Sunday, March 26, 2023

تأريخ المستقبل Past or Future

 تأريخ المستقبل

 من أرشيف 2005 - نشرت في جريدة "المصري اليوم" في يناير 2005

قرأ المصريون جميعاً تصريح السيد أمين عام الحزب الوطني، الذي أعلن فيه عن تسمية مجلس الشعب للرئيس في مايو القادم، بحيث يجري الاستفتاء في شهر سبتمبر، وأعلن السيد أمين عام الحزب، أن مجلس الشعب سوف يُدعى إلى الانعقاد لمدة يوم واحد عقب إعلان نتيجة الاستفتاء، موضحاً أن الرئيس مبارك سوف يقوم في تلك الجلسة "التاريخية" بحلف اليمين إيذاناً ببداية فترة رئاسية "جديدة". لم يقل الأمين المساعد أن "الرئيس المنتخب"، أو "الرئيس الفائز" في الاستفتاء سوف يقوم بحلف اليمين، بل أكد أن الذي سوف يقوم بحلف اليمين هو الرئيس مبارك. لم يستخدم الأمين المساعد أي ألفاظ محايدة أو عبارات غير مؤكدة، قد توحي – مجرد الإيحاء – بأن هناك فرصة أمام الشعب للاختيار، أو بأن هناك أدنى شك في نتيجة الاستفتاء،  مما يؤكد فعلاً أن الجلسة "تاريخية"، وليست في علم الغيب أو قيد المستقبل، فقد تحددت نتيجتها مقدماً، بل لعلها حدثت بالفعل ونحن نيام.

 

لقد تحول المستقبل على يد الحزب الوطني ليصبح مجرد صفحة من نفس التاريخ الذي مضى. وهذا إنجاز عظيم يحسب للحزب الوطني، الذي نجح في عبور بوابات الزمن وكتابة الغيب عن طريق "تأريخ المستقبل"، وهي ريادة غير مسبوقة ولا ينكرها إلا جاحد. وبين "تأريخ المستقبل" و"تأخير المستقبل" علاقة وثيقة، لا يعرف أسرارها إلا الحزب الوطني بفكره الجديد. فقد نجح الحزب الوطني أولاً في تجميد الزمن لمدة ربع قرن، وأثناء تجمد الزمن ونوم الشعب في سبات عميق، يتسلل الفكر الجديد ليسرق المستقبل ويعيده إلى الماضي، ثم يروج لذلك الماضي ويحاول أن يبيعه للشعب باعتباره المستقبل. أي مستقبل يكون ذلك؟ بل هي بقايا كوابيس الماضي بكل أسف.

 

وفروا الجهود ودعونا ندخل في الموضوع

وأنا أتساءل هنا، فيم تضييع جهود وتكبد نفقات لا جدوى منها، في تسميات واستفتاءات و"حلفانات" إذا كانت النتيجة معروفة مسبقاً والأمور محسومة بصورة لا تدع مجالاً للشك؟ أليس من الأفضل أن نتفق على أن أسلوب اختيار رئيس الجمهورية طبقاً للدستور الحالي لا يسمح بأي تغيير، وهو ما عبر عنه السيد الأمين العام المساعد بواقعية وبلاغة شديدة، ويصبح من الأولى أن نوفر الوقت والأموال في شيء مفيد؟ كأن يطرح علينا السيد الأمين المساعد مثلاً رؤية حزبه في كيفية الوصول لعملية اختيار حقيقية، تضمن تداول السلطة بشكل سلمي، وتسمح للشعب باختيار من يحكمه، فيعود هذا الشعب المهمش للاهتمام بالشأن العام بصورة تدريجية، وتقوى خيوط انتمائه لوطن أصبحنا نشعر أننا فيه أغراب، ويبدأ المواطن المصري في احترام الدولة بمؤسساتها، عندما تحصل السلطة على شيء من الشرعية المكتسبة من اختيار الحاكم للمحكوم، والتفويض الذي يمنحه الشعب لمن يمثلونه.

 

إنني أدعو أصحاب القرار لمراجعة تصريحات السيد أمين مساعد الحزب الحاكم، واقترح عليهم تبني مشروع قرار بتجميد كل أشكال الانتخاب والاستفتاء لحين يريدون، بشرطين. الأول، أن تحتوي الانتخابات - وقتما يسمحون بها – على ضمانات تكفل أن تأتي هذه الانتخابات بنتائج غير "تاريخية" وغير محسومة مسبقاً لصالح الحزب الاحتكاري، والشرط الآخر، أن يتم إعلاننا بصورة رسمية بتوقيت حدوث ذلك، حتى نأخذ جميعاً أجازة من الاهتمام بالشأن العام، ونلتفت لأمور أكثر جدوى حتى ذلك "التاريخ".

عزبنة الدولة License to Exploit

 

عزبنة الدولة

 من أرشيف 2004 - نشرت في جريدة "المصري اليوم" في ديسمبر 2004

خلال الأربعين عاماً الأخيرة، تعرضت "الدولة" لحالة من "الحكمنة" ثم "العزبنة". فمنذ بداية الستينات، قررت الحكومة أن تسيطر كل أوجه الحياة في مصر، "فأممت" أو في الواقع "حكومت" أو "حكمنت" كل شيء وكل نشاط. والحكمنة تختلف تماماً عن الحوكمة. فالأخيرة تشير إلى ترسيخ مبادئ الإفصاح والشفافية وقواعد الرقابة والمساءلة، للوصول إلى الحكم الرشيد للمؤسسات. أما الحكمنة فهي مرادف للقرصنة، وتشير إلى نوع من أنواع البلطجة الحكومية المقننة والمنسوبة ظلماً إلى الأمة في تعبير "التأميم"، والأمة منها براء. وكما سنرى فالحكمنة عكس الحوكمة في كل شيء وإن اتفقت معها في بعض الحروف.

 

في البداية تأتي الدولة "فتلقح جثتها"  على صاحب العمل أو المبادرة وتتحرش بمشروعه أو مؤسسته، ثم تجبره على "طلب" الانضمام إلى الشركة القابضة الفلانية أو القطاع الإنتاجي العلاني، وتعطيه تعويضات هزلية عن قيمة هذا "الانضمام التطوعي"، وتحوله إلى موظف في المؤسسة التي بناها، ثم تطرده بعد قليل، وفي النهاية تتركه "ليموء" في الشارع. والحكمنة كلمة جامعة مانعة، تدل على سيطرة الحكومة على حياة الناس من قبل ومن بعد، فكل حرف من حروف "الحكمنة"، يشير لحكمة بالغة أو معنى نبيل، فالحاء والكاف يدلان على احتكار الحكومة لكل نشاط، والميم تشير إلى الموت الذي أصاب الدولة من جراء ذلك، والنون تشير إلى "نبوت الفتوة" الذي هو الحكومة وبطشها، والبلطجة التي تمارسها بارتياح تام ودون أي تأنيب ضمير، فهي تمرر القوانين تحت جنح الظلام لتضفي الشرعية على تسلطها وقرصنتها، وتعطي غطاءً أخلاقياً لموظفي عموم الجباية ليردوا به على أي متظلم "أنا لا أضع هذا المال في جيبي، هو يذهب لخير البلد والخزانة العامة."  

 

تجد الحكومة مشروعاً ناجحاً يدر على صاحبه دخلاً يكفيه شر سؤال الناس والحكومة، فتستكثر عليه أن يعيش في كرامة دون أن يحتاج التذلل للحكومة، فتأممه، أو تفرض عليه الضرائب الباهظة حتى يفلس، أو تتهمه بتوظيف الأموال ثم تخضعه للحراسة، أو تلاحقه لسداد قروض بنكية وهي "تأكل عليه" مستحقاته بالمليارات، أو تجعله هدفاً للإعدام المعنوي بتسريب الشرائط الجنسية، أو تلفيق التهم الكيدية، إلى أن تنهار أعماله، فتشعر الحكومة براحة وسعادة بالغة وترى ثمرة نجاحها في حماية الشعب من المستغلين. ولم يقتصر هذا على الأنشطة الاقتصادية، بل امتد للقطاعات الثقافية والاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها.

 

وعندما أممت الدولة كل شيء و"طفشت" كل صاحب مبادرة أو موهبة أو مهارة، فوجئت أن لديها مجموعة ضخمة من "الخرابات المؤسسية". ففي غياب الإحساس بالتملك تحولت الشركات والجمعيات إلى خرابات ومجمعات. لم تكمن المشكلة فقط في ضياع مفهوم التملك بمعناه القانوني، ولكن الأخطر هو اندثار الشعور بامتلاك جزء من الحلم وبعض لبنات من البناء. ومع اختفاء الفكر الإداري وروح المبادرة والإبداع، وجدت الحكومة أن حصيلة أعوام القرصنة هو أسطول ضخم من السفن "الخربانة" و"المنقورة" ومعظمها على وشك الغرق. نعم، الدفاتر المحاسبية تحتوي على "أصول" موجودة، من مبان ومكاتب وخطوط إنتاج ومخازن على الورق، ولكنها جميعاً خالية من الروح ولا تمثل "أصولاً ذات قيمة سوقية أو قدرة على أن تدر أرباحاً مستقبلية" بالمفهوم الاقتصادي.

 

ومع هذا الخراب، وجدت الدولة نفسها في وضع فريد. فلديها كيان ضخم، ولكنه "مخوخ" من الداخل، لا يوجد من يديره أو يتحمل مسئوليته، فعهدت بهذه المهمة لمجموعة من المحاسيب وأهل الثقة، سواء من ضباط "الحركة" المباركة أو زملائهم أو تلاميذهم أو من يدينون لهم بالولاء، وفيما بعد اعتمدت على رجال "التنظيم الطليعي"، ثم أعضاء لجان حزب الحاكم الأوفياء والملتزمين بقانون الصمت "الأومرتا"، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

ولأن تلك المؤسسات والمصالح أصبحت خرابات جرداء، ذبل الزرع فيها وجف الضرع وتبخر الماء، فقد عجزت الحكومة أن تعطي المقابل أو الراتب "المناسب" للقائمين على تلك المصالح أو العاملين فيها، فوقع بينهما تراض تمخض عن اتفاق غير مكتوب، هو عبارة عن امتياز وترخيص بالاستغلال، استغلال المواطنين طبعاً وسرقتهم و"تقليبهم"، وفرض العمولات الفاحشة والإتاوات والرشاوى الباهظة عليهم إن هم أرادوا التعامل مع المؤسسة أو التعاقد معها بيعاً أو شراءً أو استئجاراً أو توريداً من أي نوع، هذا بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية.

 

أما الهيئات الحكومية المتحكمة في شئون البلاد وحياة العباد، والمسئولة عن الترخيص لأي نشاط، سواء عقاري أو تجاري أو صناعي، أو حتى تراخيص القيادة والسيارات وتراخيص التصدير أو الاستيراد، أو التحرك أو السفر أو التصريح لأي نشاط من أي نوع، فحدث ولا حرج عن المشارط والأمواس والأدراج نصف المفتوحة، والإتاوات والسرقة بالإكراه وتحت تهديد سلاح "توقيف الحال"، والذي تفضلت الحكومات المتعاقبة مشكورة بوضعه في أيدي هؤلاء الموظفين العموميين عن طريق طبقات ورقع متتالية من القوانين واللوائح التي تمنع وتجرم كل شيء، وتجعل الالتزام بالقانون أمراً شبه مستحيل حتى في أي نشاط بسيط وطبيعي. وبين تلك الطبقات والرقع، تأتي بعناية الثغرات والحفر، والبثور والدمامل والبؤر، التي تتيح للموظف العام أن "يمشي الحال" بعد توقيفه. ولكي "يمشي الحال" مرة أخرى فهو يحتاج إلى تشجيع كبير، وتصفيق وزق وشاي وسجائر، فضلاً عن حافز مادي ضروري لتسليك الطرق الواقفة، وفك العكوسات والأعمال الشريرة، ويعمل بمثابة "المشاية" أو "العصاية" التي يتعكز عليها هذا الحال هو والسيد المسئول.

 

وهكذا سار الأمر، فمع كل شهر يحصل فيه الموظف على راتب هزلي لا يتناسب مع ظروف الحياة، يتسلم مع إذن القبض تصريحاً ضمنياً يسمح له باستكمال دخله عن طريق الرشوة. ثم صدرت فتوى شرعية تحلل تقديم الرشوة في ظروف معينة، وأصبح الأمر "عال العال".

 

أعطت الحكومة لعمالها ترخيصاً ضمنياً غير مكتوب بالاستغلال، ينص على أنه "يحق لكل مسئول استخدام سلطته العمومية لاستكمال دخله الحكومي الهزيل عن طريق استغلال الشعب وفرض الإكراميات والرشاوى والإتاوات عليه، وهذا الترخيص لن يعترف به في حالة ضبط الموظف متلبساً، وسوف تنكر الحكومة أي وجود لهذا الترخيص في تلك الحالة."

 

ولشرح مفهوم "العزبنة"، فقد قسمت الحكومة الدولة إلى مجموعة من العزب والإقطاعيات، ومنحت كل واحد من كبار الموظفين صكاً بملكية إحدى تلك العزب أو بإدارة إحدى تلك الإقطاعيات مع تمتعه بحق الانتفاع. وينص الصك على أنه "يحق لكل مدير مصلحة أن يستخدم المصلحة وأصولها من أجهزة وسيارات حكومية ومصايف وخلافه في أغراضه الشخصية والعائلية، كما يمكن له استخدام مرءوسيه في أعمال التنظيف وشراء لوازم البيت والطهي ورعاية الأطفال وإعطاء مجموعات التقوية لهم. ويمكن التجديد للمسئول حتى يبقى في موقعه بدون حد أقصى والأعمار بيد الله، ويمكن للمدير أن يورث إدارة الشركة أو المصلحة لأولاده، بشرط أن يتجاوزوا سن الثلاثين، وأن يأتي التوريث من خلال ثني ولي القواعد الإدارية، ويمكن في حالات الضرورة القصوى اللجوء لتكسير تلك القواعد في الخفاء وبشرط عدم إحداث ضجيج أو رذاذ أو رائحة كريهة. والحكومة تشجع قيام سوق مقايضة لتبادل المناصب والخدمات بين كبار الموظفين، للأخذ في الاعتبار تباين مؤهلات الأبناء الأحباء وميولهم، وتنوع احتياجات الأقارب وأهل "المدام" لدى المصالح الحكومية المختلفة، مما يحتاج لتعاون المسئولين عنها تحقيقاً للمصلحة المشتركة. كما يحق للمسئول أن يستعين بأولاده في التصدي للمسئولية العامة عن طريق تشجيعهم على مساعدته في العمل، بأن يشرعوا في تكوين الشركات التي تقوم بالتوريد للمصلحة عن طريق الأمر المباشر ودون حد أقصى للقيمة. وفي حالات سوء الحظ قد يتعرض المسئول للملاحقة القانونية إذا قامت حملة إعلامية ضده لفترة تزيد عن 3 أسابيع من النشر المتوالي في الصحف، وهنا سوف تنكر الحكومة أي وجود لهذا الصك، ومع ذلك، فسوف يلقى كبش الفداء كل رعاية في سجون الخمسة نجوم."

 

ومع انتشار الحكمنة و العزبنة، لم يجد الشعب المسكين أمامه سوى "الحسبنة". حسبنا الله ونعم الوكيل.

إعلام الريادة بين المبايعة والإشادة Propagandist Media

إخترناك: إعلام الريادة بين المبايعة والإشادة

من أرشيف 2004 -  نشرت في جريدة "المصري اليوم" - أغسطس 2004 

خرج علينا أحد كبار أقطاب الحكومة الجديدة بتصريح مطمئن للغاية، مفاده أن الدولة سوف تستمر في "رعاية" الإعلام، وأن التكهنات الإصلاحية التي توقعت البدء في خصخصة قطاع الإعلام تمهيداً لحل وزارة الإعلام (الإرشاد القومي سابقاً) هي تكهنات خاطئة.

 

وهذا التصريح مطمئن جداً، بالطبع ليس للمواطن المصري المسكين الذي لا يستطيع غالباً مشاهدة المباريات الدولية لفريقه القومي إلا على القنوات الفضائية الأجنبية، ولا يستطيع متابعة أخبار بلده إلا من خلال قنوات "الجعير" الأجنبية أيضاً، لأنها رغم تشنجها تبث الأخبار في حينها، عكس القنوات المصرية التي عليها أن تنتظر التوجيهات، لتحديد ما إذا كانت الأخبار مناسبة للشعب الغرير، أم أنها سوف تفسد أخلاقه وتفتح عينيه على أشياء لا تناسب سنه وهو بالتأكيد في غنى عن معرفتها. على المواطن المصري أن ينتظر خمسة أيام كاملة، ليتابع أحد استجوابات مجلس الشعب، رغم أن مجلس الشعب يبعد عن ماسبيرو بمسافة تقل عن كيلومتر واحد، ولكن عمليات المونتاج والتجميل وشد الجلد، هي عمليات صعبة وتحتاج لعودة الخبراء من الخارج، وكان الله في العون.

 

هذا التصريح لاقى الترحيب الحار، ليس من المواطن المصري المغلوب على أمره، ولكن من القنوات الفضائية الخاصة، العربية والمستعربة بتمويل أمريكي. ويسعدنا أن يهتم المسئول الكبير بطمأنة هذه القنوات الخاصة، وتشجيعها على التوسع في جذب واستقطاب المشاهد المصري والعربي، والانفراد به أمام المرمى في الملعب الإعلامي في كل المجالات، بدءاً بالقطاع الإخباري (الجزيرة وعربية)، مروراً بالقطاع الشبابي (روتانا وأخواتها علاوة على قنوات الرياضة العربية)، وقطاع الدراما (شوتايم وأوربيت وART)، حتى قطاع الأطفال لم يسلم من الغزو الفضائي (كارتون نتورك وقناة ديزني وسبيس تون)، وهذا شيء عظيم ويؤكد قدرة مسئولينا على تحقيق الريادة، فقد حققوا الريادة لتلك القنوات الأجنبية والشقيقة في سنوات قليلة، وهذا إنجاز في حد ذاته يحسب لهم، مما يدل أيضاً على ريادة المصريين في كرم الأخلاق والترحيب بكل وافد شرط أن يكون فضائياً لا أرضياً، ولعل في هذا تأكيد لنظرية التواصل المثمر بين الفراعنة والمخلوقات الفضائية.

 

في ظل "رعاية" الدولة للإعلام المصري، تحققت إنجازات عظيمة وريادة غير مسبوقة، تمثلت في زيادة عدد القنوات المصرية إلى ما يقرب من أربعين قناة خالية من أي محتوى ولا يشاهدها أحد، بعد أن باع التليفزيون كنوزه من أصول الأفلام المصرية القديمة. أربعون قناة تسبح بحمد الحكومة وتشيد بعظمتها في الغداة والعشي، وتدافع عن جميع المسئولين في كل المواقع، وتؤكد لنا أن الشمس ساطعة والجو مشرق في نفس الوقت الذي تجتاح فيه السيول البلاد. وإن ننس فلا ننس مبنى التليفزيون الفخيم المطل على النيل السعيد، وهذا المبنى تقطنه عدة قبائل قوامها حوالي 50 ألف موظف، كل منهم ينتمي لأحد البطون الرئيسية، ولابد للترقي أن يكون الموظف قريب أو نسيب أحد شيوخ القبائل، لتأكيد الجو الأسري، الذي يحفل مع ذلك بالمقالب اللطيفة، والصراعات الأخوية، التي كثيراً ما تنتهي في السجن، عند الخلاف بين الشيوخ على توزيع الغنائم والأسلاب، فيتم القبض على واحد من صبيان المعلمين الكبار قوي ذراً للرماد في العيون. 50 ألف موظف موجودون نظرياً ولكن لا يعلم أحد ماذا يفعلون، في الوقت الذي نجد المحطات الفضائية الجديدة التي تكتسح السماوات والأرض وما بينهما من منازل ومطاعم وفنادق ومقاه، نجد تلك المحطات تُدار بعدة عشرات قليلة من المتخصصين الموهوبين، وكثير من هؤلاء الموهوبين فشل في الالتحاق بقبائل التليفزيون المصري، لأن الموهوب كما هو واضح مما سبق فاشل والعيب فيه أصلاً، لعدم خروجه من البطن المناسبة، أو عدم قدرته على التكيف مع جو الفساد العليل، وعلى المتضرر اللجوء للفضائيات.

 

وعلى سبيل المثال، فقد نجح الإعلام المصري في ظل "رعاية" الدولة في تحقيق سبق فني وتقني وثقافي جليل، وهو تطوير أغاني المبايعة وأناشيد الإشادة "الدائرية" (مثل أغنية "أخترناك")، التي يلتحم أولها بآخرها ويمكن نظرياً أن يتم بثها للأبد ودون توقف. وقد استطاع التليفزيون بالفعل أن يحقق أرقاماً قياسية عندما قام ببث إحدى تلك الأغاني لساعات طويلة متصلة، وتم قطع الإرسال في النهاية لأسباب طبية عندما عجزت المستشفيات العقلية عن استيعاب الأعداد الغفيرة ممن أصيبوا بنوبات الصرع والتخلف العقلي المفاجئ أثناء البث. وهذه الأغنية الأوبرالية الأوركسترالية، يؤديها مئات المغنيين والممثلين والريجسيرات الذين يصطفون على المسرح، لأن عدم المشاركة في الغناء يعد بمثابة الخيانة العظمى، يُحرم معها الممتنع من التعامل مع التليفزيون والإذاعة والمسرح والسينما بل والنوادي الليلية  لسنوات طويلة. وهؤلاء المئات من "الفنانين"، يغني كل منهم نفس المقطع لعدة دقائق، ثم يختار زميل يتسلم الراية من بعده، إلى أن تعود له من جديد بعد عمر طويل ليستكمل الغناء بدوره وهكذا دواليك. وهذه الأغنية تعد من أسلحة الدمار الشامل الاستراتيجية والتكتيكية في نفس الوقت، وعادة ما تطلقها الحكومة علينا في شكل جرعات عشوائية متكررة، فتصيب المشاهد إما بالبله أو الصرع أو الوفاة، حسب سرعة رد فعله وقرب أصابعه من زر الإغلاق في الريموت كونترول، وذلك لأن تغيير المحطة لا يجدي، حيث أن جميع المحطات عادة ما تنضم معاً، لتتحالف ضد المشاهد أثناء البث، لحصاره وتحقيق أكبر خسائر في الأرواح، مساهمة من إعلام الريادة في مكافحة الزيادة السكانية، بعد فشل برامج الريادة ماركة "حسنين ومحمدين" في تنظيم الأسرة.

 

في ظل "رعاية" الدولة للإعلام، تبوأ عديمو الموهبة مقاعد الموهوبين، وطرد الفاشلون ممن ينتمون لأحد بطون قبائل ماسبيرو، طردوا الناجحين ممن لا قريب لهم ولا نسيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وكانت النتيجة أن تنامت الأكاذيب لتطغى على الحقائق، واستشرت السخافة والسماجة لتغتال فنون الإعلام الأصيلة، واختلط الإعلام بالإعلان، والحابل بالنابل، وترعرعت المجاملات على حساب الأمانة المهنية، وانتشرت عمليات غسل المخ لتضخم الأمور العادية وتحولها إلى منجزات بلهنية ومعجزات خيالية، بهدف تزييف وترويش الواقع الصفري الأليم، وتكفلت خدع المونتاج بتضليل المشاهد وحجب الحقائق عنه، لأنه قاصر وعديم الأهلية ولا يستطيع تحمل الحقيقة، والحقيقة في النهاية نسبية، ومن لا نسب له يضيع وسط قبائل أدغال ماسبيرو.

 

كل هذه الإنجازات العظيمة هي نتيجة مباشرة "لرعاية" الدولة للإعلام، وهذه "الرعاية" بالطبع ليست مجانية، فنحن نسدد ثمنها من جيوبنا كل يوم، فميزانية الإعلام تستهلك عشرات المليارات، وهي بالمناسبة مليارات سائبة وغير خاضعة لرقابة مجلس الشعب لأنها تمس الأمن القومي. ولا أعلم معنى إقحام الأمن القومي في حماية الفشل القومي في مجال الإعلام، وهو الفشل الذي يتنامى يوماً بعد يوم. هل نعلم أنه لا توجد أية محطة مصرية في قائمة أفضل عشر قنوات عربية، حسب استطلاعات الرأي لاختيار أكثر المحطات العربية مشاهدة - مع الاعتذار لخيبة المونديال؟ وفي نهاية الأمر، ما هو الهدف من هذه "الرعاية"؟ هل تظن الحكومة حقاً أن الشعب المصري "أهبل" و"ريالته على صدره" حتى يصدق الطنطنة الفارغة أو أكاذيب "أبو لمعة" الإعلامية؟ يعني صرف وصرفنا، وقرف واتقرفنا، ورقدنا على ظهورنا كده مستسلمين ومستعدين لتصديق كل ما يقال، ولكن إذا كان المتكلم "لا مؤاخذة"، فالسامع وهو الشعب لا يزال مع الأسف لديه بقية من عقل وذوق، رغم أن الأول في تدهور يشهد عليه تزايد نسب الإصابة بالاكتئاب، والثاني في انحدار يشهد عليه انهيار الذوق العام.

 

حقيقة لا نعلم ما كان يمكن أن يحدث لولا هذه "الرعاية". هل كان يمكن أن يحدث أسوأ مما نحن فيه الآن؟ ألم يشهد المسئول العظيم الغزو الثقافي والإعلامي الشامل الذي جاء كنتيجة مباشرة "لرعاية" الدولة للإعلام؟ بالله عليك، إذا فرضنا أن أحد الأعداء رصد كل الموارد المطلوبة بهدف غزو مصر ثقافياً وإعلامياً، هل كان يمكن أن ينجح في تحقيق ربع الاختراق الناتج عن هذه "الرعاية"؟ إننا مع جزيل شكرنا وكامل تقديرنا لتعب الحكومة معنا و"رعايتها" الشديدة لنا، فإننا نقول لحكومة "الرعاية"، إن رعايتك على عنينا ولكنها لم تعد تلزمنا، وأنه قد حان وقت الراحة، ونتمنى للحكومة نوماً هادئاً وأحلاماً طويلة "دائرية"، على ألا تضيع أموالها – ولن أقول أموالنا- في هذه "الرعاية" التي نرفضها، بل أعلن أننا في حاجة للتخلص من هذه "الرعاية" في أقرب فرصة، قبل أن نجد أنفسنا جميعاً في غرف "الرعاية" المركزة.

 

رسالة من الأم - بردية A Message from the Mother

 حديث الأم

بردية

من أرشيف 2004 - نشرت في المصري اليوم أكتوبر 2004 


أنا مصر، أمك، فانهض واستمع. قلبي غاضب عليك وغضبي سيأكل قلبك إن لم تفعل ما يجب. إني أنظر إلى العالم الذي يحيط بك وأشعر بالخطر. روح سخمت اقتربت من الأرض لتهيم قلقة فوق البحار والأنهار والفيافي. لقد نسيت الطرق القديمة التي إياك علمت، ولم تتعلم أي شيء جديد له فائدة. لقد منحني الله سر الحياة، وهو مخبوء في أرضي إلى يوم الدين، لا يستطيع أحد أن يستخرجه. فقط لمن يؤمن بالخالق ويحرث الأرض ويرمي البذور ويعطي الفقير، سوف يجيء الفيضان فيخرج الزرع وفيراً لكل من يحتاج. سري لن يفهمه المغرور الذي يتباهى بالوفرة والراحة والتخمة ويستسلم للشبق. لن يستطيع الجشع أن يستخرج أسراري ليعبأها في قنائن معدنية. لقد تعلمت الحكمة عبر آلاف السنين ولا تصدق من يقول أنه يستطيع أن يحتال على الزمن أو يخدع الأرض. لابد أن تعمل بهمة عالية حتى يعرف البشر من كل أمة قدري ويستمعوا لأحاديثي ففيها نجاتهم. إن لم تفعل هلكت وهلكوا معك أو بعدك بقليل.

 

تشكو من الفاقة وتسألني "لماذا أنا فقير؟" وأنت لم تخرج تبحث عن الرزق بعزة، بل اكتفيت بالجلوس تحت قدمي الوالي تنتظر فتات خبزه في مذلة. تشكو من الظلم وأنت تجور على جارك، وتشهد بالزور إكراماً للقوي، وتصنع التماثيل لتمجد المفسدين. تشكو من التيه وأنت تخشى من الحفر لا تكاد عيناك تفارق الأرض. تشكو من الغزاة الأجانب الظالمين، وأنت لم تعلم أبناءك فنون القتال بل تحايلت ألا يخدموا في الجيوش لأنك رغبت أن يعيشوا في دعة.

 

دولتك سوف تسقط يا كل من حاربت الماهر والمتقن والموهوب ومنعته أن يتبوأ مكانه الذي يستحق ولو كان كرسيك الذي تجلس عليه الآن. ملكك سوف يزول يا من عاقبت العامل وسجنت الطيب ووصمت الأبرياء. لديك ملايين الجواهر التي أودعتها مملكتك وأقمتك عليها حام. الآن تشكو من زيادة النسل وكثرتهم لك ثروة. كل جوهرة تأتي بالخير الوافر لمن يرفعها أو تجرح أقدام من يمشي فوقها. الخرس لا ينشدون والأقزام لا يشيدون المسلات العظيمة. العبيد لن ينصروك على كثرتهم وإن أقسموا على الطاعة والولاء. فقط الأحرار يمكن أن تقودهم إلى النصر دون أن ينكصوا على أعقابهم فيخذلوك. فقط اللئيم يخشى من أعوانه الشجعان. لا تضعف إخوتك الأقوياء ظناً أن هذا يحميك. لا يحميك إلا أن يكون لك إخوة أقوياء. أطلق طاقاتهم تجدهم معك في كل ميدان فتنتصر. لا تدع جنودك يعيثون في الأرض فساداً ويجورون على أولادي. معسكرات الجنود خارج المدينة ورزقهم يأتيهم من أهلهم المزارعين طواعية. لا تدع عمالك يتكبرون على أولادي ويرهقونهم بالصكوك والأختام.

 

أنا أعطيك ما يكفيك فلا تأخذ ما هو ليس لك. لا تأخذ جل المحصول من الفلاح الفقير بدعوى تدعيم الجيوش. العامل لن يعمل إن لم ير ثمرة عرقه. لا تعط عمالك أقل مما يستحقون حتى لا يستحلوا أموال الدولة التي أنت عليها راع. اسمع للصغير والكبير واعمل بأفضل ما تسمع مهما كان مصدره. أجزل في العطاء لصاحب كل رأي تستحسنه. إن تنكر فضل الناصح لن يتردد على مجلسك سوى السفهاء ويخلو رأسك من الأفكار الملهمة. لا ينقص من قدر الحكيم أن يعترف بالخطأ ويرجع عنه. من يركبنه العناد والصلف عن أن يقول أنا أخطأت يغوص في الأوحال حتى قمة رأسه. إن تصم أذنيك عن شكوى المظلوم يثقل قلبك بالخطايا ويأتيك صراخه يفزع نومك.  أنت وجنودك تتقاضون معاشكم مقابل خدمة أولادي وحمايتهم. إذا انقلبت الآية وصار أولادي عبيداً لدولتكم زال ملككم ولو بعد حين. خذ عبرة ممن ذهب من قبلك وهو في وسط جنوده.

 

إن ترغب في الاستفادة من الكنز أنا أدلك على مكانه. في قلب كل واحد من أولادي وفي ساعديه وفي رأسه. إذا جعلت قلبه حزيناً، وقيدت ذراعيه بالسلاسل، ووطأت رأسه بحذائك، فلا تشكو من الفاقة وسوء المآل.

 

 

 

وائل نوارة

wael_nawara@hotmail.com

 

Monday, March 13, 2023

الديمقراطية كآلية لإدارة الصراع

بناء آليات التوافق للخروج من الأزمة

أرشيف 2012 


المشهد الآن خطير، ويحمل سيناريوهات مخيفة تهدد مستقبل الوطن. كل طرف يريد استخدام الثورة أو الشعب أو السلطة أو القوة أو القانون في التخلص من الأطراف الأخرى. كل سلطة تحاول نزع الشرعية عن السلطات الأخرى. كل فصيل يحاول أن يقصي الأطراف الأخرى. البرلمان يحاول أن يعبث بالسلطة القضائية. والقضاء يسحب الشرعية من البرلمان. تيار الإسلام السياسي يحاول التكويش على تأسيسية الدستور. الإخوان انقلبوا على المجلس العسكري. والمجلس العسكري قد يقلب الطاولة في وجه الجميع. والثوار يريدون إسقاط المجلس العسكري والإخوان معاً.

كل هذا يحدث نتيجة لقصور حاد لدينا في فهم فكرة التفاوض وإدارة الصراع بصورة سلمية. الديمقراطية في الأصل ليست هدفاً في حد ذاتها، بل آلية تفاوض مستمر، لاتخاذ القرارات الجماعية بصورة تضمن تحقيق الحد المقبول لمصالح الجماعات والطوائف المختلفة، بما يقلل من الصراعات العنيفة داخل المجتمع. الانتخابات والبرلمانات ما هي إلا أحد آليات الديمقراطية. فإذا عجزت الانتخابات عن تحقيق توازن في تمثيل جماعات الوطن المختلفة داخل البرلمان مثلاً، وجب على البرلمان أن يحاول استعادة هذا التوازن في تشكيل تأسيسية الدستور، وليس التعلل بأن نتيجة الانتخابات "جت كده" وبالتالي من حق الأغلبية أن تستأثر بكتابة الدستور. الشعب انتخب البرلمان ليشكل تأسيسية تعبر عن الشعب بتنوعه وليس لتعبر عن البرلمان بأغلبيته المؤقتة التي قد تتغير غداً أو بعد سنوات.

بداية، لدينا مشكلة ثقافية: لدينا بُغض تلقائي لفكرة الصراع، رغم أن الصراع هو ظاهرة طبيعية مفيدة للمجتمع وللتطور، طالما في الحدود السلمية المعقولة. نعاني أيضاً من إنكار فطري لوجود أي مصلحة خاصة لأي طرف أو حزب أو هيئة أو جماعة، رغم أنه من الطبيعي أن يكون للعمال مثلاً مصالح تختلف عن أصحاب العمل أو المستهلكين، وترسيم الوطن لابد أن يتضمن تحقيق حد مقبول من المصالح الخاصة لكل طائفة تعيش فيه. ومع الإنكار، يحاول كل شخص أو طرف أن يحقق أجندته الخاصة في الخفاء، لأن المجتمع لا يحب الاعتراف بفكرة المصالح الخاصة بل ينكرها، وتنشأ الصراعات المستترة وتعمل على الهدم الداخلي للمجتمع، كالتقيحات، تأكل في أنسجة الجسم تحت قشرة هشة تخفي الصديد. يحاول البعض إذن أن ينكر وجود مصالح خاصة من الأساس، ويجتهد ليقنعنا أنه يعمل فقط من أجل المصلحة العامة. ولكن ينشأ عن هذا النكران، أن يبتذل كل طرف استخدام مصطلح "المصلحة العامة" و"الإرادة الشعبية" و "الثورة" و "المصلحة الوطنية" ليعبر عن مصلحته هو، فتنتشر الأجندات غير المعلنة، وتتوه الحدود الفاصلة بين المصالح المختلفة.

بداية حل الأزمة أن ننحي مصطلح "المصلحة العامة" جانبا بصورة لحظية، ونسأل كل طرف عن مصلحته الخاصة، بل ونعترف أنه ليس هناك أي عيب في وجود مصالح خاصة، ثم نبحث عن توافق يحقق الحد الأدنى المقبول من المصالح الخاصة لكل طرف - ونعود فنسمي هذا التوافق "المصلحة العامة". هذا "التوافق" لا يعني أن كل طرف سيحصل على كل ما يريده، بل يحصل على حد مقبول، أعلى من الحد الأدنى. وهذا يتطلب وجود مائدة للحوار المجتمعي، وأن تجلس عليها كل الأطراف، عمال وفلاحون ورجال أعمال وموظفون، إلخ. أما لو دفعنا أي طرف خارج الحد الأدنى، سيقوم من على الترابيزة، بل ربما يقلب الترابيزة، ويلجأ لتعطيل المنظومة، سواء بصراع عنيف، أو إضرابات واعتصامات وتظاهرات، يرفض فيها الاتفاق المجحف من وجهة نظره، لأن ذلك الاتفاق لم يحقق له الحد الأدنى المقبول، أما التوافق، فيعني أننا نعمل داخل مربع القبول، حيث تقبل كل الأطراف الاتفاق، ويرون أنه يحقق حداً مقبولاً من مصالحهم.

كل طرف إذن لديه مصلحة خاصة ويريد تحقيقها وهذا طبيعي - المشكلة عندما يصر طرف ما أن مصلحته هو أو انفراده هو بالسلطات- يحقق المصلحة العامة. الصراع ينشأ عندما يريد طرف أو عدة أطراف أن يحققوا مصالحهم هم وحدهم، وينفردوا باتخاذ القرار أو بالسلطة، بحجة أن هذه هي المصلحة العامة، فيدفعوا بباقي الأطراف خارج "مربع القبول"، فينشأ الصراع العنيف. الحل ليس في إن نستنكر وجود مصالح خاصة لأي طرف - بل في إعلان تلك المصالح والعمل على تحقيق أقصى حد من المصالح الخاصة لكل الأطراف - بما يفوق الحد الأدنى المقبول لكل طرف. الحل ليس في محاربة المصالح الخاصة لأي طرف واتهامه بأن لديه أجندة خاصة ومنع تحقيقها كما اعتدنا - بالعكس – بل البحث عن توافق يحقق مصالح الجميع - هذه هي المصلحة العامة – أن نعمل جميعاً في المساحة المشتركة – في مربع القبول.

دعونا نطبق مفهوم إدارة الصراع على المشهد السياسي الموجود الآن في مصر. نحن في وضع خطير ومأزق دستوري شديد - كل سلطة ترفض الاعتراف بالسلطات الأخرى وتهدد بسحب شرعيتها. كل تيار يدعي أنه وحده يمثل الثورة أو الشعب وأن الباقين خونة ممولون من الخارج. محاولات نزع الشرعية عن الآخرين قد تكون ردود أفعال ضد من يريد أن يحتكر وحده القرار والسلطة أو افتئات يهدف للاحتكار، سيان – لأن الحل هو الشراكة وعدم احتكار أي طرف - وليس قبول الأطراف بطرف محتكر. محاولة الانفراد وإقصاء الآخرين قد تبدو للحظة ممكنة – حتى تتنبه باقي الأطراف أنها هُمشت فيبدأ الصراع وقد يقودنا لحرب أهلية لا قدر الله مثل ما حدث في الجزائر، أو محاولات لتقسيم البلاد وتجربة السودان قائمة أمام أعيننا.

 

الوضع القائم يهدد بانزلاق البلاد نحو صراعات عنيفة لأننا نرفض أصلاً المبادئ الأولية للعملية السياسية: الاعتراف بالآخرين وبمصالحهم والجلوس على طاولة تفاوض للبحث عن المساحة المشتركة. تجربة الأشهر الماضية أثبتت أنه لن يستطيع أي طرف أن ينفرد بالقرار ويقصي الآخرين - حتى لو معه شرعية الصندوق أو القوة أو أحكام القضاء أو الميدان أو البرلمان. الأشهر الماضية أثبتت أننا نحتاج لأن نبدأ مرة أخرى في بناء طاولة التفاوض المجتمعي بصورة أشمل تضمن وجود كل أطراف المصلحة الوطنية.

حكم المحكمة الدستورية العليا بحل البرلمان، رغم أنه حكم قانوني، ما كان ليحدث لو اجتهد البرلمان في تحقيق التوازن في تشكيل تأسيسية الدستور. الحل كان بيد مجلس الشعب لشهور، بتشكيل تأسيسية تضم أعلام وعقول مصرية تمثل المجتمع بتنوعه وليس أيد عددية مهمتها اصطناع أغلبية لأي طرف. وإذا استمرت أزمة حل البرلمان، الخروج منها لا يكون بأن يستأثر المجلس العسكري بالتشريع، بل بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت يضم ممثلين للتيارات السياسية وبعض مرشحي الرئاسة الذين حصلوا على ثقة الشعب، مع ممثلين للمجلس العسكري والقضاء والثورة والنقابات والهيئات الأخرى. بديل آخر هو أن يتم نقل سلطة التشريع بصورة مؤقتة لحكومة ائتلافية متوازنة تضم مختلف أطياف المشهد السياسي، ليخرجوا علينا بتشريعات تضمن شرعية وشمولية الانتخابات البرلمانية القادمة. هذا المجلس التوافقي المؤقت – أو ذاك - لابد أن يخرج علينا بخطة لإنقاذ البلاد، بعد أن فشلت المرحلة الانتقالية الأولى في تحقيق معظم أهدافها. التشريعات المؤقتة تعرض على مجلس الشعب القادم في أولى جلساته ليقرها أو يعدلها أو يلغيها.

أما إذا أصر كل طرف على أن شرعيته هي الأعلى من الأخرين، ستتمزق البلاد بينما يمسك كل طرف بجزء لا قيمة له، لأنه في هذه الحالة، لا قيمة للجزء في غياب الكل. لا قيمة للبرلمان إذا قام القضاء بسحب شرعيته. لا قيمة للقضاء دون ضمانات لاستقلاله وتشريعات سوية يمكن تطبيقها على أرض الواقع. لا البرلمان ولا الميدان ولا مرشحو الرئاسة ولا المجلس العسكري ولا القضاء لهم شرعية مطلقة - كل له شرعية محدودة ويمكن بسهولة أن يقوم الآخرون بالتشكيك فيها، إذا اتخذنا التشكيك منهجاً لنا.

الحل الوحيد هي القبول بوجود كل هذه الأطراف الآن والعمل معا للخروج بخطة لإنقاذ البلاد من مخاطر جسيمة سيحاسبنا التاريخ عليها. برلمان-ميدان-مجلس عسكري-قضاء-مرشحي رئاسة إلخ، كل هذه الأطراف لها شرعية ما - وفي اتفاقهم يكمن الأمل الوحيد - غير هذا سنستمر في حالة تنازع. لابد أن نعترف أن الميدان وحده لا يستطيع إنجاح الثورة، وأن الرئيس أو المجلس العسكري أو البرلمان أو المجلس الأعلى للقضاء لا يستطيع أي طرف منهم وحده أن يدير البلاد، نجحنا عندما كان هناك تأييد شعبي ومؤسسي للثورة، وسنفشل عندما يتصور أي طرف أنه يستطيع وحده أن ينفرد بالقرار.

وصول أي شخص للرئاسة في هذه اللحظة وفي غياب اتفاق واضح لشكل التوافق الوطني وضماناته - لن ينهي الصراع - بل ربما يأججه. كل طرف مهدد إن وصل الطرف الآخر للحكم أنه سيضعه في السجن - التوافق إذن فيه مصلحة خاصة لكل طرف فضلا عن مصلحة الوطن ككل! استبعاد أي طرف من مائدة الحوار - أو من المشاركة في السلطة - معناه أن تستعد لمحاربة هذا الطرف عندما يحاول أن ينتزع حقوقه.

لابد أن تشعر كل مجموعة أنها ممثلة على المائدة، لأن من ليس على المائدة - فهو في قائمة الطعام.

الانتخاب العكسى: مشكلة ابن الناظر (1) Reverse Selection

الانتخاب العكسى: مشكلة ابن الناظر (1)

من أرشيف 2010 - نشرت في المصري اليوم الإثنين 23-08-2010 | كتب: وائل نوارة |

الانتخاب هو ظاهرة طبيعية جاءت من رحم ظاهرة أكبر، وهى ظاهرة التطور التى فرضتها القوانين الأساسية للكون. ما هو التطور Evolution؟ هو عملية تغير فى صفات مجموعة من أعضاء أحد الأنواع، تحدث وتتراكم مع الزمن عبر الأجيال المتتابعة، من خلال تحورات وتغيرات وأخطاء فى الاستنساخ الطبيعى للجينات، ينتج عنها قفزات جينية، تفرز أنواعاً مختلفة، وتدريجياً تبقى الأنواع الأصلح بينما تفنى وتنقرض أنواع أخرى لم تتوافق بنفس الدرجة مع البيئة المحيطة. هل ظاهرة التطور والانتخاب الطبيعى مقصورة فقط على الكائنات الحية؟ أبداً. ظاهرة التطور تفرض نفسها بأشكال وآليات مختلفة فى كل المجالات، من الاقتصاد والأسواق، حيث تتطور الشركات والمنتجات بينما تتصارع على البقاء، للأنثروبولوجيا، حيث تتطور المجتمعات والحضارات واللغات أيضاً، بينما تتصارع على البقاء، وغيرهما من المجالات، ببساطة لأن التطور ينتج عن عمل القوانين الطبيعية وتفاعلها الدائم.

هل المجتمعات والحضارات فى حالة صراع؟ نعم بكل أسف. الصراع أو التنافس حتى لو لم يكن محسوساً أو عنيفاً، فهو موجود على كل المستويات كظاهرة طبيعية تفرضها محدودية الموارد واتساع الطموحات والاحتياجات. فكل مجتمع مثلاً يحاول أن يعظم باستمرار من مستوى معيشة أفراده، بما يتطلب حسن إدارة الموارد الطبيعية النادرة الموجودة لديه، ومنها البشر كقوة عاملة يمكن أن تكون بالمقارنة بمجتمعات أخرى أقل أو أكثر مهارة أو قدرة على الخلق والإبداع والإدارة، ومن تلك الموارد أيضاً الأرض والمواد الخام والثروات الموجودة، كما يحاول كل مجتمع أن ينشر طريقة حياته وقيمه للمجتمعات الأخرى، بما يتيح له تأثيراً حضارياً قيادياً على الآخرين، كما يجتهد البعض فى تطوير قدراته العسكرية والقتالية، سواء لأسباب دفاعية أو هجومية، كما يحاول أن يستفيد من الثروات الطبيعية والمنتجات البشرية للمجتمعات الأخرى بأقل مقابل ممكن. باختصار، جميع الدول والمجتمعات فى حالة دائمة من التنافس.

ماذا يحدث عندما ندخل فى منافسة كروية –مثلاً كأس العالم- بفريق سيئ أو متوسط المستوى النتيجة الطبيعية أن «نترزع» نصف دستة أهداف فى مرمانا فى كل مباراة، ويعود الفريق من دور الـ 32 مكسور الخاطر، ونرمى باللوم على الحكام المرتشين، أو نتشمع بنظرية أخرى من نظريات المؤامرة. لسبب ما، شاعت فى ثقافتنا حالة من تجاهل وتسفيه نظرية التطور وما تفرضه اعتبارات المنافسة والانتخاب فى كل المجالات، لتحل محلها المحاباة، وهى كلمة مشتقة من الحب، ولكنه حب مريض ضال وضار، يضر صاحبه بل يضر أيضاً من يحاول أن يفيده ذلك المحب الأحمق، عندما يحاول عبثاً أن يضع شخصاً ما فى غير الموضع الذى يستحق. فنجد الأستاذ أو رئيس القسم مثلاً يحابى ابنه على حساب الطلبة المتفوقين، ونجد القوانين أو اللوائح تُفصّل لاصطناع أفضلية فى التعيين فى إحدى المهن لأبناء العاملين فى تلك المهنة... وهلم جرا.

ماذا يحدث عندما ندخل منافسة علمية بابن الناظر أو ابن وكيل الكلية أو ابن العميد أو حتى اللواء، ونترك الطلبة الموهوبين والمتفوقين بحسرتهم؟ نتحسر نحن بعد قليل على الخسارة الأكيدة، لأن ابن الناظر غالباً قد حصل على أعلى الدرجات فى امتحانات النقل إكراماً من الأساتذة المنافقين لرئيسهم السيد الوالد - بتصعيد أحب الطلبة على قلب سيادته وأجملهم فى عيونه هو والسيدة حرمه - وقد يكون الابن الحبيب رغم هذه المزايا العديدة «دابة الله فى برسيمه» فى الرياضيات والطبيعة والكيمياء، أو فى أحسن الافتراضات ليس بالضرورة هو أفضل من يمثل المدرسة فى المسابقات العلمية بعيداً عن مسابقات أكل البرسيم، خاصة عندما يكون حكامها من غير العاملين لدى الوالد أو الوالدة أو المؤتمرين بأمرهما. ماذا يحدث عندما ندخل فى مسابقة على استضافة كأس العالم لكرة القدم فى القاهرة، ونحن تحكمنا ثقافة لا تعترف بالتغيير ولا تحب التطور وتكره الانتخاب؟ نحصل على صفر متين من 24 صوتاً، وتقام كأس العالم فى جنوب أفريقيا.

الملخص هو أن الانتخاب ظاهرة طبيعية مرتبطة بالتغيير وبالتطور والبقاء للأصلح. ماذا يحدث عندما نطور (أو نزور - إذا جاز التعبير)؟ نحن ثقافة ترفض التغيير، وتنبذ التطور وتحتقر الانتخاب الطبيعى. هل يمكن أن نقلب قوانين الطبيعة ونعكس قوى الجاذبية مثلاً، فتنطلق التفاحة وحدها محلقة نحو السماوات أو تنساب الأنهار متحدية قوانين نيوتن لتصب فى أعالى الجبال، وذلك لمجرد أن الناظر يحب ابنه أو لأن الدكتور يحب ابنته، أو لأن العميد لا يستطيع أن يزعل مراته؟ أبداً. تبقى قوانين الطبيعة كما هى، ونشرب نحن العلقم جزاءً عادلاً لإنكارها. ما هذا العلقم وما مظاهره، وهل هو مفيد للمعدة أم للقلب أم هو مضر للجسم كله، وإذا كان مضراً بهذه الصورة والعياذ بالله – فكيف نتفاداه؟

https://www.almasryalyoum.com/news/details/1854152

 

الانتخاب العكسى: البقاء للأفسد«2» Reverse Selection

 الانتخاب العكسى: البقاء للأفسد«2»

من أرشيف 2010 – نشرت في المصري اليوم  - الإثنين 06-09-2010

مبدأ الانتخاب الطبيعى يقتضى أن يختار المجتمع أصلح عناصره- فى كل منظمة ومحفل ومؤسسة سواء حكومية أم خاصة، تجارية أم صناعية أم خدمية- لتشكل هذه العناصر المتميزة النخبة التى تقود حركة المجتمع فى صراعه وتنافسه الدائم مع الأمم الأخرى لضمان البقاء والازدهار.

أما عندما يختلط العام والخاص، ويتجاهل المجتمع فكرة التغيير والتطور، وتستشرى المحاباة على حساب المصلحة العامة، ويحسب كل مسؤول أن الوزارة أو الكلية أو المؤسسة أو الدولة التى يديرها هى عزبة خاصة، يستحق أن يجلس على سدتها حتى آخر نفس، ولا يكتفى بذلك بل يطمع فى توريثها لأبنائه من بعده، عندها تصبح الكفاءة والموهبة نقمة على أصحابها، ويصبح الهم الأكبر للمسؤولين هو دفن أو تطفيش أصحاب المواهب، ويطرد المجتمع ككل أفضل عناصره لصالح تكريس الواقع ومنع الارتقاء الداخلى للعناصر الأصلح، وتستشرى الضحالة والسطحية والسماجة، واللى ماشى حاله، والنص- نص، واللى مش أوى Mediocrity لتحل محل الموهبة والتميز فى تبوؤ مقاعد النخبة،

ومع منع الموهوبين والمتميزين من الصعود لأعلى لا يصبح أمامهم من سبيل سوى التحرك أفقياً للخروج من المنظومة- بالهجرة مثلاً- والالتحاق بمنظومة أخرى تسمح لهم بالصعود لأعلى، مثل فقاعات الغاز التى تجد طريقها إلى سطح الماء فى النهاية بصرف النظر عن العوائق التى تقف فى طريقها. ومع هجرة النخبة الطبيعية، تنضم لمنظومة مجتمع آخر منافس، فتزداد الهوة النسبية بين المجتمع الطارد والمجتمعات الأخرى.

ومع تمدد مواسير شبكة الفساد وتوصيل الفساد إجبارياً لكل مدينة وقرية ومصلحة ومؤسسة ومنزل، تتطور الأمور- أو تتدهور- ليصبح معيار الانتخاب لأعلى ليس فقط هو الولاء والنص نص أو حتى الضعف، بل أيضاً المشاركة فى الفساد والتواطؤ مع المفسدين والموالسة لهم، ويصر شيوخ المنسر على انتخاب العناصر الفاسدة المتورطة «للركب» فى مجارى الشبكة، حتى يطمئنوا على قدراتها فى التفاسد والمفاسدة والإفساد، مع إمكانية إزاحة تلك العناصر عند اللزوم بإظهار بلاويها المستخبية وإبراز «ملفاتها السوداء المتضخمة»، ويصبح التنافس ليس فى الإبداع أو الإنتاج، بل فى التزوير والنفاق والتزييف والفساد والإفساد والهبر، ويصبح البقاء للأفسد.

يضعف المجتمع ككل، وتنهار قوته التنافسية فى الصراع الدائم مع الأمم الأخرى، وتحل التصفية البشرية مكان التنمية البشرية، ويفقد المجتمع أغلى عناصره، الموهبة الإنسانية الخلاقة التى هى مصدر الإبداع والقيمة المضافة فى أية منظومة فى المجتمع.

ولكن أسوأ ما يصيب المجتمع هو ترسيخ مجموعة من القيم المعكوسة لتحل محل القيم الطبيعية، فالفساد وليس الأمانة يصبح هو مفتاح الترقى، والنفاق والجبن، وليس الصدق والشجاعة، يصبحان السبيل إلى الصعود، والضحالة، وليس العمق والتميز، تصبح هى معيار الاختيار.

فعندما تكون المكافأة على قدر النفاق الإعلامى، فمن الطبيعى أن من يترقى لأعلى المناصب الإعلامية يكون هو أكبر المنافقين، ونظرة واحدة على الصحف «القومية» وأسماء القائمين عليها تصيبك بالذعر، وكذلك عندما يكون الهدف هو تزييف الانتخابات والعملية السياسية ككل لتكريس سيطرة نظام ما على الحكم لأطول فترة ممكنة، فمن الطبيعى أن الذى يصل لأعلى المناصب هو أعتى المجرمين فى التزوير والبلطجة، محاطاً بحاشيته من البصاصين والمتخصصين فى شراء الأصوات والذمم والتلاعب فى العملية السياسية واختراق الجامعات والنقابات والصحف والجمعيات والأحزاب.

ما هو الدرس الذى يعطيه هذا لأفراد المجتمع وللأجيال القادمة؟ أن الكذب والنفاق، والتزوير والتزييف، والاختلاس وسوء استغلال السلطة وهبر أراضى الدولة ومؤسساتها، هى القيم التى يجب أن يتحلى بها الشاب الشاطر الذى يبتغى النجاح، فمع فساد أهداف المجتمع، تفسد عملية الانتخاب الطبيعى لتعكس هذا الفساد، ويظهر الانتخاب العكسى،

ومن هنا يتضح أن الفساد لا يقتصر على الرشوة أو المحسوبية أو غيرها من المظاهر الساذجة، بل إن الفساد يتسع ليضرب جذوره فى أعماق المجتمع ملوثاً ضمير الأمة، ليشوه القيم والسلوكيات والأهداف والمرجعيات، والنفوس والممارسات، ويفسد طبيعة التعاملات ومنطق الأشياء والقوانين التى تحكم نتائج التفاعلات الاجتماعية.

هذا هو منطق الانتخاب العكسى، فبدلاً من أن يسود المجتمع منطق البقاء للأصلح، ينقلب منطق الحياة ليصبح البقاء للأفسد، والصعود والترقى للأفسد، وهكذا. وبالتالى، بدلاً من أن يتطور المجتمع طبقاً للقوانين الطبيعية، يتدهور ويتراجع للوراء فى كل المجالات، ومهما حاول أى شخص أن ينظف شقته من الداخل، فما دامت بسطة المنزل المشتركة تصخب بالزبالة، فلا يمكن الهروب من القذارة والعطانة والمرض والفشل العام.

من هنا نكتشف أن مبدأ الانتخاب ليس مجرد آلية سياسية، يمكن أن نتنازل عنها مجاملة لحاكم أب أو ابن، بل هو مبدأ فرضته قوانين الطبيعة، وعندما نقف فى وجه الطبيعة، ونختار أن تحل المحاباة (المشتقة فساداً من الحب) محل الانتخاب الطبيعى، نضر أنفسنا وأبناءنا وجميع من نحب، لأنه فى ظل وجود صراع وتنافس دائم بين الأمم اقتصادياً وتقنياً وثقافياً وسياسياً، نخوض نحن معركة خاسرة مقدماً، بينما تقودنا أسوأ وأفسد عناصر المجتمع نحو الهزيمة الحتمية، ولا يجب عندها أن نندهش عندما تنهمر علينا الأصفار والكوارث والهزائم وحالات الفشل العام والخاص.

والآن: هل من سبيل للخلاص من هذه اللعنة وكسر هذه الدائرة الحلزونية الهابطة؟

 

https://www.almasryalyoum.com/news/details/13765

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook