عن القوة الناعمة
حديث إلى الزملاء القوميين
فوجئت ببعض أعضاء التحالفات الوطنية يأتي الآن ويطالب أن نتفق جميعاً على كل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية والعربية والإقليمية، وعلى فسخ معاهدات كامب ديفيد، قبل أن يكون هناك أي تحالف يهدف للتغيير، فهذا في الواقع يشبه سلوك الحكام العرب، ويضرب فكرة التوافق وفكرة التغيير، وهذه المطالب التعجيزية بالاتفاق على كل شيء مقدماً، هي عكس فكرة الديمقراطية التي تقوم على الاختلاف - ويبدو هذا الأسلوب العقيم وكأنه يهدف لترسيخ فكرة نظام الحزب الواحد.
ما علاقة التحول الديمقراطي في مصر بفسخ معاهدات وقعتها مصر مع أطراف أخرى؟
قضية التحول الديمقراطي لابد أن تركز على بناء ملعب سياسي - دستور يرسخ الحريات والحقوق والمبادئ الأساسية وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين السلطات وبعضها البعض - هذا هو اتفاق الحد الأدنى.
الملعب الديمقراطي يتيح لكل صاحب رؤية أن يقدم طرحه إلى الناخبين فيما بعد في أي قضايا أخرى خلافية.
من المضحك أن يصبح نقد بعض سياسات عبد الناصر - مع تقديرنا له كزعيم ورمز وطني - دليلاً على الخيانة والعمالة، وكأن المفروض بنا أن نصفق لإلغاء الأحزاب، وتأميم الحياة العامة والصحف، والإعلام والاقتصاد والشركات، والثقافة والكتب والأكاديميا والفكر، واختزال السياسة في حزب واحد - هو جد الحزب الوطني، علاوة على مصادرة العقل وتزييف الوعي المصري، كل هذا لصالح مجموعة من أشباه المثقفين، الذين قادوا مصر لأبشع الهزائم، واستفادت منهم إسرائيل شاكرة، بأن تضاعفت مساحتها 4 أضعاف في عهدهم الميمون.
ثم نأتي لموضوع تصنيف النخبة إلى نصفين، نصف من النخبة النقية المطهرة، ونصف آخر هو النخبة الوسخة المصلحجية، ما هذا الكلام الغريب؟
ليس هناك عيب في أن يعلن كل فريق عن مصالحه ومصالح الوطن من وجهة نظره، ثم تأتي الممارسة الديمقراطية لتصل لاتفاق يحقق قدر من التوافق بين مصالح الوطن بكل طوائفه.
لا أخشى ممن يأتي ويقول هذه هي مصالحي وهذه هي ثوابتي ولن أقبل بأقل من هذا لأنه يعلن عن نفسه وعن أولوياته بشفافية
لكنني أخشى من دعاة الرومانسية ممن يقول ليس لي مصلحة بينما مصالحه مخفية في أجندة سرية
التصنيف لأنقياء وأنجاس، وأنبياء وخونة، وملائكة وشياطين، وليبراليين فوضويين تابعين للغرب، وقوميين معصومين تابعين للرب، هي عملية مؤسفة تتضمن نوعاً من الاستعلاء، عندما يعطي كل منا الحق في إصدار الأحكام على الآخرين وكأنه إله أو شبه إله
هذه بالضبط هي نفس مشكلة نظام عبد الناصر، أنه أراد أن يغتال كل الأفكار والاتجاهات السياسية المختلفة معه، حتى يبقى هو فقط في الصورة بأفكاره، التي لن نصفها بالخيانة أو العمالة لأي جهة، لأننا نؤمن بحسن النية فيما حدث، لكن لابد أن نقول أن فكرة الحكم الشمولي والدولة الإله المتغولة في سلطاتها، واختزال السياسة في حزب واحد، هو ما أدى بنا لهذا الوضع المؤسف الذي نحن فيه الآن.
لابد أن نستيقظ ونترك هذه الممارسات الغريبة إذا أردنا العمل الجماعي بين أطياف مختلفة التوجهات.
لا خلاف حول أن الكيان الإسرائيلي لم يتوقف يوماً عن التهام الأرض العربية والحقوق العربية، وهو السبب الرئيسي في إعاقة التقدم في مصر وباقي دول المنطقة. وإسرائيل لا تخفي ايضاً مشاعرها نحو مصر، التي يفترض أنها ترتبط معها بمعاهدة سلام، والدليل على ذلك الجهد الحثيث الذي بذلته إسرائيل على مدى عقود في التغلغل في القارة الأفريقية، وبالذات في دول حوض النيل، لتضع شرايين الحياة في مصر تحت رحمتها، أو الجهد الذي يبذله اللوبي الصهيوني في أمريكا، في دعم حسني مبارك وجمال مبارك، لعلمهما أن أي تغيير ديمقراطي يصب في مصلحة مصر، وليس بالتأكيد في مصلحة إسرائيل، وأن أي حكومة منتخبة ستضطر إلى احترام مشاعر المصريين والتعامل مع إسرائيل بأسلوب آخر يرضي مشاعر الناخبين على أقل تقدير، وتحليل موقف اللوبي الصهيوني في أمريكا واضح في محاربة جميع قوى التغيير الديمقراطي في مصر وهذه أمور ثابتة وواضحة لكل ذي عين.
وهناك استراتيجيات عديدة للتعامل مع هذا السلوك الإسرائيلي العدواني.
الاستراتيجية الأولى
أن يهب الرجل المريض ليزود عن أرضه وعرضه ويحمي بيته وعائلته، وتأخذه النخوة والحماس فيخرج مقاتلاً، وهو مريض، جاهل، وضعيف، بيته مفكك دون رؤية أو قيادة، ومثلما حدث معه من قبل في كل مواجهة، يسحق مرة أخرى بهزيمة مروعة، ليس هذا فحسب، بل أن الغاصب يذرف دموع التماسيح، شاكياً مولولاً للعالم كله من "عدوان" جاره المفتري، فيتعاطف العالم مع الآلة الإعلامية للغاصب، وضغوط اللوبيات السياسية، وتكون المحصلة هي فقدان المزيد من الأراضي والحقوق، بحجة أن الغاصب اكتسبها وهو في حالة دفاع مشروع عن النفس، ويبدأ الرجل المريض جولة جديدة في تفاوض ذليل آخر، بجراح جديدة مثخنة، وآلام متزايدة، وعزيمة خائرة، وبيت اشد تفككاً عما قبل، فيفقد المزيد من حقوقه التاريخية في سبيل الحصول على أي شيء، وتتكرر الدورة دواليك.
وقد جربنا هذه الاستراتيجية على مدى عقود طويلة حتى تضاعفت مساحة مزرعة الغاصب 4 أضعاف، وأوشك الرجل المريض على الهلاك.
الاستراتيجية الثانية
أن يلتفت الرجل المريض لصحته أولاً، ويعالج أمراضه، وينظر داخل بيته، فيصالح امرأته وأهله وإخوته، ويسترد أبناءه، ويعلمهم ويربيهم حتى يشتد عودهم، ويتسلح بأسباب القوة الاقتصادية والسياسية والدفاعية، وكذلك القوة الصناعية والعلمية والتقنية والثقافية والإعلامية، فيصبح قوياً مهاباً، ويسترد احترام وصداقة جيرانه وأهل القرية الكونية أجمعين، ويكتسب مناصرين أشداء لقضيته بالقوة الناعمة في كل محفل إقليمي ودولي، ويستخدم نفس أسلحة القوة الناعمة من لوبيهات وإعلام وقانون دولي وتحالفات كونية، وعندها يضطر الغاصب أن يعيد الحق لأصحابه سلماً، أو يواجه المصير المعروف للغاصبين، عندما يواجهون أصحاب الحق في حالة أن يمتلك أصحاب الحق هؤلاء - مع الحق - الإرادة والقوة وحسن التنظيم والحلفاء الأقوياء.
وقد جربت العديد من دول العالم هذه الخيار الثاني، فحصلت على حقوقها تالت ومتلت.
الخيار الاستراتيجي
وأترك لحضراتكم انتقاء الجواب المناسب بين تلك الخيارات الاستراتيجية
حقاً، صدق عبد الناصر عندما قال:
ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة
فهذه هي الواقعية السياسية. لكن أي قوة؟ وأين القوة؟
القوة دائماً في الأساس داخلية، والقوة اليوم ليست فقط القوة الغاشمة، قوة السلاح والجيوش، بل العلم والاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا والإعلام، وليست الحناجر والميكروفونات والنيات الحسنة وخداع النفس وتزييف الوعي بالإرشاد القومي وتزوير الانتخابات واحتكار القرار بنظام شمولي لا يعرف سوى الحزب الواحد، ولا من خلال كسر روح الشعب وتحطيمها، على مذبح التأميم و الحكومات المتغولة والحكام المتألهين، ولا من خلال القمع والاعتقال والتعذيب، ولا من خلال تحويل الشعب كله لجيش من الموظفين غير المنتجين وشبه العاطلين ينتظرون الفتات كل آخر شهر، ثم يقوم النظام بشحنهم (6 مليون موظف حكومي في مصر) لتزييف الانتخابات والمسيرات.
القوة اليوم هي القوة الناعمة، الإعلام، والثقافة، والاقتصاد والتكنولوجيا واحتراف العمل الدولي. جميع المواجهات التي استخدمت القوة الغاشمة خلال النصف قرن الماضي، فشلت في تحقيق أهدافها، من فييتنام وإلى العراق. وعلى العكس من ذلك، المواجهة بآليات القوة الناعمة تنتصر في كل مناسبة بل وبدون مواجهة.
أشعر أننا لا زلنا أسرى مرحلة الرومانسية الثورية، وهذا يمنح الإنسان شعورا جميلا ونشوة ممتعة، لكن المسئولية تحتم علينا أن ننتقل للواقعية السياسية، وما بعد الواقعية السياسية.
الزملاء القوميين: أود لو قرأتم برنامج 30 مارس مرة أخرى – ربما نجد فيه فهم واقع جديد ينتشلنا من مرحلة توقفنا عندها واجتازها الزمن واجتازها عبد الناصر نفسه بعد أن تعلم من تجربة الهزيمة المرة، أود أن نقرأ قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي وافق عليه عبد الناصر رغم أن القرار يعترف ضمنياً بحق إسرائيل في الوجود، وأن نسأل لماذا وافق عبد الناصر على مبادرة روجرز رغم أن السادات في مصر كان قد جيش مجلس الأمة لرفضها. لقد بدأ عبد الناصر مرحلة الواقعية السياسية وليس السادات. للأسف السادات فقط كان عليه أن يمشي في ذلك الطريق فيتلقى اللعنات من الرفضين للاعتراف بالواقع الأليم، لكن بذرة الواقعية بدأت مع قبول القرار 242 ومبادرة روجرز وبرنامج 30 مارس على يد عبد الناصر نفسه.
الديمقراطية هي الحل للمرض الداخلي. أما المرض الخارجي فأمره أسهل مما نتصور.