الخروج من الأزمة قبل انهيار الدولة
من أرشيف 2013 - نشرت بجريدة التحرير
وائل نوارة
ينظر الكثيرون حولهم، فيجدون العمارات شاهقة والسيارات
فارهة، والشوارع عامرة والتليفونات ناطقة، والأسواق مزدحمة والبنوك بنقود العملاء متخمة،
والعيش في المخبز والخضار في السوق، وحوادث السطو والسرقة محدودة نسبياً، وأعمال
العنف محصورة في أماكن قليلة، بينما الحياة الطبيعية تأخذ مجراها في كل مكان آخر،
وبالتالي يشعرون بالأمان، ويأخذون وجود الدولة المصرية كأمر مسلم به. وليس الهدف
هنا تخويف القارئ أو خلق فزاعة جديدة من انهيار الدولة، ولكن التنبيه ودراسة
المخاطر التي تحيط بالدولة المصرية في هذه اللحظة.
الدولة، عبارة عن مجتمع منظم يعيش على رقعة أرض محددة تحت
قيادة سياسية موحدة. والسبب الوظيفي لظهور الدولة، هو تقديم خدمات حياتية لأفراد
المجتمع، يعجز أي منهم عن أن يحصل عليها وحده أو يصعب عليه ذلك، مثل الطرق
والكباري والأمن الداخلي والخارجي وهكذا. ومن أجل تقديم هذه الخدمات الجماعية،
تحتوي الدولة على مجموعة من المنظومات التي تعمل وتتفاعل وتتشابك لتشكل معاً
منظومة متكاملة، فكل من هذه المنظومات تمثل عموداً يقوم عليه بنيان الدولة، وتأتي
الحكومة لتدير هذه المنظومات وتتحقق من حسن عملها وتطور منها، وتتخذ القرارات والسياسات
والتشريعات التي تحدد شكل وطريقة عمل هذه المنظومات، والموارد المخصصة لكل منها،
وآليات ومصادر تمويلها.
وللإنصاف، دخلت الدولة المصرية في حالة ضعف وتحلل منذ
عقود عديدة، ظهر في قصور وظيفي لأداء هذه المنظومات، مثل الأمن والتعليم والصحة،
والنقل الداخلي والإسكان والتراخيص، والتشريع والأمن والعدل والسياسة والإعلام ...
إلخ، ونتيجة لهذا القصور والفشل في أداء هذه الوظائف الحياتية، ظهرت المنظومات
الموازية (مثل الدروس الخصوصية – والعلاج الخاص – والميكروباص – وشركات الأمن
الخاصة والبلطجة، والجماعات والحركات السياسية غير الرسمية، والمدونات والشبكات الاجتماعية،
... إلخ)، وتشابكت هذه المنظومات الموازية وتفاعلت بدورها مع بعضها البعض، حتى
تكون ما أطلقنا عليه "الدولة الموازية" في سلسلة من المقالات نشرت في
الفترة من 2002 وإلى 2006. ويمكن القول بأن ثورة يناير كانت تعبيراً عن لحظة تقلصت
فيها سلطة الدولة الرسمية مقابل تعاظم سلطة الدولة الموازية، فسقطت الدولة الرسمية
بقرار من دولة موازية في ميدان التحرير وباقي ميادين الثورة، التي حلت محل مجلس
الشعب بل وجزء من السلطة التنفيذية.
وصاحب الفترة الأولى للثورة المزيد من التصدع في أعمدة
الدولة، فقد انهار جهاز الأمن الداخلي بالكامل، وحملت القوات المسلحة عبئاً جسيما
للحفاظ على ما تبقى من تماسك بنيان الدولة، في مواجهة انفجار القدر المضغوط، حيث
خرجت كل طوائف الشعب المقهورة تعبر عن غضب كان مكتوما لسنوات وعقود، فالبعض يطالب
بزيادة مبررة في الرواتب، والبعض الآخر يطالب بإسقاط الديون أسوة بغيره، وآخرون
يطالبون بتغيير الهياكل والقيادات الفاسدة وهم محقون، ومتطرفون يطالبون بتطبيق
رؤيتهم المتشددة في التشريع، وإخوان كاميليا يطالبون بكاميليا، وهكذا. وفي نفس
الوقت، قام عدد مؤثر من أصحاب الأعمال بتصفية أو تقليص أعمالهم خوفاً من المحاسبة
أو الانتقام، وبعضهم نجح في تحويل أرصدته لخارج مصر، كل هذا في الوقت الذي كانت
فيها أعمدة الدولة بالفعل في حالة سيئة ومهترئة، وفي حاجة لتدخل إصلاحي سريع
بالتنكيس والتقوية أو إعادة البناء والهيكلة، وهو ما لم يتم. وفي نفس الوقت، سعت
جماعة الإخوان المسلمين للهيمنة على المشهد السياسي بعد الثورة، وأقنعت المجلس
العسكري بقصة وهمية عن قدرتها على التحكم في مسار الحراك الثوري، فانفردت برسم
خريطة التحول الديمقراطي التي فصلتها لمصلحتها الخاصة باستخدام نظرية الروافع
المتتالية. وتتلخص نظرية الروافع المتتالية في تحويل التأييد الشعبي المحدود
للجماعة والذي بلغ في انتخابات مجلس الشعب حوالي 37% - في غياب قوة كانت أساسية في
المشهد السياسي السابق وهي الحزب الوطني المنحل – حيث نجح الإخوان في تحويل هذه
النسبة إلى سيطرة بنسبة 100% على الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، من خلال أن تفوض
خريطة الطريق البرلمان في اختيار أعضاء التأسيسية – مع رفض وضع أي معايير للاختيار،
فأصبح هذا يعني أن أي تيار أو تحالف سياسي يملك 51% من مقاعد البرلمان، يستطيع أن
يختار 100% من أعضاء اللجنة التأسيسية.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية وظهر بوضوح أن التيار
الطائفي لا تزيد شعبيته عن 25% أو على الأكثر 33% من الأصوات رغم بذخه الشديد في
الإنفاق، وأصبح السؤال، كيف سيستطيع الإخوان والسلفيون وحدهم أن يحكموا البلاد وهم
أقلية متطرفة وبعيدة عن الوسطية المصرية، وخاصة في مرحلة من المفترض أنها
انتقالية، يتم وضع أسس العملية السياسية فيها. ومن أجل أن يفوز مرسي في
الانتخابات، سعى لتكوين جبهة من القوى الثورية لتؤيده في المرحلة الثانية من
الانتخابات الرئاسية، وفي المقابل، قدم عدة وعود، مها إعادة تشكيل التأسيسية بصورة
متوازنة. ولكن بعد فوزه، تنكر مرسي لتعهداته، وزاد عليها بأن انقلب على الإطار
الدستوري الذي أقسم على احترامه، مرة في قرارات أغسطس، والأخرى في قرارات نوفمبر
التي أشعلت الغضب ضده، وقامت ميليشيات التيار الطائفي بحصار المحكمة الدستورية
العليا ومدينة الإنتاج الإعلامي، وصولاً لأحداث الاتحادية التي نزلت فيها ميليشيات
الإخوان وقتلت وجرحت وعذبت أكثر من ألف مصري ومصرية، وتم التعذيب في المساجد
القريبة من وداخل القصر الجمهوري نفسه. وبقيام الإخوان باستخدام هذه الميليشيات في
قتل مصريين، انهار ما بقي من دولة القانون وتخضبت أيدي الجماعة بدماء المصريين،
وأصبحت البلاد في حالة حرب أهلية. فطبقاً لتعريف ماكس ويبر فإن أحد خواص الدولة
أنها تحتكر العنف المشروع من خلال الشرطة والجيش، فجاءت ممارسات الإخوان لتهدم
ركنا جديداً من أركان الدولة.
أما المقوم الأساسي للدولة، وهو بمثابة صبة الأساسات
التي ترتكز عليها باقي الأعمدة، فهو وجود مفهوم موحد يتبناه أهلها للتعايش السلمي
المشترك الذي يوثقه في العادة إعلان للمبادئ والحقوق أو دستور، وعندما طرح مرسي
مسودة دستور غير توافقي للاستفتاء عليه، وهو الدستور الذي يصفه برهامي بأنه يضع
قيودا كاملة على الحريات لم توجد من قبل في أي دستور مصري، فقد نسف هذا الأساس،
حيث صوت 57% من أهل القاهرة عاصمة البلاد ضده، ولكن هذا الدستور مرر بنسبة 63% في
استفتاء حفل بالتجاوزات، ولم يمكن تمريره سوى بالاعتماد على المناطق البعيدة عن
أعين الإعلام ورقابة المجتمع المدني أو التي تعاني من سوء الخدمات التعليمية أو
الأماكن التي لم تصل إليها الأحزاب الجديدة بعد. وفي كل الأحوال، فقد قسم هذا
الدستور المصريين بدلاً من أن يوحدهم، ضارباً أساس الدولة المصرية في مقتل.
ومع غياب وجود توافق وطني حول الدستور وقواعد العملية
السياسية، والرفض الشعبي لمحاولات جماعة الإخوان الهيمنة على البلاد
و"أخونة" مفاصل الدولة، تصاعدت الاحتجاجات وأصبح النظام السياسي مهدداً
بالانهيار في أي لحظة، مما أدى بالطبع لآثار اقتصادية خطيرة، فقد تراجعت حركة
السياحة والاستثمار، وتراجعت العملة الوطنية لأدنى مستوى لها على الإطلاق، مع
تصاعد عجز الموازنة والدين العام لأرقام غير مسبوقة في تاريخ مصر، وأصبحت مصر على
شفا الإفلاس، وقيل أن الحكومة قد تعجز عن سداد رواتب موظفيها أو قد تضطر
"لطبع نقود وهمية" مما يؤدي لموجة غلاء. وعندما تنصل مرسي من وعوده مرة
أخرى بتعديل الدستور، علاوة على غياب أي تحقيقات في وقائع الاتحادية، اندلعت
الاحتجاجات في ذكرى الثورة، وتأزمت الأمور لدرجة كارثية وخاصة في السويس وبورسعيد مع
سقوط خمسين شهيداً وآلاف الجرحى، وفرض حالة الطوارئ وحظر التجول، الذي لم يمكن
تطبيقه وتحداه شعب مدن القناة، وبهذا انهار عمود آخر، وهو هيبة الدولة.
إذن تصدعت أعمدة الدولة السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والأمن والقضاء واحترام القانون والدستور بل وهيبة الدولة نفسها – مع
وجود مخاوف نتيجة لتصريح وزير الدفاع تتعلق بتماسك الجيش نفسه، وهو خط الدفاع
الأخير للدولة المصرية، التي تقترب بسرعة من نقطة اللاعودة. ومع استمرار حالة
الاحتراب السياسي وانتشار الميليشيات والأسلحة، والتربص بين التيار الطائفي وباقي
التيارات، مما يضع على هذه الأعمدة المزيد من الأحمال وبالتالي يضاعف من مخاطر
انهيار الدولة ككل.
كيف نخرج من هذه الأزمة؟
مفتاح حل كل هذه الأزمات هو تصميم المبنى وأساساته، أي
الدستور وقواعد اللعبة السياسية، ولابد من الوصول لحل سياسي بسرعة يتضمن تعديل
الدستور ورسم خريطة طريق لمرحلة انتقالية جديدة، وإلا قد ينهار النظام السياسي مما
قد ينتج عنه انهيارات في أعمدة أخرى تتهاوى بصورة متتالية مثل قطع الدومينو.
وبالطبع انهيار النظم السياسي قد يؤدي للمزيد من العنف بين الأنصار الغاضبين من
الطرفين، كما سيرسخ حالة التربص على فرض استطاعة الطرف الآخر أن يشكل مجلس رئاسي
أو سلطة انتقالية. أما إذا أصرت السلطة على الاستمرار في هذا الوضع المستقر، تكون
كمن يحاول أن يجعل خروفا يقف على رجل واحدة بدلاً من أربعة أرجل، وهو وضع غير
مستقر ويجعل الخروف في النهاية يسقط سقوطاً مدوياً.