مستقبل الأحزاب الليبرالية
بعد ثورة 25 يناير
وائل نوارة – سبتمبر 2011
جذور الثورة
عندما ننظر لجذور هذه الثورة، لابد أن نرى المكون الليبرالي ظاهراً بقوة على طول الطريق، فقد عملت حركة المعارضة الحقيقية[1] التي عملت غالبا خارج الأحزاب الرسمية التي سارت في فلك النظام طبقا لمسرحية الديمقراطية المدارة بإشراف مباحث أمن الدولة وأذرعتها، وراكمت حراكاً سياسياً واجتماعياً وإعلامياً متصاعداً عبر مشوار طويل، جاء في طليعته التيار الليبرالي، بداية بحركة التغيير التي أطلقها حزب الغد الليبرالي منذ 2003 تحت عنوان "التغيير الآن"، ثم حركة كفاية التي شارك في تأسيسها مكونات التيار المدني، مزيج من اليساريين والقوميين والوسطيين والليبراليين، والحملة الرئاسية للغد في 2005 التي جاءت تحت شعار "الأمل في التغيير"، وصولاً لالتحام المعارضة مع حركة تيار استقلال القضاء في 2006، والحملة الواسعة التي فضحت التعديلات الشمولية للدستور في 2007، ثم حركة 6 إبريل التي بدأت بمبادرة من طليعة شبابية ليبرالية في 2008، والحملة المصرية ضد التوريث التي بدأت بمبادرة من حزب الغد في 2009، والجمعية الوطنية للتغيير التي ولدت في أوائل 2010 وجمعت مئات الآلاف من التوقيعات على مجموعة من المطالب جاءت في بيان الدكتور البرادعي تحت شعار "معا نغير"، وظهور النقابات المستقلة والاحتجاجات الاجتماعية. وعبر ما يزيد عن 6 سنوات منذ 2004 وحتى 2010، شهدت مصر تصاعداً غير مسبوق للنشاط السياسي سواء في الفضاء المادي أو الرقمي – الافتراضي، والذي ظهر في آلاف المظاهرات والاعتصامات السياسية والعمالية، وبروز عشرات أو مئات الحركات السياسية والشبابية والنقابية التي اتخذت التغيير هدفا أو شعارا لها، وفي نفس الوقت، حاول النظام تقليص الفضاء السياسي والإعلامي كما رأينا بعد 2005، وصولاً لتجريد حزب الغد من الشرعية وفصل إبراهيم عيسى من جريدة الدستور من خلال استخدام رموز من المعارضة لشراء الجريدة ثم فصل عيسى، وكذلك منع ظهور برامجه في القنوات الفضائية الخاصة. إذن أصبحنا أمام وضع يتزايد فيه الغليان والضغط السياسي، بينما تقلصت مساحة الحرية السياسية تدريجيا خلال الفترة من 2005 وحتى 2010 نتيجة لإجراءات النظام القمعية التي وضحناها، وأصبح من الواضح أن المنحنيين – منحنى تصاعد الغليان السياسي – مقابل منحنى تقلص الفضاء السياسي – متجهان لنقطة تصادم قريبة، يصل فيها الضغط لنقطة الاشتعال الذاتي.
لقد اعتمد هذا الزخم الوطني المتراكم في الأساس على التيار الليبرالي – اليساري – القومي، وهو تيار في النهاية مدني ديمقراطي شكل على مدى التاريخ الحديث العمود الفقري للنضال المصري الوطني لأسباب تتعلق بالهوية وطبيعة رؤية هذا النضال وأهدافه التي تمحورت حول الاستقلال الوطني والديمقراطية بمفهوم حكم الشعب وليس ولاية الفقيه أو عودة دولة الخلافة، أما تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، فقد نشأت بهدف إعادة إنشاء دولة الخلافة الإسلامية، ولم تتعاطف كثيراً مع التعريف الوطني للهوية المصرية، وانغمست غالبا في تفاهمات وصفقات مع النظم الحاكمة بل والاستعمار، ورغم إن الإخوان المسلمين قد دفعوا ثمنا غاليا في اعتقالات وتضييقات أمنية عديدة، فقد كانت تلك في إطار صراع مع النظام على اقتسام كعكة السلطة وليس نضالا يهدف لإجراء تغييرات جذرية في بنية النظام نفسه، حيث قرر الإخوان أنهم في مرحلة استضعاف تستوجب مهادنة النظام، والعمل على أسلمة المجتمع من أسفل إلى أعلى، ولم يستخدم الإخوان تأثيرهم أو قدراتهم المالية أو التنظيمية في دعم المطالب الرئيسية للحركة النضالية الوطنية المصرية بصورة حقيقية أو مؤثرة إلا نادراً، وعلى سبيل المثال أصر الإخوان على المشاركة في مسرحية انتخابات 2010 رغم رفض النظام توفير الحد الأدنى من الضمانات التي طالبت بها المعارضة ومن ضمنها الإخوان، علاوة على صفقة الكراسي التي عقدها الإخوان مع النظام على حساب باقي القوى الوطنية في 2005، وعقب كشف حقيقة مسرحية انتخابات نوفمبر 2010 حيث لم يحصل الإخوان على أي مقاعد في الجولة الأولى، رفضوا أولاً المشاركة في البرلمان الشعبي الذي عرف باسم البرلمان الموازي في ديسمبر 2010، إلى أن أعلن تيار المعارضة داخل الإخوان أنهم سيمثلون الإخوان في البرلمان الموازي إذا استمرت الجماعة في رفض المشاركة بصورة رسمية، فاضطر الإخوان للمشاركة. أما أثناء الإعداد لثورة 25 يناير، فقد رفض الإخوان رسميا المشاركة، ولم يكتفوا بهذا بل نصحوا النظام باتخاذ بعض الإجراءات التجميلية لامتصاص الغضب الشعبي. أما السلفيون، فقد رضخوا لسيطرة جهاز البوليس السياسي الذي كان معروفا باسم "مباحث أمن الدولة"، وأصدر شيوخهم الفتاوى التي تدعو لمقاطعة تظاهرات 25 يناير والثورة! وقد جاءت الدعوة للثورة في الأساس من مجموعات عديدة على الفيسبوك، وأهمها مجموعة كلنا خالد سعيد، وكذلك حركة 6 إبريل، التي سبق لها الدعوة للتظاهر ضد النظام يوم 25 يناير في سنوات سابقة باعتباره "يوم الشرطة" التي تمثل اليد الحديدية للنظام القمعي والحامي الرئيسي في بقاءه واستمراره، كما دعت الجمعية الوطنية للتغيير للثورة عقب فرار بن علي، وكذلك دعت مكونات الجمعية الوطنية للتغيير مثل أحزاب الغد والجبهة والكرامة والشيوعي والاشتراكيين الثوريين للثورة وكذلك كفاية وحركات شبابية عديدة.
الشعب يريد إسقاط النظام
وجاءت شعارات ومطالب الثورة الأساسية لتعبر عن التيارات التي مثلتها، وعلى عكس تحذيرات البعض بقيام ثورة للجياع، نزل أبناء الطبقة المتوسطة والغنية يوم 25 يناير يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبإسقاط النظام الذي استخف بالمصريين لدرجة أن يقوم تدريجيا بتوريث الحكم لابن الرئيس، الذي توسعت سلطاته بصورة غير دستورية، حتى أصبحت فوق الوزراء والحكومة، وتجمع حوله مجموعة من الفسدة فيما سمي بأمانة سياسات الحزب الوطني، استولت على أراضي الدولة وعلى احتكارات اقتصادية في مختلف المجالات، وتغول سلطانها في وضع سياسات الدولة بل والتشريع بصورة تخدم مصالحها على حساب مصالح الشعب.
واتضح منذ اللحظات الأولى للثورة أن مطالبها سياسية في الأساس، وأنها تنطلق من أرضية مدنية ديمقراطية، من خلال شعارات (لا عسكرية ولا دينية – عايزينها دولة مدنية)، وحاول البعض في الساعات الأولى للثورة أن تستخدم شعارات دينية مثل (مبارك عدو الله)، فرفضتها جماهير الثورة ورددت شعاراتها المدنية، في ظل غياب شبه كامل للإخوان المسلمين عن الساحة. وحتى بعد التحق الإخوان المسلمين بالثورة بدءاً من يوم 28 يناير، وحاولوا التحكم في مسار الثورة من خلال التغلغل في صفوف أمن الميدان والسيطرة على الأدوات اللوجيستية والإعلامية، كما تفاوض الإخوان منفردين مع عمر سليمان – بالمخالفة للتوافق الوطني على التفاوض الجماعي – على فض الاعتصام في التحرير وسحب الدعم التنظيمي لأمن الميدان، ولكن الجماهير كانت مصممة على البقاء، وتعاونت القوى السياسية وائتلافات شباب الثورة في تكوين لجان أمن بديلة، فاضطر الإخوان فغيروا من مسارهم.
وفي نفس الوقت كان أغلب من شاركوا في الثورة من خارج الإطار التقليدي للأحزاب والحركات والنشطاء، كما يتضح من شعارات "لا إخوان ولا أحزاب – ثورتنا ثورة شباب"، وجاء رفض الميدان للأحزاب انعكاسا لضعف معظم الأحزاب في ظل النظام القديم، وانصياعها لمباحث أمن الدولة وقيادات الحزب الوطني، وكان الاستثناء الوحيد حزبي الغد والجبهة – والاثنين ينتميان للتيار الليبرالي – حيث شاركا في الدعوة للثورة وشارك شبابهما في الإعداد لها منذ مرحلة مبكرة، مع عدد كبير من الحركات الشبابية، مثل حركة 6 ابريل، وحملة دعم البرادعي ومجموعات الفيسبوك مثل مجموعة "كلنا خالد سعيد"، وكلها مجموعات غلب عليها الطابع الليبرالي والاشتراكي الديمقراطي، نجحت أيضاً في التواصل مع بعض مجموعات الألتراس من مشجعي فرق كرة القدم "الأهلي" و"الزمالك" وغاب عنها الإسلاميون الذين قاطعوا الثورة في البداية. ورغم أن بعض القوى أعلنت أن مطالب "مظاهرة 25 يناير" هي وضع الحد الأدنى للأجور "1200 جنيه في الشهر" وإقالة وزير الداخلية حبيب العادلي، خرج شعار "إرحل" من حزب الغد ليعبر عن ضرورة رحيل النظام وأركانه وعلى رأسه حسني مبارك، كما اتخذ حزب الجبهة الليبرالي أيضا موقفا مبدئيا بضرورة رحيل مبارك ونظامه، وأعد شباب الغد وبعض التيارات الأخرى "كارت برتقالي" وآخر "أحمر" بشعار "إرحل"، في إشارة لعملية "الإنذار" ثم "الطرد" التي تتم أثناء اللاعبين الذين يرتكبون مخالفات غير مقبولة في مباريات كرة القدم، وكان من المفارقات أن تصدر جريدة "المصري اليوم" في اليوم التالي – يوم 26 يناير 2011 – بعنوان رئيسي ضخم "إنذار" – رغم أن التغطية جاءت على خلاف المطالب الحقيقية للثورة، حيث قالت الجريدة أن المتظاهرين طالبوا بإقالة الحكومة – رغم أن المطلب الأساسي الذي ساد الميدان كان رحيل حسني مبارك نفسه كما جاء في شعارات – الشعب يريد إسقاط النظام – اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام – كما أن المصريين كانت قد ألهمتهم ثورة تونس ولم يكن ممكناً أن يقبلوا بأقل من رحيل مبارك، بعد ما رأوا بأعينهم رحيل بن علي.
التحديات
ولكن انتشار تأثير التيار الليبرالي في مقدمة صفوف الثورة لا يعفي هذا التيار من السعي بجد لبناء مؤسسات سياسية تنافس على الحكم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ولا هي سوف تعطل سعي تيارات أخرى لم تشارك في بدايات الثورة ثم سارعت بالقفز عليها والادعاء بأن الثورة قد ولدت من رحم التيارات الإسلامية أو اليسارية، فقد سارع تيار الإسلام السياسي لتنظيم صفوفه سواء بقيام حزب الحرية والعدالة الذي يمثل الإخوان المسلمين، أو الأحزاب الأخرى الكثيرة التي خرجت من رحم الجماعة مثل حزبي النهضة والتيار المصري، وكذلك بقيام مجموعة كبيرة من الأحزاب السلفية مثل "النور" و"الأصالة" وغيرهما، وهي أحزاب تتمتع بتمويل ضخم، ولديها محطات فضائية عديدة تخصصت في بث الأفكار السلفية المتشددة، واستطاعت في سنوات قليلة أن تصطنع - مما يقترب من العدم - مجموعة من الشيوخ ونجوم الفضائيات، الذين اكتسبوا هالة قدسية وتأثيرا روحيا كبيرا وبسطوا سطوتهم على محدودي الثقافة والتعليم، وباتوا يبثون أفكارهم المتشددة التي انتشرت في غياب الثقافة والإعلام الواعي - كالفيروس في الجسم ضعيف المناعة، وساعد على انتشارها الدعم المالي والاجتماعي والإعلامي الضخم، من مجموعة من شيوخ وأمراء الخليج الداعمين لنشر الحركة الوهابية في مصر، باعتبار أن ذلك يضمن للحركة الوهابية أن تحصل على الثقل والتأثير الأقوى في باقي العالم الإسلامي، نظرا لمكانة مصر القيادية وأهمية الأزهر كمرجعية أولى ووحيدة للإسلام السني في العالم كله.
وفي نفس الوقت خرجت مجموعة من الأحزاب الليبرالية على رأسها "المصريين الأحرار" الذي ارتبط في بداياته بأحد كبار رجال الأعمال في مصر وهو نجيب ساويرس، والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي – وهو حزب اشتراكي ديمقراطي به مكونات ليبرالية ويسارية، علاوة على الأحزاب الليبرالية الموجودة منذ مرحلة ما قبل الثورة – وهي حزب الغد بزعامة أيمن نور – الذي أعاد تقديم الحزب في تأسيس جديد – وحزب الجبهة الديمقراطية – الذي جذب مجموعة من الأحزاب والحركات الصغيرة التي كونت ما عرف باسم تحالف المشروع المصري الذي سرعان ما اندمج في حزب الجبهة، وبالطبع حزب "الوفد" العريق – الذي لازال يحظى باسم قوي رغم ما شاب الحزب في سنواته الأخيرة من محاولات اختراق الأجهزة الأمنية له وسيطرتها على قراره، علاوة على مجموعة من الأحزاب الوسطية مثل "العدل" وأحزاب ليبرالية لا زالت تسعى لتأسيس نفسها مثل "مصر الحرية" و"الوعي"، وغيرها. ولكن قوة التيارات لا تقاس بعدد الأحزاب المنتمية لها، ومستقبل هذه الأحزاب مرهون بقدرتها على اجتياز مجموعة من التحديات التي ستواجهها، والتي سيتحدد على أساسها مستقبل التيار الليبرالي الوسطي في مصر، بل يتحدد مستقبل مصر نفسها على المدى القصير والمتوسط، باعتبار أن التيار الليبرالي الوسطي يجسد شخصية مصر الوسطية السمحة، وأن هذا التيار رغم انفتاحه على الآخر وعلى العالم شرقه وغربه، إلا أنه يتمسك بالهوية المصرية وبالمشروع المصري كمنطلق له، بعكس التيارات المتأسلمة التي لا تعترف بالهوية المصرية، وترى أن مصر مجرد إمارة في امبراطورية الخلافة الإسلامية التي ينشدون إقامتها، كما أن التيار الليبرالي الوسطي يتمسك بالمواطنة كضمان لبقاء مصر موحدة كما عهدناها على مدار التاريخ، بعكس التيار المتأسلم، الذي يرى أن مصر للمسلمين، وأن المسيحيين في مصر هم ذميون، وبعض المتطرفين في ذلك التيار يبالغ فيطالبهم بأداء الجزية، ولا يعطيهم حق تبوأ المناصب القيادية في الدولة، بل يحجب الغلاة عن غير المسلمين حق التصويت ذاته، كما رأينا مثلا في "دستور الخلافة" الذي أصدره حزب التحرير الإسلامي، ووزعه جمعة 29 يوليو 2011 في ميدان التحرير، أو في ما صرح به مرشد الإخوان في 2007 أنه للماليزي المسلم أن يحكم مصر ولكن المصري المسيحي ليس له نفس ذلك الحق، وهي أمور كلها تهدد وحدة النسيج المصري، ولا يجب أن نهمل النتائج الوخيمة لاتخاذ الإسلام كأساس للهوية الوطنية في السودان مثلاً وتطبيق الشريعة باعتبارها قانون البلاد، وهو ما أدى لتمزق السودان وانفصال جنوبه وهي أمور لا يمكن أن يتصور المصري العادي أن يسمح بتكرارها علي أرض مصر.
ولعل من أهم التحديات التي تواجه الأحزاب الليبرالية هو بناء مؤسسات قوية تنظيميا، متغلبة على مجموعة من العوائق، أولها حداثة عهد هذه الأحزاب بالعمل التنظيمي، مقارنة بجماعة ضخمة وقديمة كالأخوان المسلمين مثلاً، استطاعت عبر ما يقرب من ثمانين عاما تكوين تنظيمات سرية وعلنية في مستويات ودوائر عديدة، جغرافيا ونقابياً وفئوياً وأكاديميا واجتماعيا، محليا وعالميا، كما لا يمكن إعفال أهمية عامل التمويل الذي تحظى به التيارات الدينية، سواء من مصادر محلية أو عالمية، فضلاً عن امتلاكها شبكة معقدة من الشركات والمصالح الاقتصادية، التي تداخلت مع العمل النقابي والأهلي والتبرعات ذات الطابع الديني أو الدعوي أو الاجتماعي، وهي كلها أموال لا زالت خارج الإطار التنظيمي للدولة، ولا تخضع لرقابة القانون أو المجتمع بطبيعتها السرية. كما نلاحظ أن هناك ضعفاً تنظيمياً لصيقاً بالأحزاب الليبرالية والمدنية بطبيعتها النسبية القابلة للنقاش والرفض والانشقاق والتشرذم، بعكس التنظيمات التي تقوم على أساس ديني، حيث يسود مبدأ السمع والطاعة، بما يؤدي لمزايا تنظيمية عديدة وخاصة في حشد وتوجيه الجموع لأي عمل حركي أو تنظيمي. ومن الضروري الاهتمام بالبناء المؤسسي الداخلي، بداية من وجود لائحة تنظيمية قوية قابلة للتنقيح، وأن تحتوي على آليات واضحة لحل المنازعات، وتداول السلطة داخليا بصورة منتظمة، وتقسيم السلطة داخليا بين مؤسسات ولجان الحزب المركزية والمحلية، حتى لا تتركز في يد شخص واحد أو مجموعة صغيرة، فينصرف باقي الأعضاء عن الحزب عندما لا يجدون لهم دوراً محددا، مع ضرورة الاهتمام بتمكين الشباب والمرأة، وتدريب الكوادر وأن تتسم الممارسة الحزبية بالديمقراطية والتعددية، حتى يعطي الحزب بممارساته الداخلية مثلاً واقعياً يدل على صدق قناعاته.
ومن أجل أن تتغلب الأحزاب الليبرالية على ضعف التمويل، لابد أن تلجأ لآليات غير تقليدية، تحفز أصحاب التبرعات الصغيرة وتقنعهم بالمشاركة في تمويل الأحزاب، وكذلك استقطاب رجال الأعمال باعتبار أن الأحزاب الليبرالية بطبعها تقر بحقوق الملكية الخاصة وتشجع العمل الحر وتتعاطف معه أكثر من غيرها. والأحزاب الليبرالية عليها أيضا أن تواجه تحدي غياب نخبة فاعلة وثورية، وخاصة أن قطاع غير صغير من النخبة "الليبرالية" ارتبطت بصورة أو بأخرى بمنظومات الفساد التي قامت الثورات لتزيلها، علاوة على قطاع كبير من النخبة التي يفترض أن تنتمي للتيار الليبرالي لكنها غير نشطة سياسيا وغير مستعدة لسداد ثمن النضال في سبيل أن يأخذ التيار الليبرالي مكانته الحقيقية التي تتجلى في استطلاعات الرأي المتعمقة. وهذا يقودنا لتحدي التصنيف واللافتات، فقد نجحت التيارات المتأسلمة في تشويه المدركات الشعبية لمصطلحات عديدة مثل "الليبرالية" نفسها، و"العلمانية" و"الدولة المدنية" بل و"الديمقراطية"، وعلى سبيل المثال في مصر تكشف استطلاعات الرأي عن زيادة كبيرة في شعبية التصويت للتيارات الليبرالية عندما يأتي السؤال مصحوباً بشرح للمبادئ الليبرالية عن النسبة التي تنتج عن أسئلة تستخدم المصطلحات دون شرح محتواها، وهنا يجب على التيارات الليبرالية أن تعمل في اتجاهين، سياسي وتنويري، حيث يجب في المسار السياسي عدم استخدام أي مصطلحات أجنبية أو متخصصة وغير مفهومة للشارع، والتركيز على المبادئ الأساسية مثل الحرية والمساواة والعدالة والكرامة وسيادة القانون، إلى جانب الطلبات الحياتية والحقوق مثل التعليم والصحة وخلق الوظائف وتحسين الأجور ونشر الأمن والعدل ومكافحة الفساد، بينما يعمل التيار التنويري من خلال الإعلام والمجتمع المدني وحملات التوعية السياسية على تنقية الوعي العربي من التشوهات ودحض الادعاءات الكاذبة التي تسببت فيها وروجت لها التيارات المحافظة والسلفية.
ويأتي التحدي الأيديولوجي على عدة محاور، تتلخص في ضرورة تأصيل الفكر السياسي الأيديلوجي المصري والعربي بصورة تستلهم الواقع المحلي، فالفكر الليبرالي يختلف من دولة لأخرى ولابد أن نعيد تعريف الفكر الليبرالي في المنطقة العربية بحيث يخرج من رحم الهوية المحلية ويعبر عن التيار الضخم الذي نزل إلى الشوارع مناديا بالحرية والخبز والعدالة الاجتماعية، وهو فكر له خصوصية محلية، متصالح مع الدين والهوية العربية، يسعى لتحقيق الوحدة العربية الحقيقية القادمة من إرادة الشعوب وليست مفروضة من حكومات سلطوية، فكر ليبرالي اجتماعي يؤمن بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبتحرير الإنسان العربي من الفقر والحاجة، وبالثوابت الوطنية قيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية. ومن المهم أن نتنبه أن الأنظمة القمعية التي قامت الثورات لإسقاطها، كثيرا ما ادعت أنها تطبق مبادئ الفكر الليبرالي في الجانب الاقتصادي، وعلى سبيل المثال في الخصخصة، رغم زيف هذه المزاعم، وقيام تلك النظم بالاعتماد على الأوليجاركية الناهبة، ومنح الاحتكارات والأراضي لمجموعة محدودة من رجال الأعمال الفاسدين، شركاء النظام وعملائه، فيما يشبه النظام الإقطاعي، أو ما نسميه رأسمالية وكلاء النظام، بعيدا عن قواعد الحوكمة والرقابة والحكم الرشيد والمنافسة الحرة، وهذا يضع تحديا إضافيا أمام الأحزاب الليبرالية التي عليها أن توضح التوازنات والضمانات اللازمة لعمل السوق بصورة تتسم بالكفاءة والعدل، والتأكيد دور الدولة كمنظم ومراقب وضامن للعدالة الاجتماعية ومكافحة السلوكيات الاحتكارية والفساد في كافة صوره، حتى لا تحصل التيارات اليسارية على نصيب الأسد نتيجة لهذه التشوهات التاريخية، رغم أن تلك الأحزاب اليسارية ليس لديها برامج حقيقية أو بدائل تحقق التنمية والرخاء، ولكنها تعتمد أساسا على مهاجمة قصور آليات السوق وفشل وفساد الأنظمة التي ادعت فيما ادعت أنها تطبق الفكر الليبرالي قي الاقتصاد، متناسية أن الديمقراطية هي الوجه الآخر للحرية الاقتصادية، وأن غياب الديمقراطية بمؤسساتها وضماناتها يحول الحرية الاقتصادية لفساد ونهب منظم حيث تصبح الدولة البوليسية حامياً لفساد طبقة صغيرة من رجال الأعمال وكأنها مجرد بودي جارد أو بلطجي. لقد أوضحت الثورة المصرية مثلاً وجود ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجية المصرية، وهي تيار ضخم وسطي، يؤمن بالحرية الاقتصادية وفي نفس الوقت بدور مهم للدولة في تنظيم الاقتصاد وتحفيزه لتحقيق أهداف المجتمع، وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تضمن وجود حد معقول من الحياة الكريمة لكل مصري ومصرية، تيار يؤمن بالحريات الشخصية وبحقوق الإنسان وفي نفس الوقت بأهمية القيم الدينية والروحية والتقاليد المحلية، وهنا يصبح على الأحزاب الليبرالية أن تعيد مركزة نفسها في وسط هذا التيار، لتجتذب الأعضاء والمؤيدين والناخبين، وتبتعد عن أي تطرف فكري يلفظه الشعب المصري لأنه لا يستسيغه.
ويأتي التحدي الإعلامي في أن تهتم التيارات الليبرالية بتوصيل حلولها وبرامجها العملية لتحقيق مطالب المواطنين الحياتية، وتستجيب لنضال مجموعات المصالح بصورة متوازنة، مبتعدة عن الانغماس في الحوارات الفلسفية والصراعات الفكرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وخاصة أن الأحزاب الليبرالية تتفوق برامجيا عن غيرها ولديها بالفعل حلول عملية بطبيعة أسلوبها السياسي، بعكس الأحزاب اليسارية التي لديها من الشعارات والتمنيات الطيبة وانتقاد الآخرين أكثر مما لديها من حلول عملية، والأحزاب المتأسلمة التي تستخدم الشعارات الدينية دون أن توضح كيف ستؤدي هذه الشعارات لخلق الوظائف أو تحسين الدخول أو الرعاية الصحية أو التعليم. أما انغماس الأحزاب الليبرالية في مناظرات وسجالات حول الدولة المدنية وإذا ما كان يجب أن يأتي "الدستور أولاً" أم "الانتخابات أولاً" فهي أشياء تصيب المواطنين بالإحباط وتجعلهم يشعرون أن الأحزاب والساسة لا تهتم بما يهمهم ولا تشعر بآلامهم ومعاناتهم، وفي نفس الوقت هذه المناقشات الفلسفية تهدر فرصا حقيقية يمكن أن تتميز الأحزاب الليبرالية فيها وهي البرامج والحلول العملية. يجب على الأحزاب الليبرالية أيضاً أن تصل إلى الشارع وتتفاغل معه بقوة، لأنها ستجد أن الشارع متشوق للبدائل، وهناك أغلبية كبيرة لا تحب تيار الإسلام السياسي وتبحث عن خيارات أخرى، ولكن لابد أن تصل إليها مثل تلك الخيارات وإلا ستختار من المتاح على الرف والقريب منها محليا.
لقد أفرز الواقع السياسي بعد الثورة عشرات الأحزاب، ومئات الائتلافات والحركات، وآلاف اللجان الشعبية والنقابية، وبالتأكيد هذا أمر صحي ومتوقع وتكرر في التجارب المماثلة، لكن بالطبع لابد للأحزاب الليبرالية أن تدخل في تحالفات سياسية وانتخابية قوية، بل وأن تندمج الأحزاب الصغيرة لتنتج كيانات كبيرة لديها الانتشار والمقرات والتمويل والغدد الكافي من الأعضاء والمؤيدين حتى تستطيع أن تنافس وتحصد المقاعد، ولا شك أن وجود حزب عريق مثل حزب "الوفد" في مصر مثلاً كان يجب أن يكون نواة بل ومظلة لمثل هذه التجمعات والاندماجات الليبرالية، ولكن الاختراق والتدجين وما تعرض له الحزب على يد النظام المخلوع جعله يصل لحالة لم تسمح له سوى بالتحالف مع الإخوان المسلمين طمعاً في أن يكسب من وراء هذا التحالف بعض المقاعد، وهو طموح مشروع ولكنه خيب آمال الكثيرين الذين تصوروا أن الوفد سيعيد تأسيس نفسه بعد الثورة ليقود المرحلة القادمة، وخاصة مع قوة اسمه التاريخي وانتشار مقراته وموارده الضخمة ماليا وإعلاميا، وتاريخه الطويل مع العائلات والعصبيات المهمة في دوائر الصعيد والدلتا. ولكن يمكن أن نرى أيضاً مكاسب سياسية أوسع للتيار الليبرالي من تحالف الوفد مع الإخوان، وهو تقليل حدة الاستقطاب السياسي بين إسلامي وعلماني، وكذلك تحجيم التيار الديني في حدود معينة وخاصة في القوائم. ولابد أن ننتظر النتائج بشغف، لأن نتائج أول انتخابات - رغم عدم نضج العملية السياسية، ستحدد إلى مدى كبير مستقبل الأحزاب سواء الليبرالية أو غيرها.
ولا يفوتنا أن نذكر أهمية قيام الأحزاب الليبرالية بالانخراط في العمل الاجتماعي بصورة مباشرة أو من خلال التعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلية، لأن المفهوم "الخدمي" في السياسة المصرية سيظل مؤثرا لفترة كبيرة قادمة، كما يجب تكوين لجان خاصة بالعمل النقابي والطلابي، لإنهاء احتكار التيارات الإسلامية لهذه الدوائر الهامة، والتي مكنتهم من التغلغل المجتمعي وجذب الأعضاء والمؤيدين والمتعاطفين، وبالذات في الجامعات، حيث تتشكل الشخصية السياسية لدى الكثيرين في مرحلة مبكرة متأثرة بما تراه وتسمعه وتتفاعل معه.
وهناك تحد آخر لم تلتفت له الأحزاب الليبرالية بصورة كافية، وهو أهمية خلق قيادات حقيقية والوقوف وراءها بالدعم والحشد لصناعة صفوف متعددة من الكوادر الواعية وتسليط الأضواء عليها، فرغم أن طبيعة هذه الثورة أنها لم تعرف قائدا بل قيادات كثيرة، إلا أن التيار الليبرالي لم يحسن تقديم قياداته، بينما اجتهدت التيارات الإسلامية في التركيز على مجموعة من القيادات سياسيا وإعلاميا وجماهيريا، ولا يمكن أن نقلل من أهمية "الإلهام" وقوة "الرؤية" في العملية السياسية، ونتمنى أن نرى التيار الليبرالي يستدرك هذا الخطأ المنهجي، ويهتم بصناعة القيادات الواعية بصورة منهجية يمكن أن تحدث فرقاً كبيراً في مستقبل الأحزاب الليبرالية في الفترة القادمة.
[1] استخدمنا تعبير "حركة المعارضة الحقيقية" لنميزها عن أحزاب المعارضة المدجنة التي كانت مدارة من النظام.
الكاتب هو رئيس التحالف العربي للحرية والديمقراطية (AAFD) - شبكة الليبراليين العرب سابقاً (NAL)
1 comment:
Post a Comment