مخضّب بدماء الجريمة؟
هل شباب ورجال ونساء جماعة الإخوان -مثلًا- غافلون عن الطبيعة الإجرامية لمنظّمتهم؟ هل لم يعلموا بميليشياتها وجرائمها وبعضهم جزء منها يتلقّى التدريبات العسكرية؟ هل لا يعلمون بطبيعتها الأخطبوطية الدولية؟ هل هم غافلون عن ملكيتها لشبكة واسعة من الشركات المنغمسة فى غسيل الأموال؟ من أين إذن تأتى مئات الملايين التى تنفق عليهم وعلى دعم مرشحى الجماعة فى الانتخابات منذ عقود؟ وكيف يمكن تبريرها؟
الواجهة الشرعية
لم تفتقر أعمال «فيتو كورليون» الأب إلى واجهة شرعية، فقد استخدم الوالد الراحل ومؤسس عائلة كورليون تجارة زيت الزيتون المستورد من صقلية كواجهة «شرعية» لأعماله «الأخرى»، من تهريب الخمور فى أثناء فترة الحظر، إلى استغلال «النقابات» -يا للمفارقة- والابتزاز والبلطجة وجمع الإتاوات من أصحاب الأعمال -يا للمفارقة- من أجل أن تتركهم الجماعة -أقصد العصابة- وتسمح لهم بالعمل فى مناطق نفوذها. ومن شدة «تواضعه»، أو ربما لإبعاد نفسه عن الصورة، لم يطلق فيتو كورليون اسمه على شركة استيراد زيت الزيتون، بل استخدم «جنكو» أحد «إخوانه» فى العصابة -إمعانًا فى المفارقة- واحتكرت شركة «جنكو لتجارة الزيت» استيراد زيت الزيتون من صقلية وتجارة الجملة له فى الساحل الشرقى لأمريكا، من خلال سلسلة من الخبطات الاستراتيجية، التى قدّم فيها الدون «عروضًا لا يمكن رفضها» لمنافسيه، ومن «رفض» تلك العروض الكريمة، لاقى منيته واضطر ورثته لقبول عروض مخفّضة. يا للمفارقة. ما أشبه روايات المافيا بعناوين الصحف خلال التسعة أشهر الأخيرة.
شلنات وبرايز معدنية فى جيب الدون
وعلم «فيتو كورليون» فى مرحلة مبكرة، أنه فى الواقع يعمل بـ«السياسة»، وأن سلطته على أتباعه من أعضاء العصابة فى عالمه «الموازى»، لا بد أن تتكامل مع بسط سلطته على العالم الرسمى، فنشط فى «شراء الساسة» وأعضاء الكونجرس -البرلمان الأمريكى- يا للمفارقة! ولم يكتفِ بهذا، بل تغلغل -تعميقًا للمفارقة- فى النقابات، ووضع على «البايرول» رواتب سخية لبعض الفاسدين من رجال الشرطة والقضاة والصحفيين، كما شمل برعايته الأسر المحتاجة والشباب النابه فى الأحياء الفقيرة. يا للمفارقة.
ومن الأقوال التى لا تنسى، «لا بد أن تدعنا نسحب الماء من البئر - بمقابل طبعًا فلسنا شيوعيين!»، وذلك عندما طلب زعماء العصابات الأخرى من «الدون» أن يشركهم فى الاستفادة من «خدمات» الساسة والقضاة الذى يمتلئ جيب «الدون» وقبضته بهم مثل الشلنات والبرايز! يا للمفارقة.
الأومرتا - القانون الصقلى للصمت والسرية
لقد احتل العرب صقلية لقرون، وربما من هنا يأتى أصل كلمة «الأومرتا»، قانون الصمت والكتمان والسرية. «أُمرت بالسرية والكتمان» حيث يقسم أعضاء جماعة المافيا على السمع والطاعة وكتمان أسرار الجماعة. يا للمفارقة. وملخّص قانون الصمت يتجلّى فى رسالة نصّية عبر الموبايل لأحد حراس قائد من قيادات جماعة إخوانية شقيقة - فور القبض عليه: «لا تذكر اسم الشاطر. لا تذكر اسم الإخوان». ويكشف الموبايل عن عشرات الرسائل بتكليفات لنقل الأسلحة وتوجيهها للمناطق المختلفة حيث تعمل الجماعة. يا للمفارقة.
حلم الرئاسة
تتجلى عبقرية فيلم «الأب الروحى» - فى أنه قد نجح فى جذب تعاطف المشاهد العادى مع دون كورليون وجماعات المافيا. يا للمفارقة. وقبل وفاته، يظهر فيتو كورليون مع ابنه وخليفته المرتقب «مايكل كورليون»، فى مشهد أبوى مؤثّر، ويعتذر له: «لم يكن هناك متسع من الوقت. كنت أحلم أن يأتى اليوم عندما يكون هناك السيناتور كورليون، كونجرسمان كورليون، بل الرئيس كورليون، لكن لم يكن هناك متّسع من الوقت». ويربت مايكل على أبيه، قائلًا: «سنصل إلى هذا. لا تقلق. سنصل إلى هذا يا أبتاه».
ومن المفارقات، أن يتحقَّق حلم الدون كورليون بعد سنوات وعقود. ليس فى أمريكا ولا حتى فى صقلية، بل فى بلاد أخرى قريبة من صقلية.
مشهد ما بعد النهاية
لكن بعد الصعود والغنى الفاحش والسلطة المتنامية، بعد المشهد الذى يدعى أنه يصور النهاية، تتالى مشاهد وتتعاقب فى سخرية قدرية، حيث يموت الدون بعد أن تسبّب فى قتل أخيه وابنته، وتنتهى عصابته ويسقط من على كرسيه جثة هامدة، يتشممها كلب ضال عابر.
■ ■ ■
هذه رؤية مصرية -لأسطورة مافيا صقلية- وأنشطتها «الشرعية».