تفتيت أم تفكيك الحزب الوطني
للقضاء على الاحتكار السياسي؟
منذ سنوات قليلة، ظهر في المظاهرات المصرية هتاف مكون من كلمة واحدة، هي "باطل". يصرخ قائد المظاهرة باسم الحزب الحاكم أو اسم أحد المسئولين أو الأجهزة أو المجالس وترد عليه الجماهير الغاضبة بكلمة واحدة هي "باطل"، وهو هتاف عبقري وسهل ويدل على أن هتافات الكلمة الواحدة مثل "كفاية" و"فضيحة" "ولسه" لها الغلبة في المرحلة القادمة، لأنها تلخص في أسبرينة أو طلقة واحدة أوجاع الشعب وهمومه ومواطن مرضه. وهذا الاتجاه يتوافق مع تطور أساليب الإعلان في تبسيط الرسالة واختزالها في كلمة واحدة يسهل على الناس تذكرها وترديدها وهذه هي عبقرية شعارات مثل "كفاية" وغيرها. ومما يلفت النظر أن الجماهير دائماً ما تصرخ بأعلى صوتها "باطل" بالذات مع ذكر "الحزب الوطني" مما يجعل قادة المظاهرات يكررون ذكر الحزب الحاكم عشرات المرات إرضاء لرغبة المتظاهرين في إضفاء البطلان عليه.
ولا ننسى ونحن إزاء عقود من اغتصاب السلطة مظاهرة الفلاحين الغاضبة التي أكدت أن "زواج عتريس من فؤادة باطل"، ونقول بدورنا أن اغتصاب بهية أيضاً باطل مهما حاولوا تجميل الاغتصاب باستئجار مأذون مزيف أو تزوير توقيع بهية على توكيل لأي مسئول أو غير مسئول بهدف تزويجها من أحد أرباب النظام.
وأحياناً أسأل نفسي، هل الحزب الوطني فعلاً هو المسئول الأول عن كل أوجاعنا وآلامنا؟ وهل هو حزب باطل، كما يصر المتظاهرون دوماً على وصفه؟ لا شك أن قيام الحزب الوطني في السبعينيات بقرار من الرئيس السادات وهو في أعلى مواقع السلطة ألقى ببذور من البطلان في أعماق جذور الحزب منذ قيامه، كما أن احتكاره السلطة وتزييف إرادة الشعب على مدى أكثر من ربع قرن أكد عدم شرعيته، ثم جاء عجزه عن النهوض بالأمة المصرية وفشله في توفير الحد الأدنى من العيش الكريم للمواطنين، ليؤشر بخاتم البطلان على عقود حكمه، فتصدع النظام وأصبحت شرعية الحكم تعاني من هشاشة خطيرة، وخاصة أن الحزب الأوتوقراطي قد ورث كل أوزار أجداده منذ هيئة التحرير والمؤتمر القومي، إلى الاتحاد الاشتراكي ومنبر الوسط وحزب مصر العربي الاشتراكي. ورث الحزب الحاكم كل تلك الأوزار – ربما ظلماً، مثلما ورث – زوراً - المقار والحسابات البنكية ومقاعد مجلس الشعب والسلطة كلها.
والأخطر من كل هذا، أن الحزب الوطني نتيجة لطبيعة ولادته من رحم سلطة شمولية – لا من رحم التجربة الشعبية، ولد كمسخ مشوه وككيان احتكاري، لا يقبل المنافسة ويحتال على آليات الديمقراطية للاستمرار في احتكار السياسة والاقتصاد، والإعلام والرأي والفكر، والثقافة والرياضة، والتعليم والتعتيم، حتى وصلنا لما نحن فيه الآن. والدليل على هذا الاحتكار، ما أعلنه رئيس وزراء مصر منذ سنوات قليلة، أن مصر تتجه للتحول من نظام الحزب الواحد لنظام التعددية الحزبية، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن 34 عاماً من ادعاء التعددية الحزبية، ويجعلنا نطالب بمحاسبة من أوهمونا بأننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية، بينما هم كانوا يبيتون النية على الاستمرار في الاحتكار، والاستطراد في الاحتقار، احتقار الشعب وخداعه، ومنعه من حق الاختيار، بما أدى في النهاية للانهيار والاحتضار.
وإذا شبهنا الديمقراطية "بسوق حر للأفكار والرؤى والبرامج"، فإن الأحزاب تصبح بمثابة "البائع" الذي يتعين عليه أن يروج "لمنتجاته" من أفكار ومبادئ وبرامج "للمشترين" وهم في الواقع جماهير الشعب والناخبون، بحيث يلتزم الحزب أمامهم بتحقيق معدلات أداء معينة حال وصوله للحكم. وعندما تختفي التعددية الحزبية، تصبح النخبة الحاكمة بمثابة "التاجر الوحيد" الذي يحتكر الرؤية والسلطة، فلا يصبح أمام الناخبين سبيلاً سوى اختياره.
وللتخلص من هذا الوضع الاحتكاري، قد يكون أحد الحلول هو تفتيت الحزب الوطني لحزبين أو أكثر بصورة تطوعية، مثلما يحدث في عالم الاقتصاد بصورة جبرية، لأن وجود كيان ضخم احتكاري يجعل من الصعب تداول السلطة حتى في حالة ضعف هذا الكيان أو سوء إدارته، لأنه يستخدم حجمه الضخم في وأد و"تفطيس" المنافسين رغم أنهم قد يكونوا أفضل منه فكراً أو كفاءة. ورغم الأسباب الوجيهة التي تدل على بطلان الحزب الوطني، فقد يكون من الصالح العام أن يتم تفتيت – إذا لم يمكن تفكيك الحزب الوطني. فتفتيت الحزب الوطني لحزبين منفصلين مثلاً قد يقضي على هذا الوضع الاحتكاري، ويشبه ما فعله الرئيس الراحل أنور السادات عندما فتت الاتحاد الاشتراكي لثلاثة منابر تحولت لثلاثة أحزاب سياسية، رغم أن هذا لم ينجح في النهاية في الوصول بمصر إلى تعددية وديمقراطية حقيقية، ببساطة لأنه جاء بمبادرة من السلطة وليس من رحم العمل الشعبي، وعندما غيرت السلطة رأيها ولم يتحمل الرئيس السادات التعامل مع المعارضة، قام بوأد التجربة الديمقراطية في مهدها وأنشأ الحزب الوطني المسئول عن اغتيال التجربة الديمقراطية قبل أن تبدأ.
إن ما رأيناه من تعديلات دستورية مبتسرة مثل تعديل المادة 76 من الدستور لن تثمر كثيراً أو قليلاً إذا لم نتدارك مشكلة استمرار هذا الكيان الاحتكاري الذي يراه الكثيرون الآن كياناً قام على بطلان، وإصلاح الأحوال يقتضي أيضاً العمل على تفكيك شبكة الفساد التي استشرت في أوصال الدولة، عندما ناكحت السلطة الثروة واستغلال النفوذ حراماً، فأثمر هذا النكاح مولوداً غير شرعي ولد في بيئة فساد القوانين والتشريعات واللوائح وتضاربهم جميعاً، بما تسبب في النهاية في حالة انفصام بين القانون والواقع، فنشأت الدولة الموازية – أو الدول الموازية – وتحولت مصر لمجموعة من العزب والإقطاعيات شبه المستقلة، التي يعمل كل منها بمعزل عن القانون وعن المصلحة العامة للأمة.
الشرعية ... لابد أن نعود إلى الشرعية، لقد اضطررنا لقبول ما سموه بالشرعية الثورية وعانينا من جراء ذلك هزائم ونكبات وكوارث اقتصادية وسياسية واجتماعية، والآن، ورغم ما دعا إليه الرئيس السادات في بداية حكمه من التحول للشرعية الدستورية، فإن هذا "البطلان" الذي نعاني منه يشكك في وجود أية شرعية دستورية أو وجود أية شرعية من الأساس، وتصبح البلطجة والفساد وسوء استغلال السلطة والمال العام والخاص هي الشرعية الوحيدة الموجودة، وهو وضع جد مخيف، أتمنى أن نخرج منه بسرعة بالعودة فعلاً لشرعية الحكم المستمدة من الإرادة الحقيقية للناخبين بعيداً عن التزوير الصريح أو المستتر.
أتذكر الآن فيلم بداية ونهاية، عندما وقف الأخ الضابط يستنكر مسلك أخيه المجرم تاجر المخدرات ويطلب منه التوبة والتطهر، فصارحه الأخ المجرم برأيه، وهو أن التطهر يستلزم من الأخ الضابط أن يخلع أولاً الزي الميري، ويلقي بالرتب على الأرض، لأن تجارة المخدرات هي التي اشترت ذلك الزي وتلك الرتب.
أيها السادة الأعزاء، إن تريدوا التطهر، اخلعوا الزي والرتب، انزلوا من السلطة والأبهة، واعرضوا بضاعتكم وأفكاركم وبرامجكم ووعودكم على الشعب والناخبين بمنطق المنافسة لا الاحتكار، ودعوا مختلف الفصائل السياسية تعمل بصورة متكافئة لصالح هذا الوطن الذي يستحق مستقبلاً مختلفاً عما تصفون.