إعادة بناء
روابط الانتماء
1
وائل نوارة
مجلة الإصلاح الاقتصادي CIPE- نوفمبر 2008
يتناول هذا المقال مفاهيم الوطن، والمواطنة، والانتماء للوطن، باعتبارها مفاهيم ترتبط بتحقيق منافع مادية ومعنوية للمواطن، الذي يقبل ضمنياً الانتماء للوطن، باعتبار أن هذا الانتماء يحقق له هذه المنافع، ويتيح له حقوقاً تتيح له الحياة بصورة أفضل مما كان الحال في حالة غيابها، وأنه في مقابل هذه المنافع والحقوق، يأتي انتماء المواطن للوطن، ويأتي استعداده للدفاع عن هذا الوطن وعن النظام العام الذي ينخرط فيه المواطنون، من أجل رفعة هذا الوطن، وبالتالي رفعة المواطنين الذين ينتمون له. وينظر المقال "للانتماء" باعتباره "الحبل" أو "الخيط" الذي ينتظم المواطنون في عقده حول مفهوم الوطن، ليربطهم ببعضهم البعض ويربطهم جميعاً بذلك الوطن.
الوطن
يرتبط مفهوم الوطن برقعة جغرافية معينة، يسكنها شعـب بصورة مستقرة لفترة طويلة، تشكلت معها هويته الحضارية وانتماؤه لهذا الوطن، وكون فيها دولته القومية التي تجسد مفهوم هذا الوطن. فقد بدأ البشر منذ عشرات القرون، ينتظمون في مجتمعات تعاونية حضارية، بدأت كقرى صغيرة، تطورت لتصبح مدناً ثم دولاً اكتسبت تدريجياً الشكل الذي نجده اليوم. فقد نشأت الدول كحل إداري وتشريعي تطور بالاتفاق الضمني بين أفراد المجتمع ومجموعات المصالح المختلفة، وجاءت القوانين لتنظم العلاقة بين أفراد المجتمع ومجموعاته. ولكي تستقيم الأمور، كان على أفراد المجتمع أن يتنازلوا عن جزء من حريتهم المطلقة في العمل والحركة، ويسددوا جزءاً من عوائد أنشطتهم الاقتصادية للدولة التي ينتمون إليها، ويشاركون في بناء المجتمع كمواطنين فيه، من أجل أن يحصلوا على متطلبات أساسية، لا يمكن لأي منهم أن يوفرها لنفسه أو لمجموعته بصورة منفردة. ومن هذه المتطلبات الجماعية، الأمن، والعدالة، والمرافق والخدمات العامة، من مياه وكهرباء وطرق ومواصلات ونظم ري، وتعليم وصحة، ... إلخ. ويرتبط مفهوم الوطن عادة بمفهوم الدولة، رغم أن بعض الجماعات قد تنظر لرقعة جغرافية ما على أنها الوطن الموعود أو القومي أو التاريخي لها، رغم عدم وجود دولة على تلك الرقعة، تجسد مفهوم هذا الوطن.
المواطنة
المواطنة، ما هي إلا انتماء مواطن لوطن، يتمتع معه المواطن بوضع قانوني وسياسي ومزايا والتزامات اقتصادية واجتماعية وثقافية. فالمواطنة تعبر عن انتماء الأفراد للوطن بما يتضمنه ذلك من حقوق للأفراد، وواجبات ومسؤوليات تقع عليهم تجاه الوطن الذي ينتمون له.
وتشمل المواطنة الحقوق القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين في الوطن الذي يحتضنهم، بما يضمن تمتع جميع المواطنين بالمساواة دون أن يقع على أي منهم أي نوع من أنواع التمييز القائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري.
العلاقة بين الوطن والمواطن
فالعلاقة بين الوطن والمواطن إذن تظهر على أكثر من محور:
* قانوني: فهذه العلاقة لها شق قانوني يشبه التعاقد الضمني، يشمل الحقوق التي يتمتع بها المواطن والواجبات التي تقع عليه، ولعل الدستور هو الوثيقة الأساسية التي تجسد بنود هذا العقد الاجتماعي
*سياسي: أن يشارك المواطن في صنع القرار المجتمعي
* ثقافي: هو مخزون تراكمي من القيم المشتركة والتراث التاريخي والحضاري، تتجسد في مجموعة ضخمة ومتشابكة من العادات والتقاليد والسلوكيات ونظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالقيم المشتركة هي التي تشكل الضمير والعقل الجمعي للمواطنين، وهي التي تحدد بنيان وطبيعة نظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التي ترسم طريقة الحياة أو "كتالوج الحياة" على أرض الوطن
*اقتصادي: أن يستطيع الفرد نتيجة لهذا الانتماء أن يحصل على احتياجاته الأساسية، من خلال انخراطه في المنظومة الاقتصادية لهذا الوطن وتفاعله معها، وهذا هو مفهوم المواطنة الاقتصادية، ويرمز له البعض بالعدالة الاجتماعية
*اجتماعي: أن يتمتع الفرد بالعلاقات الاجتماعية التي تربطه بهذا الوطن، من خلال علاقات قرابة وصداقة وزمالة وجيرة لمواطنين آخرين
*معنوي أو نفسي: ونتيجة لكل ما سبق، يتولد لدى المواطن شعور بالانتماء للوطن، وهو شعور نفسي لدى الفرد بعضوية كيان اعتباري هو الوطن، والتضامن مع المواطنين الآخرين بناء على الاشتراك في التاريخ والمصير.
فالعوامل أو الروابط التي تتحكم في الانتماء لوطن لها شقان على الأقل، أحدهما يقع في الماضي بتراثه وذكرياته، والآخر يكمن في الموافقة الجماعية على العيش المشترك في الحاضر والمستقبل. ويمكن أن نقول أن الشق الأول الذي يقع في الماضي هو شق قدري لا يملك المواطن أن يتحكم فيه، ولكن الشق الثاني هو شق اختياري، لأننا قد نجد بعض المواطنين وقد عجزوا عن الحياة في الوطن، أو عجزت الحياة في ذلك الوطن عن أن توفر لهم احتياجاتهم الحياتية الأساسية، فيلجأون للانتساب لوطن آخر بصورة اختيارية عقلانية و – أو عاطفية.
ويمكننا أن نتصور هذه العوامل أو الروابط، مثل الخيوط الدقيقة المغزولة معاً، والتي تتجمع لتكون حبل الانتماء. وعندما تتآكل تلك الخيوط واحداً بعد الآخر، يهترئ حبل الانتماء، حتى ينقطع أو يكاد.
فعندما يفقد المواطن حقوقه القانونية المكفولة له بموجب الدستور، أو تفتئت الدولة أو من يمثلها من موظفي العموم أو ضباط الشرطة على حريته أو كرامته كمواطن، أو يفتقد الشعور بالأمن، أو تتعطل منظومة العدالة، أو تغتال ممارسات الدولة والمجتمع أبسط قواعد المساواة وتكافؤ الفرص، أو يشعر "المواطن" أن رأيه لا يقدم ولا يؤخر، وأن صوته الانتخابي مهدر، وأن القرارات الاجتماعية تصدرها طبقة حاكمة بمعزل عنه، والأسوأ أنها لا تمثله ولا تراعي مصالحه، عندها، تنفصم بعض خيوط الانتماء.
وعندما يشعر المواطن بالاغتراب الثقافي، وبأن القيم الحاكمة في المجتمع، لا تتوافق مع قيمه الشخصية، بل وتتعارض معها في تضاد وتنافر، وأن منطق الحياة في المجتمع لم يعد يكافئ المجد أو الماهر أو الموهوب، بل أن المنافق والفاسد والممالئ للطبقة الحاكمة على حساب مصالح الوطن والمواطنين، هو الذي يتبوأ مقاليد الأمر والنهي ... عندئذ لابد وأن تتآكل خيوط أخرى.
وعندما تعجز قوانين ونظم الدولة التي تجسد مفهوم الوطن في الوفاء باحتياجاته الحياتية، من رعاية صحية، وخدمات تعليمية، وتأمين اجتماعي، وأمن وعدالة، فيضطر للجوء لقوانين ونظم بديلة في الدولة الموازية، يصبح فعلياً ولاؤه مزعزاً بين الدولة الرسمية والدولة الموازية. وقد يسأل سائل، أليست "الدولة الموازية" هي فكرة نظرية، بمعنى أنه لا توجد فعلياً دولة "رسمية" باسم الدولة الموازية، طبقاً لتعريف الدولة الموازية نفسها؟ فكيف ينتمي المواطن لدولة غير موجودة رسمياً؟
وهنا نرد بمثال بسيط، عندما يضعف أو يختفي دور الدولة في المجالات التي ذكرناها، وتأتي جماعة أو حزب أو جمعية أو شخص، ليقوم بتقديم هذه الخدمات بدلاً من الدولة الرسمية، فيفتتح عيادة طبية بأسعار رمزية في مسجد مثلاً أو كنيسة، كبديل عن الخدمات الطبية المنعدمة أو فاحشة التكلفة في تلك المنطقة مثلاً، ثم يلحق بها عدة فصول للتقوية تعويضاً عن فشل أو عجز أو تدهور أو قصور النظام التعليمي الرسمي، ثم يبدأ في تخصيص مبالغ شهرية من عائد الزكاة أو النذور أو التبرعات لمساعدة الأسر الفقيرة بتخصيص "معاشات" شهرية لتلك الأسر، كبديل عن الضمان الاجتماعي الذي لم تقدمه الدولة الرسمية، وهكذا.
مع كل هذا، ألا يتحول ولاء المواطن ليصبح مرتبطاً بهذه الجماعة أو الجمعية أو المسجد أو الكنيسة، بسياساتها وشخوصها ومصالحها، بدلاً من ولائه للوطن الأصلي؟ وعندما تعرض له قضية وطنية أو سياسية، ألا يأتي قراره بناء على مصالح أو توجيهات قادة الدولة الموازية التي تفي باحتياجاته؟ هنا نكتشف أن انتماء وولاء المواطن يصبح للمسجد أو الكنيسة أو الجمعية أو صاحب العمل أو عضو مجلس الشعب الذي يفي باحتياجاته الحياتية، وتصبح مصلحة تلك الدولة الموازية مقدمة على مصلحة الدولة الرسمية التي تجسد مفهوم الوطن الأصلي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، إذا لم يجد المواطن العمل الشريف الذي يساعده على توفير احتياجات الحد المعقول من الحياة الكريمة لنفسه ولمن يعول، أو شعر بأنه لا يحصل على النصيب العادل من القيمة المضافة في المجتمع، نتيجة لتشوهات إدارية أو تشريعية، أو نتيجة للفساد والاحتكارات وتزاوج السلطة والثروة، عندها تتآكل خيوط الانتماء بصورة خطيرة، لأن الاحتياجات الأساسية لا يمكن الاستغناء عنها أو التغاض عن نقصها.
وإذا احتدمت المنافسة بين أفراد المجتمع، واستشرت ثقافة التزاحم والندرة، وتمركزت علاقة الفرد بمن حوله في التصارع على مكان في طابور العيش، أو طابور العمل، أو طابور التحاق الأبناء بالمدارس أو الجامعات، أو موطئ لقدم في المواصلات العامة، أو مكان للسيارة في الشارع أو الجراج، وتفشت حالة من "الاحتراب المجتمعي"، عندئذ تصبح علاقة الفرد بالمجتمع علاقة تنافس وتناحر، ويجد كل شخص نفسه وهو يتمنى السوء لغيره، حتى يفسح له مكاناً، ثم يتحول هذا الشعور لشعور عام، غير مرتبط بمنافسة محددة، فيسود المجتمع موجات من الطاقة السلبية بل وكراهية الآخر، وحالة من العداء والغضب الكامن، الذي يطفو على السطح وينفلت مع أي استثارة اقتصادية أو طبقية أو طائفية أو حتى حادث سيارة منفرد على طريق سريع.
وفي نفس الوقت، ومع المصاعب الاقتصادية، التي تحول بين المواطن وبين الزواج مثلاً أو تؤخره، يعاني الأفراد من حالة من الحرمان العاطفي والجسدي، ويفتقدون الحب، وتكوين الأسرة، التي تربط الفرد بالوطن في العادة، أو يكونون أسراً هشة البنيان، سرعان ما تنهار تحت ضغوط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فيخرج الفرد من هذه التجربة وقد ازداد شعوره بالمرارة تجاه المجتمع والوطن أضعافاً مضاعفة، عندئذ تكون روابط الانتماء على وشك الانفصام بصورة تامة.
هنا، يشعر المواطن بأن الوطن قد خذله، وبأنه قد وقع ضحية لانتمائه القدري لهذا الوطن، ويفقد تدريجياً الإحساس بالتضامن مع زملائه المواطنين.
عندها، قد يأخذ المواطن واحداً من عدة طرق. فالبعض يلجأ للهجرة، والبعض يستمر في حياته محاصراً بهذه الضغوط، يقاوم الإحساس باليأس والعجز والإحباط كلما استطاع، أو يسقط فريسة للأمراض النفسية والعصبية والعضوية، والبعض يعيش حياته الخاصة غير عابئ بما يحدث حوله، مجتهداً أن يبني سوراً منيعاً، يحميه من أذى المجتمع المحيط، ويمنع ذلك الأذى عنه وعن أسرته.
No comments:
Post a Comment