مقالات - التحرير
فى عصور ما قبل التاريخ المكتوب، وُلدت القصص والحكاوى، وظهر القصاص والراوى، ولاحظ الرواة أن أحدهم كان دائمًا ما يعود إلى منزله محملا بأفخاذ الغزلان، بينما الباقون يحصلون على الفروة والحوافر، وربما الرأس بعد نزع اللسان فى أفضل الحالات، فحاروا فى سر غريمهم المحظوظ، وقرروا أن يقوموا بإجراء أول بحث تسويقى فى التاريخ لدراسة المنافسين. اختبأ أحدهم وراء الصخور بجوار تجويف يكشف ما بداخل كهف زعيم القبيلة، وراقب ما يحدث. الحكايات عادية جدا، لكنه لاحظ أن زوجات زعيم القبيلة الأربع وأولادهن العشرين، يجلسون على الأرض مأخوذين بل مسحورين، بينما يتربع صاحبنا الراوى المحظوظ على صخرة أمامهم، ويتمايل وهو يحكى الروايات المليئة بالمغامرات الخطيرة فى مواجهة الوحوش الضارية، ويتمهل وهو يصف الموقف المرعب، حينما تحيط الأسود والنمور السائمة، بالفتاة الجميلة النائمة، وتستعد لالتهامها، ويسكت قليلا ثم يزعق فجأة فيرتجف المستمعون خوفًا من أن تكون صرخته صدى لصرخة الفتاة عندما تهجم عليها الوحوش المفترسة، لكن هيهات، فالصيحة الحيوانية هى للبطل الزعيم، يُلقى من خلالها الرعب فى قلوب أشرس الوحوش، فى ظهور مفاجئ فى اللحظة الأخيرة، حيث يطير الزعيم المنقذ فوق رؤوس الوحوش متعلقًا بإحدى يديه بأغصان الأشجار، بينما تلتقط ذراعه الأخرى الفتاة الجميلة لينقذها، ويقفز بها فى النهر العميق ويعود بها إلى القرية، فتفتن به وتقع أسيرة لحبه، ويصر أهلها على تزويجها له، حيث يعيشان منذ تلك اللحظة معًا وإلى ما شاء الله فى سعادة مقيمة، وينجبان الأطفال الأصحاء الذين يصبح كل منهم زعيمًا لقبيلة ضخمة!
وما إن يسدل الراوى ستار النهاية، حتى تنتفض المستمعات والمستمعون فى نشوة وجذل، وتصفق الفتيات بأيديهن الصغيرة فى فرح، ويطالبن بالمزيد، بينما تنهال الخيرات على الراوى من زوجات الزعيم. هكذا اكتشف الرواة أن الزبون يحب النهايات السعيدة، رغم أن النهايات فى العادة حزينة بطبيعة الحياة المتقلبة، لكن المستمع دائمًا على حق، وفخذة الغزالة غالبا أطيب من لحم الرأس.
لكن، ماذا حدث فى الواقع بعد مشهد النهاية؟ النهاية السعيدة ما هى إلا مشهد مؤقت، ولا نعلم فى الحقيقة كيف عاش الزعيم مع الفتاة الجميلة، وهل كان مثلا بصباصًا لبنات الكهوف المجاورة، فاشتعلت غيرة الزوجة الجميلة وأطلقت عليه ثعبانًا سامًا وهو نائم فى الليل ليقبض روحه؟ أم تربصت به وبها الوحوش بعد ذلك الموقف المهين والتهمت أول أولادهما، فجن الزعيم لفقدان وريثه الذكر وحطم رأسها بحجر كان فى متناول يده وقت أن صدمه الحادث، ثم انتبه لفعلته الشنعاء، فطفق يبكيهما معا، وهام على وجهه فى الغابات والفيافى يطلب الموت هربًا من الذكريات الدامية؟
خذ عندك مثلا، قصة على بابا وعصابة الأربعين حرامى، الذين عاثوا فى الأرض فسادًا وكوَّنوا أول لجنة سياسات فى التاريخ مهمتها تقليب أهل البلد ونهب ثرواتهم إلى أن كنزوا الذهب والفضة والمجوهرات من حصيلة السلب والنهب والقروض وتخصيص أراضى البلد السخنة والساقعة والانفراد بالأحكار المتعددة، وخزَّنوا ثروتهم فى مغارة قريبة من النهر العظيم، لا تفتح إلا بشفرة خاصة. ولأن الراوى يحتاج إلى بطل نزيه ومنزه عن الطمع والشر لتكتمل الحبكة ويحصل على مكافأته من السميعة فتة بالفخذة، يصنع من على بابا بطلا، ويغفل مثلا أن يذكر أن على بابا نفسه زعيم عصابة سرية، تشفط أموال الهبات والتبرعات وصناديق رابطات الصناع والحرفيين، ويتعامى الراوى عن وصف العلاقات الممتدة، والتفاهمات والصفقات التى ميّزت التعاون بين العصابة وعلى بابا وإخوانه، وأنهم حصلوا من قبل فى إحدى المناسبات -مثلا- على 88 جرة مترعة بالخيرات نظير مساعدتهم العصابة فى وأد إحدى انتفاضات أهل البلد. ويشتد ظلم العصابة وطغيانها، وينجحون فى إسكات كل معارض وشراء كل راوٍ وإفساد كل مسؤول، حتى استحالت العيشة مرارًا.
وفى أحد الأيام كما هو متوقع، يفيض الكيل بأهل البلد، عندما يقوم أحد الزبانية بتهشيم رأس شاب من فتيان البلد دون سبب، سوى أنه تجرأ وعارض بعض التصرفات الإجرامية لأحد العسس الموالين لزعيم العصابة. يثور شباب البلد ويتوجهون نحو المغارة يوم عيد العسس، مطالبين برؤوس مجرمى العصابة وزعيمهم. ويعلم على بابا بالكارثة، فيتبرّأ منها علنًا، ويبعث ببعض إخوانه ليطيِّبوا خاطر الشباب المحتجين، متعللا بأن وقوفه علنا معهم يفسد خطتهم، وفى نفس الوقت يبعث أسرع خيوله، برسول وكتاب مختوم فيه 10 نقاط، ينصح من خلالها زعيم العصابة بأن ينحنى للموجة، ويقوم ببعض الترضيات الشكلية، لوأد الفتنة وتنفيس غضب الشباب، حتى تعود الأمور إلى سابق عهدها. ويرفض الزعيم العنيد أى حلول وسط، محتميًّا بعصابته والعسس الموالين له، ولكن فى لحظة، تنهار مقاومة العسس، ويبدأ أعوان زعيم العصابة فى التساقط أو الهرب ناجين بأنفسهم، ويصبح الطريق مفتوحًا أمام الشباب لاقتحام المغارة. وفجأة يظهر على بابا وكأن الأرض انشقت عنه، وينتشر إخوانه فى الميدان، يحاولون ركوب الموجة بأى صورة. أما على بابا، فيتمتم بأن دخول المغارة يحتاج إلى شفرة خاصة، أشبه بالفوازير، لكن لكل فزورة حل، والسمسم هو الحل فى هذه الحالة ... السمسم هو الحل، بسم الله ولله الحمد - افتح يا سمسم ...
وتنفتح المغارة ويدخل على بابا وإخوانه، وينسدل ستار النهاية بينما يدخل على بابا الكهف، محمولا على الأعناق وسط تهليل أنصاره، وتدخل بجواره الست مرجانة، ليعيشا فى تبات ونبات، ويزعق إخوان على بابا المندسون وسط الجموع بأن أحد أعوان على بابا هو الأحق بولاية البلد، ويصرفون الشباب، ويَعِدُونهم بأن الأمور سوف تنصلح فى خلال 100 يوم، وليس عليهم سوى الانتظار والصبر الجميل. وتنتهى الحكاية من وجهة نظر الراوى الذى لم يدخر وسعًا فى تنقية القصة من أى قبائح قد تزعزع الوضع البطولى لعلى بابا وجماعته.
ماذا بعد مشهد النهاية؟ تقول بعض البرديات العتيقة إن على بابا ما إن أغلق عليه أبواب المغارة، حتى حفر أرضها بسرعة واستخرج صناديق الذهب والمجوهرات المدفونة، حيث أخذ إخوانه يشاركون كل تاجر أو صانع أو قهوجى، تمامًا كما كان الوضع من قبل، وبدؤوا فى إنشاء سلاسل لدكاكين البقالة والثياب ومستلزمات الحرائر والجوارى، وجلابيب وسراويل الرجال والخصيان، ثم بدأ يضع أعوانه فى كل مناصب البلد، ويمسك بمفاتيح أسوارها، وعين أحد أتباعه كبيرًا للرواة حتى يسيطر على الحكايات، وأمر أن تُطفأ أنوار المدينة بعد العشاء، ونشر المخابيل والمتطرفين يهاجمون الشباب وكل صاحب رأى أو نقد بالعصى والسيوف، بحجة أنهم يسيئون الأدب فى حق ولاة الأمر أو يخرجون عن تقاليد السلف الصالح.
يقول البعض إن الأمور لم تختلف كثيرًا أو قليلا فى عهد على بابا عن عصر عصابة الأربعين حرامى، بينما يمجد آخرون على بابا ويبرئونه من أى إثم، ويذكرون له فضله فى إزاحة العصابة، متعللين بأن ما حصل عليه من ثروات كان للعصابة المفترية، لكن كبار السن يتذكرون يوم أن كانت هذه الأموال والأراضى والثروات ملك أهل البلد، قبل أن تنهبها العصابتان. أما على بابا، فمطمئن بأن البلد قد دانت له ولإخوانه، ويطرب لمديح الراوى الذى اكتراه بنفسه، بل يبدأ جشعه فى إغرائه بالتطلع لبسط نفوذه على البلدان والممالك والأقطار المجاورة، متناسيا ما حدث لسلفه حينما سقط وسط أعوانه وجنوده، وانمحت من ذاكرة على بابا فورة الشباب وصحوة الشعب الذى لم يعد يطيق الظلم، متوهمًا أن هذا هو المشهد الأخير.