تمصير الحوار مع
وزير الاستثمار
بعد الاستئذان، دخل مساعد الوزير يحمل مجموعة من
التقارير ووضعها أمام الوزير. قطب الوزير حاجبيه، وطلب من المساعد أن يتركه
ليتفحصها. دفن الوزير رأسه بين راحتيه وتنهد. وفجأة بدأ الوزير يكلم نفسه بصوت
مسموع: "ماذا يريدون؟ هل يحاولون تخريب الإصلاح الاقتصادي؟ أما يكفينا الحروب
الضارية من الحرس القديم داخل حزبنا حتى تأتي أحزاب وحركات المعارضة وتقف بدورها
ضد الإصلاح؟" وتذكر الوزير رحلته إلى أمريكا في الشهر الماضي، وما لاقاه من
متاعب بسبب ما ادعاه الأمريكيون من قمع الحكومة المصرية للمعارضين، سواء بالسجن في
طره، أو الحصار في وسط البلد، أو تكسير العظام في كفر صقر! وفجأة قرر الوزير أن
يفهم بنفسه لماذا تتصرف المعارضة بهذه الطريقة.
ارتدى الوزير ملابس بسيطة ونظارة قاتمة، وخرج من منزله
متخفياً عن الحرس عبر السلم الخلفي للمبنى. اتجه الوزير لندوة بمقر أنشط أحزاب
المعارضة، وجلس ينتظر بدء الحوار. جلس الوزير لما يقرب من ساعة كاملة في قاعة غير
مكيفة تمتلئ بمئات من البشر في انتظار المحاضر، حتى كاد يشعر بالاختناق من رائحة
العرق وتلامس الأجساد ولكنه قرر أن يتحمل ليفهم ما الذي يجعلهم ينتظرون والأهم، ما
الذي يغري المعارضة "بتخريب" الإصلاح الاقتصادي. من حوله كان الحاضرون
يتغلبون على ملل الانتظار بالخوض في أحاديث السياسة والاقتصاد، ويتندرون بقصص
كوميدية لفساد كبار وصغار مسئولي الحكومة، وقصص درامية لمن وقعوا ضحايا للروتين
والبيروقراطية وطول إجراءات التقاضي. العامل المشترك الوحيد بين القصص الكوميدية
والدرامية كان دعاء لله يتكرر بانتظام "بأن يخرب العلي القدير بيت الحزب
الحاكم ومن عليه ويأخذ رجاله أخذ عزيز مقتدر". سأل الوزير نفسه ... لماذا كل
هذا الكره؟ ترى ماذا يفعلون بي إن اكتشفوا أنني من الحزب الوطني؟ وجالت في خاطره
أهوال مرعبة من السحل والضرب وتكسير العظام، فتحسس النظارة القاتمة في حركة لا إرادية،
وطمأن نفسه بأن الشعب المصري طيب ولا يميل للعنف وخاصة الطائفة الليبرالية التي
يحضر اجتماعها.
وفجأة قرر الوزير أن يبدأ حواراً مع جاره وكان رجلاً في
منتصف العمر تبدو عليه مخايل عز قديم. "ما رأيك في الإصلاحات الاقتصادية
الجديدة؟" نظر إليه الرجل في ريبة ثم قال: "أي إصلاحات؟" تحمس
الوزير وقال: "الجيل الثالث من الإصلاحات الاقتصادية" تضاعفت ريبة الرجل
وفكر مليا ثم أشار بيده متضايقاً لنهاية القاعة وقال: "الأمن يجلس في نهاية
القاعة من فضلك!" وعلى ذكر الأمن التفت كل الرءوس نحو الوزير في غضب فأسرع
بنفي التهمة: "والله العظيم أنا موش أمن ولا حاجة" فرد شاب غاضب:
"أمال إيه نظارة المخبرين اللي انت لابسها دي؟" خلع الوزير منظاره
محاولاً تبرئة نفسه وفجأة صرخ الشاب: "يا نهار أسود ... ده ... ده وزير
الاستثمار!" تراجع الجميع وكأن الوزير يحمل مرضاً معدياً حتى كونوا شبه دائرة
حاصرت الوزير، فلتت أعصاب أحد الحاضرين وبدأ يقترب من الوزير وهو يصيح بعبارات
غاضبة وقبل أن يفتك بالوزير انشقت الأرض عمن تبين فيما بعد أنه المحاضر المنتظر وأحد
قيادات المعارضة، واتجه المحاضر رأساً للوزير لينتشله من وسط التجمع الغاضب وساقه
نحو المنصة.
"نرحب بالسيد الدكتور وزير الاستثمار الذي يشرفنا
في ندوة اليوم." قالها المحاضر في
لهجة حاول بها أن تكون طبيعية قدر المستطاع ولكن الهمهمات كانت لا تزال تتردد في
القاعة. "سيادة الوزير سوف يحدثنا عن ... ما هو موضوعنا اليوم سيادة
الوزير؟" تنحنح الوزير واضطر أن يساير المحاضر ... "أود أن أتحدث عن
الجـيل ... أعني عن الإصلاحات الضريبية والجمركية وأثرها في تشجيع
الاستثمار!" بدأ الوزير يتحدث وأسهب في امتداح المناخ الجديد الذي سوف يعمل
على جذب المستثمرين من الخارج والمليارات التي سوف تمطرها السماء علينا قريباً. وقبل
أن يختتم كلامه تردد قليلاً ثم استجمع شجاعته وقال: "وللأمانة، يجب أن أذكر
أن الاحتقان السياسي والمظاهرات التي نراها قد تزعزع الاستقرار، على الأقل في ذهن
المستثمر الأجنبي، مما قد يؤدي إلى عدم الاستفادة المثلى من هذه الإصلاحات، كما أن
المعارضة تضخم من بعض الأحداث أمام وكالات الأنباء العالمية مثل أحداث كفـر ...
أعني أحداث نقابة الصحفيين وضريح سعد، بما يؤثر سلباً على صورتنا في الخارج ويصعب
من مهمتنا في الحصول على المنح والقروض والاستثمارات، وهو ما يعوق النمو الاقتصادي
ويضعف من قدرة الحكومة على مواجهة الـمعـ ... المعضلات الكبرى مثل الفقر
والبطالة." لم يصفق أحد، حتى رجال الأمن المندسين لم يصفقوا طبعاً حتى لا
ينفضح أمرهم. ولكن المحاضر الأصلي صفق بعد ثوان قليلة، فتبعه جزء من الحضور،
وابتسم الوزير ممتناً وجلس.
قام المحاضر الأصلي واستهل كلامه بالتأكيد على أهمية
احترام تعدد الآراء ثم قال: "أشفق على وزير الاستثمار وعلى وزير التجارة
والصناعة وعلى رئيس الوزراء وعلى كل من يحاول أن يخوض مسيرة للإصلاح الاقتصادي،
دون أن يفهم أسباب الإفساد والركود الاقتصادي. سيادتك تظن أن الحل لأزمتنا
الاقتصادية هو أن تستكين المعارضة وتستسلم لفتوات البلطجة دون أن تشكو أو تتذمر أو
تطالب بتغيير الوضع السياسي الاحتكاري، حتى لا تفسد الجو على لقاءاتكم بالمسئولين
الأمريكيين، الذين تظنون أن بيدهم حل مشكلاتنا الاقتصادية، وهنا تكمن مشكلتكم
الحقيقية. لابد أنك تعلم أن المصريين قد ضخوا 80 مليار دولار خلال الفترة بين عامي
1991 و 1995 استخدم جزء كبير منها في الاستثمار الصناعي والتجاري والعقاري، لمجرد
أنهم صدقوا وعود الحكومة بالإصلاح. نعم، خلال أربع سنوات، ضخ المصريون مليارات
تزيد عن مجموع الاستثمار الأجنبي والمعونات التي حصلت عليها مصر عبر ربع قرن!
الاستثمار يا عزيزي لن يبدأ إلا من المصريين. ولكن، كيف يستثمر المصريون مجدداً
وهم يرون المستثمرين القدامى وقد أفلسوا أو دخلوا السجون بعد أن تعثروا أو اضطروا
لمغادرة البلاد هاربين؟ كيف يستثمر المصريون وهم يرون الفساد يضرب أطنابه في
الجهاز الإداري، ويعانون من القوانين واللوائح التي تمنع كل شيء، وفي نفس الوقت
يأتي من يريهم الطريق الدائري الذي يسمح دائماً بكل شيء ويلتف حول كل القوانين
بشرط ترطيب منقار كبار المسئولين أو إدخال أنجال الوزراء والحكام كشركاء في
المشروع؟
أنت تريد مهلة نسكت فيها عن الإصلاح السياسي حتى تستكمل
أنت ما تظنه إصلاحاً اقتصادياً، ولكن دعني أسألك، ألم تكن فترة 24 عاماً مهلة
كافية؟ ما هو الضمان أننا إذا أجلنا الإصلاح السياسي سوف نحصل على الرخاء الذي
ننتظره طبقاً لوعودكم لأكثر من ربع قرن. ربما تظن أن الدكتاتورية تسهل من السيطرة
على الأمور عند تطبيق الإصلاح الاقتصادي، وربما تظن أن الظرف الآن يستدعي القبول
"بالمستبد العادل" حتى ننهض بالاقتصاد، ولكن دعني أقول لك شيئاً: لا
يمكن أن يكون المستبد عادلاً، لأن العدل يبدأ بالمساواة، والاستبداد يغتالها. دعني
أكون أكثر صراحة، هل تعلم لماذا لن تثمر إصلاحاتكم؟ لأنها تأتي منكم. الشعب لم
يختركم، ولا يحبكم، ولن يستجيب الشعب أو المستثمرون لأي دعوة تأتي منكم سواء
لزيادة الإنتاج أم دفع الضرائب، أم تطوير البناء المؤسسي، أم الاستثمار في التنمية
البشرية أو نظم المعلومات أو التسويق أو البحوث والتطوير أو غيرها من أولويات،
ببساطة لأنكم فقدتم مصداقيتكم ولا شرعية لحكمكم. أنتم بالنسبة للشعب الآن مجموعة
اغتصبت السلطة لمدة نصف قرن. استولت على الحكم بوضع اليد، وهي تريد الآن أن تقنن أوضاعها،
وتكتسب شرعية لليد ووضعها. هل يمكن أن يستجيب أصحاب المزرعة لدعاوى اللصوص
الغاصبين بزيادة إنتاج المحصول أو الحليب، مهما كانت تلك الدعاوى قائمة على أسس
علمية أو تجارية؟
سيادتك غاضب لأن المعارضة شوهت صورتك أمام الأمريكان ببث
صور الاعتداء على مصريين في كفر صقر وفي بيراميزا وفي عبد الخالق ثروت وعند ضريح
سعد. أنت غاضب لأن الأمريكان الآن يعرفون مدى وحشية أساليبكم، ولكنك لست نادماً
على استخدام مثل تلك الأساليب. لم تعتذر حكومتكم للضحايا أو المصابين، ولكنها
اعتذرت للأمريكان! مشكلتك يا عزيزي أنك تظن أن الحلول لدى أمريكا، ولكنني أقول لك
أن الحلول هنا، في مصر، لدى الشعب المصري الطيب الذي قد نسيتموه من طول تطلعكم
للبيت الأبيض. المصريون هم الذين سوف يعملون وينتجون وهم الذين سوف يستهلكون
ويدخرون ويستثمرون. المصريون بيدهم زيادة الناتج القومي، ولكنهم لن يفعلوا ذلك
وأنتم في مقاعدكم. لابد أن ترحلوا أولاً.
المصريون سوف يحصلون على التكنولوجيا من الداخل والخارج
وسوف يستثمرون في تحديث شركاتهم كما فعلوا على مدى 30 عاماً بعد وضع دستور 1923،
حتى أصبحت بريطانيا مدينة لمصر وكانت قيمة الجنيه المصري أعلى من الإسترليني.
ولكنهم سوف يفعلون ذلك بعد أن يحصلوا على الدستور الذي يضمن قدرتهم على إزاحتكم
والإتيان بمن يريدون إلى الحكم. وعندما يحصل المصريون على القوانين العادلة
المتسقة والتي تتماشى مع الطبيعة والواقع والعرف، عندما يشعرون بآثار انحسار
الفساد وترسيخ الحكم الرشيد، سوف تزدهر شركاتهم، ويصدرون للعالم كله، فيأتي
المستثمر الأجنبي مهرولاً بعد أن رأى نجاح أولاد البلد. أما أن تتصور أن زيارتك
لأمريكا وتجميل الأمور وإنكار التصرفات القمعية سوف يأتي بمستثمرين أجانب، في
الوقت الذي يعاني فيه المستثمرون من أصحاب البلد من التعثر والبيروقراطية والفساد
وضياع الحقوق وتخبط السياسات، ويعاني المواطن العادي من الإذلال والقمع وفساد
التشريعات وضياع العدالة والشعور بالغربة، إن كنت تتصور أن إخفاء القاذورات
والتعفنات والتقيحات تحت البساط سوف يساعد على جذب المستثمرين، فهذا خداع ساذج
وينم عن عدم فهم للأمور.
يا عزيزي، دعنا نمصر الحوار، فمشاكلنا هنا، وحلولنا هنا،
والعالم كله سوف يساعدنا ويحترمنا، بشرط أن نحترم نحن أنفسنا ونحترم بعضنا
البعض." انتهى كلام المحاضر. ونظر الجميع إلى الوزير. كاد الوزير أن يطلب
التعقيب ليتحدث عن الأغلبية التي يتمتع بها الحزب الوطني، والشعب الذي يلتف كله
حول المبايعة، ولكنه تردد في آخر لحظة وفضل الصمت. نظر الوزير في عيون الحاضرين
فرأى انتظاراً ولهفة. أطرق الوزير وفكر قليلاً، وفجأة استجمع الوزير شجاعته، وفي
لحظة صدق، أعلن الوزير استقالته من منصبه ومن الحزب الحاكم، ودوت القاعة بالتصفيق
الحاد.
وائل
نوارة
ملاحظة: هذه القصة خيالية ... بكل أسف.