خلوّ منصب الرئيس واغتصاب السلطة - وائل نوارة - التحرير
نشر يوم 22 نوفمبر 2012 على البلوج
ثم 24 نوفمبر 2012 في جريدة التحرير
فى 22 نوفمبر من عام 2012 ميلادية، قرر الدكتور مهندس محمد مرسى العياط، أن يترك منصبه كرئيس منتخب للجمهورية، عندما أعلن تخلّيه من طرف واحد عن شروط القسم الدستورى الذى أداه أمام المحكمة الدستورية العليا. وكان مرسى -مع حفظ الألقاب- قد أدى القسم الجمهورى أمام المحكمة الدستورية العليا يوم 30 يونيو 2012 ونصه: «أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصا على النظام الجمهورى، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه»، والدستور الذى أقسم عليه مرسى هو الإطار الدستورى الذى ينظمه الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011، وما تلاه من إعلانات دستورية مكملة من السلطة الانتقالية. ومنصب الرئيس فى الفقه الدستورى الحديث هو منصب تعاقدى، يلتزم فيه الرئيس بالقسم الذى أدّاه، وما يتبعه من التزامات بالدستور والقوانين والقواعد والإجراءات التى تنظم العلاقة بين السلطات، وأهمها استقلال القضاء وخضوع الدولة للقانون ورقابة القضاء، والضمانات التى تكفل حقوق المواطنين وحرياتهم، ويأتى التزام الرئيس بهذا الإطار الدستورى كشرط لممارسته للسلطة، لأن فى هذا الالتزام حماية للمواطنين والهيئات العامة والخاصة فى الدولة من عسف تغول السلطة، وبهذا فإن تجاوز السلطات الممنوحة للرئيس فى القسم أو الخروج على الضمانات المذكورة، هو بمثابة انقلاب جوهرى على القسم نفسه، بما يعنى ضمنا فض التزام المواطنين والهيئات بالاعتراف بسلطة الرئيس، وينتج عن هذا خلو منصب رئيس الجمهورية.
ويتضح خروج مرسى عن القسم الدستورى فى عدة مواقف، أبرزها الإعلان -المسمى زيفا بالدستورى- الصادر بتاريخ 22 نوفمبر 2012، وهو ليس بإعلان دستورى، لأنه لا يوجد أى سند يتيح لرئيس منتخب أن يصدر إعلانات دستورية، وجاء فى المادة الثانية لهذا الإعلان «أن الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة نهائية ونافذة بذاتها وغير قابلة للطعن عليها بأى طريق، ولا يجوز التعرض لقرارات الرئيس بوقف التنفيذ أو الإلغاء من قبل أى جهة قضائية»، وهذا يخالف الإطار الدستورى، حيث جميع القرارات والقوانين خاضعة لرقابة القضاء، ويأتى هذا الإعلان ليحول الرئيس من رئيس منتخب خاضع للدستور والقانون، إلى ديكتاتور فوق الدستور والقانون والدولة كلها، وهو ما يخالف بصورة جوهرية التعاقد الذى أقسم مرسى على احترامه كما جاء فى القسم الدستورى المذكور، كما يتضح فى المادة الخامسة من إعلان مرسى على سبيل المثال «لا يجوز لأى هيئة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية»، وهذا أيضا يخالف الإطار الدستورى، الذى يجعل للقضاء الدستورى الرقابة على القوانين التى تتعلق بالانتخابات، ولمحكمة النقض الرقابة على صحة العضوية بالمجالس المنتخبة، وبالتالى يحق للقضاء حل المجالس المنتخبة إذا ثبت وجود عيوب دستورية جوهرية بالقوانين أو الإجراءات التى تنظم تشكيلها. كما جاءت المادة السادسة من إعلان مرسى المشؤوم لترسخ مفهوم الفرعون الديكتاتور، وتنص على أنه «للرئيس أن يتخذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية البلاد وحماية أهداف الثورة»، بما يعنى أن الرئيس هو إله لا رادّ لأمره، والعياذ بالله.
قد يقول قائل، ما الإطار الدستورى الذى ترجع له، وأقول هنا إن الدساتير ليست فقط نصوصا موضوعة، وإن كانت النصوص التى أقسم عليها ثم حنث بها مرسى موجودة وحاضرة، لكن الدستور فى الأساس هو مجموعة من التقاليد التى تنظم العلاقة بين السلطات وبعضها، وبين السلطة والشعب، وتنص على الحقوق الطبيعية والمكتسبة عبر النضال الشعبى المستمر، والحقوق الإنسانية التى لا يمكن إنكارها أو العبث بها من خلال أى نص، وعلى هذا، فليس لدىّ شك فى أن مرسى خارج عن هذا الإطار الدستورى وحانث للقسم وناكث بالعهد الذى أقسم على احترامه يوم 30 يونيو 2012.
من هذا كله، نخلص إلى أن الرئيس قد تخلّى طوعا عن منصبه كرئيس منتخب، بأن قام بفض الاتفاق التعاقدى بينه وبين الشعب، والذى أقسم على احترامه أمام أعلى محكمة فى البلاد، وهى المحكمة الدستورية العليا. مرسى اليوم لم يعد إذن رئيسًا منتخبًا بل مغتصبًا للسلطة، غاصبًا للكرسى يحكم بوضع اليد وليس بالقانون، ووجب على كل وطنى أن يقاوم سلمًا غصب السلطة وعسفها.
وحيث إن الإطار الدستورى العام فى مصر يضع رئيس مجلس الشعب محل رئيس الجمهورية فى حال خلو منصب الأخير، وحيث إن مجلس الشعب منحل بحكم قضائى، يصبح رئيس المحكمة الدستورية العليا هو الرئيس الشرعى المؤقت للبلاد ووجب عليه اتخاذ التدابير التى ينظمها الإطار الدستورى، من دعوة الناخبين لانتخاب رئيس جديد للبلاد فى خلال 60 يومًا من تاريخ خلو المنصب -أى قبل 21 يناير 2013. ويثور سؤال هنا، ألا يتوجب علينا أن نأخذ الأمور بالطريق القضائى وأن نحتكم إلى القضاء فى مواجهة إعلان مرسى، وربما يكون هذا حلا مقبولا، ولكن مرسى نفسه سد هذا الطريق على معارضيه فى نفس الإعلان، حيث حصن نفسه وقراراته من رقابة القضاء، فبات من المستحيل على أى معارض أن يحاجه قضاء بعد أن وضع نفسه فوق القضاء وفوق القانون وفوق الدستور، فأصبح العصيان والثورة هو الحل الوحيد بسبب الإعلان نفسه الذى لم يعد يعترف بدستور أو قانون أو قضاء.
من المؤسف أن يضع مرسى نفسه فى هذا الموقف، ومن المؤلم أن يعرض البلاد لهذه البلبلة الدستورية، وقد يكون فى جهالة عما يفعله، لكن الغفلة ليست عذرا للمغفلين، خصوصا إن قامت بتحويل موظف عمومى منتخب إلى ديكتاتور إله فرعون، بما يعصف بضمانات دولة القانون ويهدد الثورة والمواطنين والدولة المصرية كلها. نحن ندخل الآن منطقة شديدة الخطورة، ولا أعلم إن كان عدول مرسى عن هذا الإعلان المشؤوم ممكنا أم لا، لكن تعالَ نفترض أنه سيعدل عن عنه، ماذا بعد؟
الحل الوحيد لعودة مصر إلى دولة القانون، هو إعلان فترة انتقالية ثانية وتشكيل جمعية تأسيسية جديدة تفوض فى وضع الدستور، وكذلك بصورة مؤقتة فى وضع القوانين لحين انتخاب برلمان جديد ورئيس جديد طبقا للدستور المنتظر. من الذى عليه أن يعلن هذه الفترة الانتقالية وكيف تتحدد خارطة السير فيها؟ الحل الوحيد هو تضافر القوى الوطنية كلها وراء رئيس المحكمة الدستورية العليا كرئيس مؤقت، بما فى تلك القوى حزب الحرية والعدالة إن أراد للبلاد الخير، للاتفاق على خريطة الطريق وشروط إدارة المرحلة الانتقالية، أما الاستمرار فى السير فى هذا الطريق، والتظاهر بأن مرسى ما زال رئيسا منتخبا بينما هو ديكتاتور وحاكم بأمره، فهو يحمل مخاطر جسيمة أولها أنه مع سقوط شرعية مرسى فور صدور إعلانه الدستورى، تنقسم البلاد إلى فرق متناحرة، حيث يتمسك كل طرف بأن له الشرعية، وقد تدخل البلاد فى دورة من العنف والعنف المقابل بما يحمله هذا من فوضى ومعاناة وضرب للاستقرار والاقتصاد.
أتمنى أن تعود كل الأطراف إلى رشدها، فما هو قادم شديد الخطورة ولن تكون نتيجته لصالح أى طرف. كل طرف يجذب الجسد ممسكا بذراع أو قدم، ولكن عندما يتمزق الجسد، لا يصبح للذراع أو القدم قيمة، ونضحى بسلامة الوطن حيث لن يرحمنا التاريخ
No comments:
Post a Comment