صور من ألبوم الأسرة
(1)
صوت العـرب
علا صوت المذياع، يلهب حماس الجماهير، يبشر بفوز في الصراع، واقتراب النصر الكبير. "أيها العم الغرير، أهذا يوم حزن؟"، أشاح عني بوجهه، وذهب.
هتفنا في الشرفات، حتى دميت حناجرنا الصغيرة. ولكن بعد أيام، رأيت خالتي تبكي، وخالي يرتدي لباس حرب، فضفاضاً رغم جسده الذي ترهل بأوهام الانتصار، وينطلق. خرجنا إلى الشرفة نشاهد جموعاً تندفع من المداخل، دون ما وجهة معينة، تبحث عن الجريح، تحاول أن تقيمه، على أرجل نخر السوس عظامها.
ونودي على العم، ليحمل السلاح، ويودع الحياة، كما لم يعرفها بعد.
.
.
.
العصافير تبكي
بالأمس، سمعت بكاء العصافير طوال الليل. كلما أغمضت عيني، أسمع أصوات أرواح قلقة، ترفرف في غضب وتساؤل، من خدعنا وانتزعنا من الحقول وقت المغربية؟ لم وأدتم شبابنا وبعتم أرواحنا مقابل أمجاد وهمية؟ اكتظ منامي بكوابيس قوامها هتافات ملأت سرادقات مؤتمرات شعبية. وفي كل مرة، استيقظ عندما ينتهي المؤتمر على قهقهة عربيدة شيطانية. حلمت بأن الهويس الجديد قد انشرخ، حاولت أن أسد الشرخ، اقتربت مجموعة أشباح، استغثت بهم ومددت يدي التي استطالت لعشرات الأمتار تبحث عن قشة تتعلق بها. اقتربت الأشباح التي بدت في عتمة الفجر ككتيبة تدق الأرض بخطوات ثقيلة تتقدم نحوي حثيثاً. وفجأة، توقفوا أمامي، وتناول كل منهم معولاً، وارتفع أنين الهويس تحت ضربات المعاول.
.
.
.
سقوط الأقنعة
كان لدي موعد هام، وجلست أمام الساعة البندولية الكبيرة حتى لا يفوتني الموعد، وفجأة، جاء العمدة وهو يمسك بمشعل ضخم، وجلس أمامي وبدأ يتحدث بحماس استطالت معه قامته تدريجياً حتى حجبت الرؤية. كان يتحدث عن لا شئ، ويلوح بالمشعل بصورة عشوائية خشيت معها أن تمسك النار بتلابيب الستائر. ظل يتكلم بسرعة دون أن يلتقط أنفاسه حتى ظننت أنه لن يصمت أبداً، وفجأة أصابته نوبة سعال، شاخ فيها ثلاثين عاماً في لحظات، وانكفأ على نفسه، يحاول أن يمسك بخيوط الهواء ويضعها داخل رئتيه قسراً. يالها من لعنة شريرة، لقد قصرت قامته حتى أصبح مثل الأقزام. ووراءه، ظهرت الساعة وقد قطبت حاجبيها في لوم، ولم تكن هناك حاجة لأن أنظر للعقارب كي اكتشف أن الموعد الهام الذي انتظرته لسنوات طويلة، قد ذهب للأبد. وجدت نفسي وسط ظلام دامس، وقد استحال المشعل في يد العمدة لعود ثقاب محترق بعد أن تآكل بفعل النار، وبحثت في كل أرجاء المنزل، وفي النهاية اضطررت لأن أشعل شمعة صغيرة.
.
.
.
الفيضان
الليلة، انفتح جرح في عيني اليمنى عمقه أمتار لم أستطع أن أحصيها، وجرت دموعي لتتحد مع الفيضان الصاخب، وتغرق الحقول المجاورة بأمواج أرسلها النيل الغاضب، وتذكرت الهويس الذي انهار قبل أن ننتهي من بنائه.
خرجت بقميص النوم أبكي مع المفجوعين، وعندما وطأ أحدهم قدمي لم أتألم، ولكنني اكتشفت أنني حافية القدمين. هتفت بشدة مع الهاتفين. لماذا هتفت؟ لا أعلم. ولكنني شعرت بالحاجة للهتاف مثل كل الآلاف، الذين هتفوا وهتفوا، حتى انحبست أصواتنا جميعاً. هل كنا نرثي من ماتوا في صمت ودون حساب؟ هل كنا ننادي على من تاهوا في ظلمات الغياب؟ لا أعلم، ولكنني هتفت وهتفت، وحتى بعد أن بح صوتي، هتفت في صمت، حتى اختنقت حنجرتي بكلام فارغ من أي معنى أو غاية.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
الأم
الليلادي
العصافير حتبات حزينة
روح ولادي
لسه بترفرف في سينا
مين خدعهم وانتزعهم من غيطان ساعة غروب؟
ليه نبيعهم وفي ضياعهم بنكفن أمل شعوب؟
حل الظلام
ما لهوش آخر
بات الكلام
فصبح مساخر
الليلادي
انشرخ سد ولقينا
فيه أيادي
بالمعاول بتهادينا
راح زمنا وانسطلنا تحت تأثير الغرور
تاه مكاننا وانحصرنا حوالين نفسنا ندور
والشموع
بدل المشاعل
والدموع
تروي المشاتل
الليلادي
إنفتح جرح في عينينا
نيل بلادي
بالغضب بيفيض علينا
ضاع إيماننا وانشغلنا بالتهم والتلفيقات
ليه هتفنا فين آلافنا اللي ماتوا في سكات
والكلام
خنق الحناجر
والآلام
تكوي المشاعر
شرخ في أسوار المدينة
الليلادي
إنشرخ سور المدينة
صوت ولادي
لسه بينادي علينا
الليلادي
العصافير حتبات حزينة
... حتبات حزينة
... حتبات حزينة
.
.
.
.
.
.
هيباتيا
في تلك الليلة، هاجمتني الكوابيس من جديد، جاء ملثمون وأرقدوني على سرير معدني بارد، ورغم أنني لم أر وجوههم، فقد شعرت بأنني أعرفهم جيداً، بدءوا يقشرون جلدي بسهولة كأنني ثمرة ناضجة، وتحت الجلد، بدت أعصابي كحزم من أسلاك منتظمة تشع ضوءاً فضياً، ألقى كبيرهم على من معه نظرة انتصار من كان يعلم مقدماً ما سوف يجده، وناوله أحدهم شيئاً، اكتشفت فيما بعد أنه مكواة، مررها برفق على حزم الأعصاب، وتصاعدت الأبخرة، وفي دقائق قليلة، خبا الضوء تدريجياً، واستحالت حزم الأعصاب كتلاً سوداء متفحمة. وأعادوا الجلد مكانه وذهبوا كما جاءوا.
.
.
.
رسالة من شهيد
كان الألم في البداية شديداً، ولكن مع الوقت ذهب إحساسي بكل شيء، واستيقظت على صرخة شقت السكون. كان صوته ينادي علي من تحت الثرى قائلاً، اخرجيني يا أماه، كيف طاوعك قلبك أن تتركيني أُدفن وأنا بعد حياً؟ وودت أن أضمه لمرة أخيرة. يا حبيبي، يا من أنت أعز علي من الحياة نفسها، لقد مت شهيداً. وكأنه قد قرأ أفكاري فقال، كيف صدقت تلك الكذبة الحقيرة؟ وعندما أنصت جيداً، أدركت أن بكاء العصافير لم ينقطع.
.
.
.
صور نسيها العم
جاءني الأمر بأن أسلم نفسي في الغد وأن أتوجه مع شروق الشمس لمعسكر التدريب. في حديقة الأسماك، تقابلنا لآخر مرة. قلت لها في ألم، أنت في حل من أي وعد. وأرجو ألا تنتظري عودتي.
بكت كثيراً وتساءلت:
كيف هانت الأحلام
على من أقسم، على الحب، على الإخلاص؟
وفي أعماقي تساءلت بدوري،
بل لم مالت الأيام
مع من أجرم في حق الشعب وعمر الناس؟
تذكرت رفاق الصبا الذين لن يعودوا أبداً.
أعمار ضاعت لترثيها
أشرار باعت أمانيها
.
.
.
.
صندوق الذكريات
وردة مجففة، دمعة مكفكفة، ومنديل، وحلق رخيص.
تلخصت الذكريات الجميلة في صندوق أحذية صغير.
وتاهت الملامح العزيزة رغم مشوار العمر القصير.
ترى أين أنت الآن يا سلمى؟ وهل يتضرج وجهك خجلاً إذا تقابلنا صدفة؟
.
.
.
.
زيارة لم تتم
خرجنا من المعسكر في الليل بعد يوم حافل، مشينا لعدة كيلومترات حتى عشة صغيرة مبنية بالخوص تقوم وحدها في وسط الصحراء. دارت أكواب فاترة لم أتبين مذاق ما تحويه. وعندما بزغ القمر، انعكس ضوء خافت على الرمال.
تناثرت على الرمال سيوف
صدأ حدها
وضجت في القبور عظام
ضاع حقها
وتململت في الصدور قلوب
طال رقادها
جلسنا نتحدث عن الماضي الجليل
وتبخترت خيوط من الدخان متكاسلة
توقفت الرياح وتباطأت أذرع الطواحين
وزحفت أمواج اليأس متسللة
وجاء صوت من بعيد
يذكرنا بما يجب ولم نفعله
تظاهرنا بالصمم حتى
خبا المصباح فلم نشعله
ومن أعماق الليل، ظهر شبح، اعتدلت في جلستي، شيئاً ما في ملامحه، أكاد أقسم أنني أعرفه. وخفق الفؤاد مترقباً، هل هو .. هل ما زال حياً؟ ربما كان في الأسر واستطاع الفرار؟ واقترب الطيف، ثم توقف .. أكاد أجزم .. مستنكراً. وناولني نديمٌ المبسم فانشغلت للحظة، وعندما رفعت رأسي، وجدته كما ظهر، فجأة اختفى.
واستمرت دورة الحياة، وعجبت لذلك كل العجب.
.
.
.
.
No comments:
Post a Comment