يتلخص تفسيرنا لكل مصيبة أو كارثة تحدث لنا، أو هزيمة نتعرض لها، فى جملة واحدة: مؤامرة خارجية من العواذل الذين يكرهوننا ويتسببون فى كل مشكلاتنا، بدءا من حصة نهر النيل وإلى انتشار الفياجرا والبانجو والحشيش والأغانى الهابطة. ثم قفزنا خطوة كبيرة إلى الأمام، عندما بدأ البعض يحاول أن ينسب الثورة نفسها، التى ربما تكون من أهم ما أنجزه المصريون منذ أيام أحمس، إلى مؤامرة خارجية، وبدلا من أن نستفيد بالثورة فى بناء نظام جديد يطلق طاقات الشعب المصرى الخلاقة ويوظّفها فى الوصول للتقدم، انشغلنا بإثبات عمالة الثوار والحركات الثورية، بدءا بشقة العجوزة وانتهاء بمعسكرات جمهورية الصرب، ثم تفرغ بعضنا لهدم الأضرحة وإحراق الكنائس، وافتعال معركة وهمية حول تطبيق الشريعة والفتح الثانى علامة على دخول مصر حديثا لحظيرة الإسلام، رغم أن 85% على الأقل من المصريين مسلمون منذ قرون، والله أكبر ولله الحمد.
وواقع الأمر أن مصر بالتأكيد لها أعداء لا يريدون لها أن تتعافى، لأن فى تعافيها نهضة للشرق كله وقيام عملاق نائم من سباته السلفى الوهابى العميق، بما يهدد مصالح ناس ودول كبيرة ومهمة، تريد أن تمصمص الموارد الطبيعية فى المنطقة لآخر قطرة نفط بسعر التراب أو أقل إن أمكن، ووجد هؤلاء أن هناك طريقة لطيفة جدا وفعالة وريحتها مسك وعنبر يمكن من خلالها تخدير الشعوب وربطها بالسلاسل، وعثروا على ضالتهم فى كتب ومتون صفراء عمرها عشرات القرون، يحتكر تفسيرها شيوخ فسدة، يقتسمون السلطة مع حكام لا هَمَّ لهم سوى الحفاظ على عروشهم مقابل ضمان مصالح أعداء الأمة، وفى هذا يستخدمون هؤلاء الشيوخ الدجالين، الذين لا عمل لهم سوى تحريم الحلال وتحليل الحرام، فعندهم مثلا أن عمل المرأة وقيامها بقيادة السيارة وكشف وجهها حرام وكفر، بينما اغتصاب طفلة صغيرة لم تبلغ العاشرة تحت اسم الزواج هو حلال بلال، وهكذا يقلبون منطق الأمور والفطرة السليمة حتى تنشغل الشعوب لا فى البحث والتقدم والإبداع، لكن فى أمور أهم بكثير، مثل صفات ومهامّ الثعبان الأقرع الذى يستقبلك فى القبر بعد وفاتك، وأىّ قدم يجب استخدامها فى دخول المرحاض فى حياتك، وما هو أنسب دعاء لركوب الأسانسير والسيارة والطيارة والمرجيحة فى تنقلاتك ونزهاتك.
تعريف المؤامرة أنها خطة سرية بين مجموعة من الأشخاص أو الهيئات لإلحاق الضرر بآخرين، ولكن عندما تكون الخطة معروفة، والأعداء ظاهرون لكل ذى عين، والثعبان موجود فى الجحر وعضاته «معلّمة» فى أيدينا، وما زلنا إلى الآن نحاول التعافى من لدغاته القديمة وسمه الزعاف، هنا لا تكون المشكلة فى المؤامرة ولا الأعداء ولا حتى الثعبان سواء كان أقرع أو مسبسب شعره، هنا المشكلة تكون فينا، ومصدر الخطر الأكبر لا يصبح من العدو الخارجى، لأن خطر العدو الخارجى موجود ومعروف دائما وأبدا، بل تصبح الكارثة فى حصان طروادة ومن بداخله، الذين تسربوا داخل أسوار المدينة متخفين تحت لحاهم المشعثة وجلابيبهم القصيرة، ولا همّ لهم سوى تمهيد البلاد للاحتلال الخارجى والتقسيم، وتكفير أهلها وتحويلهم إلى طوائف متناحرة متصارعة، فعلوا هذا فى أفغانستان، وفى السودان، وفى الصومال، وها هم الآن أهلى وعشيرتى من الجماعات الجهادية الوهمية فى سيناء، مدججين بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، لا همّ لهم سوى الهجوم على الأهالى وكمائن ومنشآت قوات الجيش والشرطة، وإطلاق بعض الصواريخ العمياء عديمة الأثر على صحراء إسرائيل، ليعطوها ذريعة لمهاجمة مصر، فتجد الأرض خالية ممهدة، بعد أن قام هؤلاء المجاهدون الأبرار، بمهاجمة وإضعاف أى قوات دفاعية.
على مدار التاريخ وُلدت حضارات وصعدت وهبطت لتصعد حضارات أخرى وتهبط الأولى وقد تنقرض، فى دورات مشهودة، وهنا يجب أن ندرس جيدا أسباب صعود واضمحلال مثل تلك الحضارات ووصول بعضها للفَناء. وسنستخدم هنا كلمة «الثقافة» Culture للتعبير عن الحل الحضارى الذى يمكّن أمة ما من البقاء، بينما تندثر أخرى. ونلاحظ أن كلمة Culture بهذا الاستخدام لا يوجد لها مقابل واضح فى اللغة العربية. فالثقافة بما تعنيه من آداب وفنون تختلف عن «الحل الحضارى» بما يعنيه هنا من «طريقة الحياة».
الثقافة بمعنى الحل الحضارى أو «طريقة الحياة» تشمل «مجموعة المبادئ والقيم والطبائع والسلوكيات والقناعات الفكرية والعقائد والعادات والتقاليد ونظم التفاعل الاجتماعى والسياسى والاقتصادى التى تتبناها جماعة ما، باعتبارها تمثل الإجابة أو الحل الحضارى لمشكلة البقاء». وعندما ينحرف الحل الحضارى عن ذلك المسار مكانا أو زمانا أو يتخلف عنه إيقاعا، مع الانشغال بتوافه الأمور وقشورها، وتطبيق حلول كانت تصلح لأزمنة أخرى أو حواضن حضارية ذات صفات جغرافية مختلفة، فإن الأمة تعجز عن مواكبة متغيرات البيئة، أو الوقوف أمام المنافسة الخارجية، وتقل درجة المناعة الحضارية، وتصبح المجموعة فى خطر يهدد بقاءها، وتكون عرضة للغزو والتبعية، تماما مثل الجسم الإنسانى، الذى يصبح عُرضة للمرض عندما تضعف مناعته الداخلية.
فالمناعة الحضارية تعبِّر عن قدرة أمة ما على مقاومة الأخطار الخارجية، وتحقيق تفوق حضارى نسبى، كنتيجة لمجموعة من العوامل المعنوية والمادية. فوجود قيم حضارية تتناسب مع تحديات الزمان والمكان، ووجود حراك فكرى وآليات للتطوير المستمر، وقدرة المجتمع أو الأمة على الانتخاب الطبيعى وإفراز أفضل العناصر والسلوكيات والنظم لتدير حياتها، يسمح بظهور قيادات طبيعية ورؤى مستقبلية تضمن البقاء والتفوق، ونظام سياسى رشيد يوازن بين الاستقرار والتطور، على أسس من العدالة والإخاء والتعايش السلمى، وينتج عن هذا كله تقدم فى كل المجالات بما يضمن الدفاع عن الأمة وبقائها والعكس أيضا صحيح.
أما عندما تتجمد أو تتدهور قيم المجموعة بحيث تصبح مع مرور القرون غير مناسبة لتحديات الزمان والمكان والبيئة التى تغيرت عبر مئات السنين، أو تستعير قيما قادمة من حواضن أخرى، أو تنفصم المجموعة عن نواتها الروحية أو الثقافية الحقيقية بالتشبث بالمظاهر والطقوس مع إهمال الجوهر بل والابتعاد عنه، وتغرق فى الغيبيات والخرافات، وتجرّم الفكر والإبداع، وتؤمن بالحلول التى نجحت فى ما سلف بصورة عمياء وتنكر واقع ومنطق الحاضر، وترسّخ تجميد الفكر، وتحارب الإبداع والتغيير وتعاقب من يروّج لهما، فإنها تعجز عن استلهام وتحقيق رؤية تضمن بقاء المجموعة.
وبناءً على تعريف المناعة الحضارية بهذه الصورة، فإن هزائمنا المتكررة فى مختلف المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والرياضية والعلمية والتقنية، إنما هى انعكاس ليس فقط لعدوان أو تآمر الآخرين علينا، بل هى فى الأساس انعكاس لضعفنا الثقافى وتدهور مناعتنا الحضارية ووجود فجوة حضارية بيننا وبين الآخرين، تجعلنا ندخل المعركة فى كل مرة خاسرين فى مواجهات محكوم علينا فيها مسبقا بالفشل.
ولا شك لدىَّ أن الشعب المصرى قادر على تطوير ثقافته وطريقة حياته لتخطى هذه الفجوة أو الكبوة الحضارية، بدليل ما حدث فى ثورة يناير وما بعدها، بشرط أن نعترف أولا بالمشكلة ونتوافق حول رؤية لحلها.
ما السبيل للخروج من المعضلة الحضارية؟ بداية، لا بد أن نبدأ فى إعادة النظر إلى هذه القيم المختلة الفاسدة، التى يحاول أن يسوقها إلينا المخابيل من أتباع الشيوخ إياهم، وإعمال الفكر والفطرة السليمة فى كل ما يطرح علينا من أحكام وعادات وتقاليد، والسعى الحثيث لوضع أساس دستورى يحافظ على وحدة مصر من خلال احترام تنوعها وهويتها المتفردة، وبناء روابط الانتماء من خلال نظام يرسخ العدالة الاجتماعية ويقوّى النسيج المجتمعى المهترئ، والاتفاق على عقد اجتماعى يربط أفراد الأمة المصرية بعضهم ببعض، ويؤكد انتماءها العربى والإسلامى والإفريقى والمتوسطى، ويحرص على تمثيل متوازن لجميع الطوائف فى منظومة حكم شرعية، دون إقصاء لأى طرف أو هيمنة لأقلية أو أغلبية، وصياغة رؤية لمستقبل البلاد، تنطلق من شخصيتها ومميزات المكان العبقرية التى تحظى بها، وإعادة ترسيم العلاقة بين الدولة والمواطن من خلال إعادة تصميم المنظومة التشريعية والنظم الإدارية والبنيان السياسى للدولة، لإطلاق الطاقات الكامنة وتمكين الإنسان المصرى الصانع الحقيقى لأى نهضة مأمولة.