الحق فى الجمال - وائل نوارة - التحرير
مدينون للجمال باعتذار، وإعادة الاعتبار.
فطر الله الروح تتغذى على الحب والجمال. وعندما نزيح الجمال جانبًا ليصبح القبح هو الخيار الوحيد للوجود المادى، يتدهور البقاء المادى نفسه تدريجيًّا حتى تفنى الأمة أو تكاد. لأن الأمم تبنى على الروح الإنسانية.
ونحن الآن نكتب دستور الأمة المصرية: هل هناك فعلًا ما يسمى بالحق فى الجمال؟ والحق فى الحق؟ والحق فى الحلم والكرامة والإنسانية؟ ماذا عن الحق فى الأهمية؟ أن كل شخص -بل كل حياة- مهمة فى ذاتها، ويجب أن نحتفل بوجودها؟
الجمال قيمة رئيسية فى منظومة «ماعت» التى شكلت الأساس الثقافى والأخلاقى للتوازن والبقاء فى الحضارة المصرية القديمة. نجد هذا واضحًا فى عمارة المعابد، واللوحات الجدارية والتماثيل التى احتفلت بالجمال فى الإنسان والنيل والزرع والطبيعة. فى الرجل والمرأة والحيوان والنبات والأرض والنهر العظيم.
إذن، كيف اختفت هذه القيمة من حياتنا، وصار القبح شعارًا لوجودنا، يعلن عن نفسه فى كل مناسبة ودون مناسبة، فى الكتل الخرسانية القبيحة، فى العشوائيات المتغلغلة فى كل شىء فى حياتنا، فى قبح لغوى ولفظى وابتذال أدبى وعاطفى؟ فى اختفاء المساحات الخضراء والاعتبارات الجمالية تحت مبررات اقتصادية وسياسية عديدة. أين إعادة الاعتبار للجمال فى مشروع النهضة أو فى أى مشروع سياسى أو اقتصادى آخر؟ وهل يمكن أن نبنى نهضة على القبح والأرف المخفى والمعلن؟
لقد تعرّض الجمال لعدوان من الجميع. دعاة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، على ما يبدو رأوا أن الجمال والأناقة ترف برجوازى لا يخص الفقراء، فشيّدوا مجمعات المساكن «العمالية» على نموذج واحد، الصندوق أو الكفن الخرسانى الشهير باسم نموذج 6 -عبارة عن متوازى مستطيلات ترابى اللون، قبيح تنشع المجارى من جنباته لتعطى لكل مار صورة متكاملة عن حياة قاطنيه، باعتبار أن ليس لهم الحق فى الجمال، رغم أن العدالة الاجتماعية يجب أن تكون عدالة فى توزيع وانتشار الجمال ليستمتع به الجميع.
المتأسلمون والمتاجرون بالدين، رأوا فى الجمال والفن وسواس الخطيئة، وملهاة عن ذكر الله، فاجتهدوا فى إخفاء الجمال وتقبيح الوجود والوجوه والأزياء والأرواح شكلًا وموضوعًا، باعتبار أن الزهد فى القبح، وعلامات الصلاح لا بد أن تظهر فى اللحية المشعثة والجبين المكفهر، وطاردوا الفن والفنانين والأدباء والمبدعين وكفّروهم أجمعين، واحتفوا بعذاب القبر والثعبان الأقرع، رغم أن الله جميل يحب الجمال، وفى الكون آياته التى تهدينا لحكمته فى كمال صنعه وجمال الطبيعة التى خلقها لنا بروعة تهدينا لوجوده وكماله تعالى عما يصفون.
المتاجرون بآلام الكادحين، أعلنوا أن التفرد والمساحة الفردية والملكية الفردية هى محاولة بورجوازية آثمة لتميز المترفين الفاسدين، عن العاملين الكادحين، رغم أن العمل الذى يخلو من الجمال ضعيف أو معدوم القيمة ولا يوفر للكادحين سوى الكفاف ويحاصرهم فى وجود هامشى قبيح. وبالتالى لا عجب أن تجتهد الدولة بكل أجهزتها فى نشر القبح والترويج له، سواء فى المدارس أو الكتب القبيحة الخالية من أى مسحة موهبة أدبية أو فنية. حجة الدولة أن الجمال مكلف ولا نحتمل نفقاته، رغم أن الجمال تكلفته الرئيسية فى التأمل والتصميم والتفكير قليلا قبل التنفيذ، الذى يمثل التكلفة الرئيسية، ورغم أن انتشار الجمال يحسن من صورة الدولة ومن القيمة المضافة والقدرة التنافسية لها ككل.
البعض فسّر مقال: «متحرشون حركة احتجاجية أبيحة»، بأننى أرجع مشكلة التحرش للأزمة الاقتصادية -رغم أن المقال بأكمله يتحدث فى الأساس عن مشكلة فى الثقافة والقيم.. وهى تفشى القبح والنفاق والتدين المظهرى- على حساب الجمال والمساحة الفردية. إذا كانت المشكلة هى القبح والنفاق والمظهرية على مستوى المجتمع، واغتيال المساحة الفردية على مستوى الفرد، فما هى الحلول؟ قد تكون فى إعادة الاعتبار للجمال كقيمة معنوية ومادية أيضا -على المستوى الثقافى والقانونى والتنظيمى- الإعلامى والتعليمى.. بمعنى: هل الكتب التعليمية تهتم بالجمال والأناقة كقيمة فى المناهج، أو كمعيار لتصميم الكتاب نفسه؟ هل القواعد التى تنظم التخطيط العمرانى والبناء فى مختلف الأحياء السكنية تراعى الاعتبارات الجمالية والمساحات الخضراء والجمال الكلى؟
وعندما نتحدث عن الاعتبارات الاقتصادية، فنضحى بالجمال مثلًا بحجة تخفيض التكلفة، يجب أن ننظر إلى الناحية المقابلة، وندرك أن الجمال والتصميم والإبداع يحمل فى طياته جل القيمة الاقتصادية. مشكلتنا ليست مشكلة اقتصادية، بل إن المشكلة الاقتصادية هى أحد أعراض المشكلة، مشكلتنا ثقافية فى الأساس، وبالتالى حلها ثقافى، وبدايته هى استعادة التوازن فى منظومة القيم المصرية الأصيلة، بعيدًا عن الانحرافات الوهابية القبيحة، وربما تكون بداية عودة الروح تكمن فى الإصرار على هذا الحق الإنسانى المصرى الأصيل: الحق فى الجمال.
No comments:
Post a Comment