الانتخاب العكسى: مشكلة ابن الناظر (1)
من أرشيف 2010 - نشرت في المصري اليوم الإثنين 23-08-2010 | كتب: وائل نوارة |
الانتخاب هو ظاهرة طبيعية جاءت من رحم ظاهرة أكبر، وهى ظاهرة
التطور التى فرضتها القوانين الأساسية للكون. ما هو التطور Evolution؟ هو عملية تغير فى صفات مجموعة من أعضاء أحد الأنواع، تحدث
وتتراكم مع الزمن عبر الأجيال المتتابعة، من خلال تحورات وتغيرات وأخطاء فى
الاستنساخ الطبيعى للجينات، ينتج عنها قفزات جينية، تفرز أنواعاً مختلفة، وتدريجياً
تبقى الأنواع الأصلح بينما تفنى وتنقرض أنواع أخرى لم تتوافق بنفس الدرجة مع
البيئة المحيطة. هل ظاهرة التطور والانتخاب الطبيعى مقصورة فقط على الكائنات
الحية؟ أبداً. ظاهرة التطور تفرض نفسها بأشكال وآليات مختلفة فى كل المجالات، من
الاقتصاد والأسواق، حيث تتطور الشركات والمنتجات بينما تتصارع على البقاء،
للأنثروبولوجيا، حيث تتطور المجتمعات والحضارات واللغات أيضاً، بينما تتصارع على
البقاء، وغيرهما من المجالات، ببساطة لأن التطور ينتج عن عمل القوانين الطبيعية
وتفاعلها الدائم.
هل المجتمعات والحضارات فى حالة صراع؟ نعم بكل أسف. الصراع أو
التنافس حتى لو لم يكن محسوساً أو عنيفاً، فهو موجود على كل المستويات كظاهرة
طبيعية تفرضها محدودية الموارد واتساع الطموحات والاحتياجات. فكل مجتمع مثلاً
يحاول أن يعظم باستمرار من مستوى معيشة أفراده، بما يتطلب حسن إدارة الموارد الطبيعية
النادرة الموجودة لديه، ومنها البشر كقوة عاملة يمكن أن تكون بالمقارنة بمجتمعات
أخرى أقل أو أكثر مهارة أو قدرة على الخلق والإبداع والإدارة، ومن تلك الموارد
أيضاً الأرض والمواد الخام والثروات الموجودة، كما يحاول كل مجتمع أن ينشر طريقة
حياته وقيمه للمجتمعات الأخرى، بما يتيح له تأثيراً حضارياً قيادياً على الآخرين،
كما يجتهد البعض فى تطوير قدراته العسكرية والقتالية، سواء لأسباب دفاعية أو
هجومية، كما يحاول أن يستفيد من الثروات الطبيعية والمنتجات البشرية للمجتمعات
الأخرى بأقل مقابل ممكن. باختصار، جميع الدول والمجتمعات فى حالة دائمة من
التنافس.
ماذا يحدث عندما ندخل فى منافسة كروية –مثلاً كأس العالم-
بفريق سيئ أو متوسط المستوى النتيجة الطبيعية أن «نترزع» نصف دستة أهداف فى مرمانا
فى كل مباراة، ويعود الفريق من دور الـ 32 مكسور الخاطر، ونرمى باللوم على الحكام
المرتشين، أو نتشمع بنظرية أخرى من نظريات المؤامرة. لسبب ما، شاعت فى ثقافتنا
حالة من تجاهل وتسفيه نظرية التطور وما تفرضه اعتبارات المنافسة والانتخاب فى كل
المجالات، لتحل محلها المحاباة، وهى كلمة مشتقة من الحب، ولكنه حب مريض ضال وضار،
يضر صاحبه بل يضر أيضاً من يحاول أن يفيده ذلك المحب الأحمق، عندما يحاول عبثاً أن
يضع شخصاً ما فى غير الموضع الذى يستحق. فنجد الأستاذ أو رئيس القسم مثلاً يحابى
ابنه على حساب الطلبة المتفوقين، ونجد القوانين أو اللوائح تُفصّل لاصطناع أفضلية
فى التعيين فى إحدى المهن لأبناء العاملين فى تلك المهنة... وهلم جرا.
ماذا يحدث عندما ندخل منافسة علمية بابن الناظر أو ابن وكيل
الكلية أو ابن العميد أو حتى اللواء، ونترك الطلبة الموهوبين والمتفوقين بحسرتهم؟
نتحسر نحن بعد قليل على الخسارة الأكيدة، لأن ابن الناظر غالباً قد حصل على أعلى
الدرجات فى امتحانات النقل إكراماً من الأساتذة المنافقين لرئيسهم السيد الوالد -
بتصعيد أحب الطلبة على قلب سيادته وأجملهم فى عيونه هو والسيدة حرمه - وقد يكون
الابن الحبيب رغم هذه المزايا العديدة «دابة الله فى برسيمه» فى الرياضيات
والطبيعة والكيمياء، أو فى أحسن الافتراضات ليس بالضرورة هو أفضل من يمثل المدرسة
فى المسابقات العلمية بعيداً عن مسابقات أكل البرسيم، خاصة عندما يكون حكامها من
غير العاملين لدى الوالد أو الوالدة أو المؤتمرين بأمرهما. ماذا يحدث عندما ندخل
فى مسابقة على استضافة كأس العالم لكرة القدم فى القاهرة، ونحن تحكمنا ثقافة لا
تعترف بالتغيير ولا تحب التطور وتكره الانتخاب؟ نحصل على صفر متين من 24 صوتاً،
وتقام كأس العالم فى جنوب أفريقيا.
الملخص هو أن الانتخاب ظاهرة طبيعية مرتبطة بالتغيير وبالتطور
والبقاء للأصلح. ماذا يحدث عندما نطور (أو نزور - إذا جاز التعبير)؟ نحن ثقافة
ترفض التغيير، وتنبذ التطور وتحتقر الانتخاب الطبيعى. هل يمكن أن نقلب قوانين
الطبيعة ونعكس قوى الجاذبية مثلاً، فتنطلق التفاحة وحدها محلقة نحو السماوات أو
تنساب الأنهار متحدية قوانين نيوتن لتصب فى أعالى الجبال، وذلك لمجرد أن الناظر
يحب ابنه أو لأن الدكتور يحب ابنته، أو لأن العميد لا يستطيع أن يزعل مراته؟
أبداً. تبقى قوانين الطبيعة كما هى، ونشرب نحن العلقم جزاءً عادلاً لإنكارها. ما
هذا العلقم وما مظاهره، وهل هو مفيد للمعدة أم للقلب أم هو مضر للجسم كله، وإذا
كان مضراً بهذه الصورة والعياذ بالله – فكيف نتفاداه؟
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1854152
No comments:
Post a Comment