في تصريح صدر عنه منذ عدة أيام (27 أكتوبر)، قال الشيخ "منصور بن زايد آل نهيان"، نائب رئيس وزراء الإمارات، وزير شؤون الرئاسة، إن «الدعم العربي لمصر لن يستمر طويلا، وعلى مصر أن تفكر في حلول مبتكرة وغير تقليدية». وهذا التصريح "التحذيري" يبدو متناقضاً مع ما قاله الدكتور "حازم الببلاوي"، رئيس الوزراء المصري في اليوم السابق على خلفية زيارته لدولة الإمارات، ونصه: "إن الاتفاق مع الإمارات هو اتفاق دعم كامل يبدأ بهذه الحزمة التمويلية الجديدة التي حصلت عليها مصر من الاتفاقية الإطارية التي تم توقيعها مع حكومة الإمارات، مساء السبت، تتضمن 3.9 مليار دولار جديدة، ويفتح آفاقًا كبيرة للتعاون في المستقبل". وربما شعر مسئولي الإمارات بأن المسئولين المصريين يسعون لتوريطهم في دعم لا يعلم إلا الله سقفه أو حدوده، فجاء تصريح وزير شئون الرئاسة الإماراتي ليضع المصريين أنفسهم أمام مسئولياتهم لإنقاذ الوضع الاقتصادي في مصر. وفي حالة مصر، فإنه مع غياب الاستقرار السياسي، واستمرار المطالبات الاجتماعية والفئوية، واستجابة الحكومة لها، دون تنفيذ إصلاح هيكلي يوفر موارد حقيقية، فإن أي دعم تقدمه الإمارات أو غيرها، سيعد بمثابة عملية نقل دم لمريض ينزف باستمرار، دون غلق الجرح النازف.
والمشكلة الاقتصادية في مصر يمكن تبسيطها وتلخيصها في عدة نقاط:
· عجز الموازنة: خلال العشر سنوات الماضية بدأت الحكومة تنفق أكثر بكثير من إيراداتها (من الضرائب والموارد الأخرى مثل دخل قناة السويس) وخاصة على الالتزامات الاجتماعية ودعم الغذاء والطاقة والمطالب الفئوية التي تصاعدت بعد الثورة، مما أدى لارتفاع عجز الموازنة خلال 3 سنوات من 134 مليار جنيه إلى 205 مليار جنيه في 2012-2013، يمكن أن تصل إلى 302 مليار جنيه (تمثل حوالي 15% من الناتج القومي) خلال العام المالي 2013-2014 لو لم تتم تطبيق إجراءات إصلاحية جدية، وهو ما يفوق بكثير كل معايير استدامة المالية العامة والحفاظ على سلامة الإطار الكلي للاقتصاد طبقا لبيان وزارة المالية المصرية.
· زيادة غير مسبوقة في الدين المحلي: لسد عجز الموازنة المتصاعد، لجأت الحكومة لإصدار أذون وسندات الخزانة والاقتراض من البنوك المحلية بصورة مستمرة، مما أدى إلى زيادة غير مسبوقة في الدين المحلي لتغطية تصاعد الفجوة بين المصروفات والإيرادات، وأعلن محافظ البنك المركزي أن إجمالي الدين العام المحلى سجل 1533.6 مليار جنيه، فى نهاية شهر يونيو 2013 (أي قبل رحيل مرسي)، ليبلغ إجمالي الديون المستحقة على مصر داخليًا وخارجيًا 1831.68 مليار جنيه، أي 1.83 تريليون جنيه وهو رقم فلكي غير مسبوق، يعادل حوالي 89% من الناتج القومي المحلي.
· مزاحمة القطاع الخاص: عندما لجأت الحكومة للاقتراض من البنوك المحلية فقد "زاحمت" القطاع الخاص في الحصول على قروض من المدخرات والودائع البنكية، مما تسبب في صعوبة وارتفاع تكلفة حصول القطاع الخاص على التمويل اللازم للتوسع الاستثماري والنمو.
· فوائد مرتفعة لخدمة الدين المحلي: مع تدهور التصنيف الائتماني لمصر، ارتفع معدل الفائدة على أذون وسندات الخزانة الحكومية إلى حوالي 10.9% – وهي فائدة مرتفعة تعكس حجم التضخم في مصر ومدى ثبات قيمة العملة الوطنية – الجنيه المصري، وعوامل المخاطرة التي تتأثر بثقة المقرضين في الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وقدرة الحكومة على اجتياز هذه التحديات. وسداد فوائد هذه الديون ابتلع نحو ١٤٧ مليار جنيه خلال العام المالي 2012-2013، مقابل نحو ٧٢ مليار جنيه في 2009-2010 أي بزيادة تصل إلى ١٠٤ % خلال ثلاث سنوات. وهذا الرقم وحده يقارب حجم العجز الكلي في الموازنة، أي أنه لو لم تكن هناك ديون حكومية – فإن العجز الأساسي صغير جداً – وهذا يدل على أن المشكلة على ضخامتها، هي فجوة نشأت من قبل الثورة وتزايدت مع التباطؤ الذي اضطرت الحكومة لتعويضه لمنع البلاد من الانزلاق في دورة انكماشية أو كساد اقتصادي تكون آثاره سلبية على المصريين ولفترة طويلة قادمة، وتشير إلى أن الاقتصاد المصري قادر في الوقت الحالي على تغطية نفسه ولكن وجود هذه الفوائد يحمل الموازنة بعجز كلي ضخم، فيصبح التحدي الرئيسي – كيف تمنع مصر هذه الفجوة (أو الجرح النازف) من الاتساع.
· تدهور موارد العملات الأجنبية: مع وجود القلاقل السياسية وحوادث العنف، تدهورت عائدات السياحة، وخرج كثير من المستثمرين الأجانب من البورصة المصرية، كما تراجعت معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر بشدة، مما ضغط على قيمة الجنيه المصري انخفاضاً، وعلى الرغم من زيادة تحويلات المصريين بالخارج إلى وطنهم خلال العامين الماضيين بصورة غير مسبوقة، إلا أن هذا لم يكن كافيا لمنع تآكل الاحتياطي النقدي الأجنبي من 36 مليار دولار في ديسمبر 2010 إلى 15 مليار دولار في 30 يونيو 2013 – أي قبل أن تضخ دول الخليج حزمة المساعدات التي تلت عزل مرسي والإخوان عن الحكم.
· تباطؤ الاقتصاد: عدم توفر العملات الأجنبية أدى لصعوبة استيراد المواد الخام والوسيطة وهو ما أدى مع غياب الاستقرار السياسي وغيرهما من عوامل لتباطؤ النشاط الصناعي والاقتصادي بصفة عامة، وزيادة معدلات البطالة.
· هيئات نازفة: استمرار وجود هيئات تستنزف الموازنة العامة مثل قطاع الإذاعة والتليفزيون، وبالطبع الهيئة العامة للبترول بسبب دعم الطاقة.
ويتلقف الإخوان وأنصارهم هذه الأخبار باعتبارها دليلاً على أن النظام الحالي يقود مصر نحو الإفلاس الذي يقدرون له أن يحدث في خلال شهر وأحياناً 3 أشهر (تتجدد دورياً مع كل تقييم!)، متناسين أن الأرقام التي يستخدمونها كدليل، إنما هي تعبر عن الوضع المالي لمصر في 30 يونيو، أي في نهاية حكم الإخوان أنفسهم، وأن محافظ البنك المركزي السابق فاروق العقدة، قام بالاستقالة من منصبه في ديسمبر الماضي وهي علامة على الفشل الاقتصادي المتوقع نتيجة لسياسات الإخوان، وجاءت الاستقالة بعد صدور إعلانات مرسي الدستورية مباشرة، التي أدت لموجة احتجاجات نسفت آخر أمل باق في استقرار الأوضاع وتعافي الاقتصاد، مما أدى لاستقالة العقدة وهو ما أطلق موجة من التكهنات المتشائمة حول وصول مصر لحافة الإفلاس في نهاية العام الماضي، ومع تدهور الأوضاع واتضاح قرب نهاية حكم الإخوان، فإن قطر نفسها – الحليف الرئيسي والداعم المالي لحكم الإخوان – كانت قد بدأت تقفز من مركب الإخوان قبل عزل مرسي بعدة اسابيع.
وللإنصاف، فإن تدهور الأوضاع الاقتصادية بدأ بعد ثورة يناير مباشرة، وهو أمر مفهوم في ظل الاحتجاجات والمطالب الفئوية التي نشأت عن تراكمات قديمة انفجرت فجأة في وجه الحكومة الانتقالية بعد رحيل مبارك، علاوة على تدهور الوضع الأمني، وسقوط العديد من أقطاب الاقتصاد نتيجة لارتباطهم بنظام مبارك، ولكن الإخوان مسئولين بصورة مباشرة على تأزم الأوضاع الاقتصادية بعدة طرق: أولها إصرارهم عقب ثورة يناير على خريطة طريق طويلة جداً ظنوا أنها تؤمن لهم السيطرة على مقاليد السلطة ورسم شكل الدولة من خلال الانفراد بوضع الدستور عن طريق ربط تشكيل الهيئة التأسيسية لوضع الدستور بنتيجة الانتخابات البرلمانية، والثانية هي رفضهم العمل بأسلوب المشاركة والتوافق الذي وعدوا به بعد الثورة، وإصرارهم على المغالبة والهيمنة رغم ضعف التأييد الشعبي لهم، معتمدين على قوة التمويل والتنظيم السري والقدرات الانتخابية التي لم تتوفر لباقي القوى السياسية التي جاء ميلادها تنظيمياً وحزبياً بعد الثورة، مما أدى لسقوط حكمهم ودخول البلاد في دورة جديدة من عدم الاستقرار.
ويتضح من استراتيجية القرابين التي اتبعها الإخوان خلال الأشهر الماضية في اصطناع مواجهات هجومية تؤدي حتماً إلى حدوث عنف دموي وسقوط ضحايا، أن هدفهم الحقيقي كان نقل صورة مخيفة داخلياً وخارجياً عن الأوضاع في مصر، رغم محدودية هذه الاحتجاجات عدداً وانعدام تأثيرها السياسي، فهي تضحي بثمن باهظ من دماء المصريين لتنفيذ استراتيجية تليفزيونية أساساً، هدفها تضخيم الانطباعات السلبية، لضرب الاستقرار ومنع عودة الحياة الطبيعية، وتطفيش الاستثمار والسياحة، وتخويف المقرضين والمؤسسات الدولية، وإبطاء عجلة الاقتصاد، وقطع الطرق وشل المرور في البلاد، واستنزاف الدولة والاقتصاد. وبالطبع فإن حظر التجول في حد ذاته أدى لتباطؤ الاقتصاد في بلد تعتمد عادة على التسوق الليلي.
ولكن بصرف النظر عن مخططات الإخوان، هل تستطيع مصر أن تتخطى هذه التحديات الاقتصادية الجسيمة؟ وإلى أي مدى ستستطيع المساعدات الخليجية أن تبقي مصر آمنة فوق مستوى الغرق؟
بعيداً عن عجز الموازنة الحكومية، فإن الاقتصاد المصري الرسمي والموازي يتمتعان بعوامل قوة ظاهرة وكامنة. فعلى ضفة الطلب، نجد إمكانية نمو الطلب المحلي بصورة كبيرة لسد الاحتياجات والتطلعات الاستهلاكية لعشرات الملايين من المصريين بمجرد وجود قدر مناسب من الاستقرار والنمو في التوظيف، وعلى الضفة الأخرى، هناك طاقات إنتاجية كبيرة غير مستغلة، ومنشآت اقتصادية ومصانع مغلقة أو تعمل بجزء صغير من طاقتها نتيجة لضعف الطلب المحلي، وبنية تحتية تحتاج التحديث في كل مجال تقريباً، وهذا التحديث لا يحتاج لنفس القدر من الاستقرار الذي تحتاجه السياحة أو الاستثمار الأجنبي، بما يجعل تقديم حزمة تنشيطية له أثر فعال في صنع جسر بين الطلب الكامن والقدرات الإنتاجية المعطلة.
ولكن كيف تستطيع الحكومة أن تقيم هذا الجسر في ظل وجود عجز ضخم في الموازنة؟
كما أن الأزمة مركبة، فإن الحل في وجهة نظري هو أيضاً مركب:
· تصغير الفجوة: لابد أن تقوم الحكومة باتخاذ الإجراءات التي تقلل من عجز الموازنة من خلال ترشيد الإنفاق وخاصة في مجال دعم الطاقة الذي يستهلك وحده 100 مليار جنيه (!)، حيث يمكن توفير حوالي 37 مليار جنيه منها عبر استخدام نظام بطاقات الوقود الذكية كمثال واحد، وكذلك تنمية الموارد من خلال تطبيق الضريبة العقارية كمثال آخر.
· الضخ في مشروعات البنية التحتية: يمكن استغلال هذا الوفر وغيره في الاستثمار في المستقبل، من خلال ضخ حزمة إجراءات تنشيطية تبدأ بالاستثمار في المرافق والطرق والبنية التحتية وإقامة مناطق صناعية وعمرانية جديدة.
· إطلاق مشروعات قومية: من الجميل أن تقوم دول الخليج بسد الاحتياجات الآنية العاجلة سواء في الطاقة أو لتعويض استنزاف احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية، وهذا بمثابة حل مؤقت موضعي يعالج أعراض المرض، ولكن العلاج الحقيقي يكمن في تنشيط الاقتصاد نفسه، وبالتالي يجب على الحكومة المصرية أن تجهز أوراقها جيداً، للعديد من المشاريع القومية المشتركة التي يمكن أن تجذب اهتمام الأشقاء في الخليج بصورة استثمارية، بعيداً عن المنح أو القروض والهبات، مثل مشروع منطقة قناة السويس، وهذا يتضمن تعزيز قوانين حماية الاستثمار العربي والأجنبي بصفة عامة.
· صندوق تنمية عربي أفريقي: يجب أن تبادر مصر بتقديم الدراسات والالتزام بالاستثمار الحكومي في إنشاء صندوق عربي أفريقي للتنمية والاستثمار في مصر والسودان ودول حوض النيل بما يشجع القطاع الخاص في مصر، والصناديق الحكومية والخاصة في دول الخليج ويحثها على المشاركة، وفي نفس الوقت يبني علاقات متينة مع دول حوض النيل لحماية حصة مصر المائية.
· إدارة الأزمة بذكاء أمنياً وإعلامياً: مع علم الحكومة المصرية بخطط الإخوان لضرب الاستقرار في مصر من خلال اصطناع المواجهات الدامية، إلا أن السلطات لا تنفك أن تسقط في فخ الإخوان في كل مواجهة، ومع سقوط الضحايا، يقوم الإخوان باستغلال الموقف إعلامياً لتحقيق المزيد من الضرر لصورة الأوضاع في مصر وضرب الاستقرار، كما أن العديد من القرارات والإجراءات تعتمد فقط على المفهوم الأمني دون أن تخضع للتمحيص السياسي الاستراتيجي واعتبارات التأثير الكلي على الرأي العام ومبادئ إدارة الأزمات، للموازنة بين الفوائد والإضرار لكل قرار. وبدلاً من أن تلجأ الحكومة للحلول الناجعة وتصحيح هذه الأخطاء المتكررة، نجد أنها تلجأ لاتهام الإعلام الأجنبي بالتآمر لدرجة أن يصف المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية صحيفة الجارديان البريطانية أنها صحيفة صفراء ناطقة عن الثورة المضادة .
· المصارحة: لابد من مصارحة المصريين بحقيقة الأوضاع الاقتصادية، ومطالبتهم بتحمل المسئولية في علاج الوضع الحالي، ويجب أن يوازن المصريون بين رغبتهم في تصحيح مظالم اجتماعية تراكمت عبر سنوات طويلة، وبين قدرة الموازنة العامة على دعم هذا واقعياً بطريقة آمنة، حتى لا تنهار الدولة تحت ضغوط مطالب فئوية لا يمكن الاستجابة لها من موارد حقيقية. لكن من يجرؤ أن يقوم بهذه المصارحة؟ رغم أن الفريق السيسي ليس مسئولاً بصفة مباشرة عن الحكم أو عن الملف الاقتصادي، إلا أنه يحظى بشعبية كبيرة، قد تمكنه من أن يكون هذا الشخص الذي يصارح المصريين بشجاعة بحقيقة الأوضاع ويطلب دعمهم.
· توسيع التحالف السياسي: مرة أخرى لابد من توسيع التحالف السياسي الذي أسس لثورة 30 يونيو والابتعاد عن الإجراءات التي قد تشرخه وقد تتسبب في اكتساب الإخوان لحلفاء جدد بما يوسع من رقعة وخطر المواجهات والاحتجاجات.
إن الملخص الذي نود قوله هو أن إطفاء الحرائق وتركيز الموارد لحل المشاكل والأزمات الحالية، لا يجب أن يلهينا عن حتمية توفير بعض الموارد لمعالجة أسباب استمرار اندلاع الحريق بصورة مزمنة، وسد الفجوة بصورة حقيقية، أما سياسة "تلبيس وتدوير الطواقي"، فنتيجتها الأكيدة أن نعيش حياتنا كلها في حرائق وأزمات متلاحقة، إلى أن يأتي يوما ما فلا نجد من يقرضنا طاقية أو يتبرع بنجدتنا بجردل ماء.