في انتظار حلم عظيم
الحضارة الإنسانية هي نتاج سلسلة من الأحلام والمبادرات العظيمة، ومن هنا فالقدرة على الحلم، هي أهم ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، التي تعيش الحياة كما تجدها. أما الحضارة الإنسانية، فتتميز بوجود قفزات نوعية غير مفهومة. تبدأ المبادرة بحلم بسيط وعظيم، يولد في خيال أحد الحالمين، يخترق من خلاله الضباب الذي يفرضه الواقع بأبعاده المادية المعروفة، ومحدداته التي تخضع للمنطق الموجود والمستقر، ليحلق الحالم وينفذ عبر أحجبة الزمن المعتمة من خلال ومضة صدق، تستمد وهجها من مخزون أودعه الخالق في ضمير الإنسان في عصر البراءة، فيرى الحالم المستقبل من خلال رؤية نافذة وبصيرة ثاقبة، يراه لا كما يجب أن يكون، بل كما يمكن أن يكون، وكما يجب أن يُصنع.
يؤمن الحالم برؤيته الغريبة عن الواقع، ويلهم مجموعة مميزة من المقربين والمريدين، حتى يؤمنوا بالحلم، ويعتنقوا الرؤية، ويشاهدوا المستقبل الذي عليهم أن يشاركوا في صنعه، فيولد فيلق التغيير. فيلق المؤمنين. فيلق المجددين. فيلق المصلحين. ومن أجل أن يتحول الحلم ليصبح واقعاً يشكل ملامح المستقبل، عادة ما يكون من ضمن أعضاء الفيلق، بعض البراجماتيين، الذين يستطيعون من خلال قدرتهم على التعامل مع الواقع بمعطياته، أن يصنعوا جسوراً مادية، تربط بين ذلك الواقع غير المرغوب فيه وبين المستقبل الذي يجب التحول إليه. وبعكس الحالمين والمثاليين، الذين قد لا يبحثون عن مصلحة شخصية من وراء تحقيق الحلم، يرى البراجماتيون في الحلم فرصة ليس فقط لتحقيق المصلحة العامة، بل أيضاً لتحقيق مصالحهم الشخصية، وهنا تكمن المفارقة.
فبدون الحالمين والمؤمنين من أصحاب المثل العليا، لا يمكن أن يولد الحلم أو يكتسب القوة الروحية الدافعة والمحركة للقلوب والمشاعر. وبدون البراجماتيين، تبقى الأحلام حبيسة الخيال، وإن خرجت عنه لا تتجاوز الأوراق أو الرقاع، فالبراجماتيون هم الذين يحولون هذه الأحلام لخطط وخطوات عملية، تغير من الواقع، وتعبر بالأمم نحو المستقبل. ويأتي الصراع عندما يشكو الحالمون من تحول الحلم من طور المثالية لأطوار الواقعية، خاصة عندما يجدون أن البراجماتيين يستغلون المبادرة في تحقيق مصالحهم الشخصية. ومن الناحية الأخرى، يشكو البراجماتيون من الحالمين، الذين يهددون بتفكيرهم الرومانسي عملية التحول من طور الحلم، لطور المبادرة فالتنفيذ على أرض الواقع. وعادة ما يستأثر البراجماتيون بجل غنائم هذا التحول، فيشعر المثاليون بالمرارة، ويتهمون المنفذين بالانتهازية، رغم أن هذه الانتهازية هي التي تكفل تحقيق الحلم وتنفيذ المبادرة.
وعندما تنسحب المبادئ ويرحل المثاليون، يفقد البراجماتيون تدريجياً الصلة الروحية بالحلم، ويصبح الحلم مجرد أداة لتحقيق المنفعة الشخصية، بعد أن غاب ضمير الفيلق وتوقف عن توجيه مسار المبادرة، فتنتهي المبادرة بصورة مبتسرة، ويتحسر أفراد المجتمع على ما كان يمكن أن يكون. أما المبادرات العظيمة، فيكمن سر استمرارها وقدرتها على التأثير في الحضارة الإنسانية، يكمن في "توليفة" فريدة تميز فيلق التغيير، يعمل من خلالها المثاليون جنباً إلى جنب بجوار البراجماتيين. وفي الواقع، فإنه لا يوجد تعارض في المصالح، لأن تحقيق الحلم في حد ذاته هو الجائزة التي تشبع تطلعات الحالمين، كما أن الغنائم المادية لازمة لتحفيز البراجماتيين وإرضاء طموحاتهم، وهي الوقود اللازم لاستمرار المبادرة وتوسعها. نعم، يكمن سر المبادرات العظيمة، في التوازن بين المصالح الشخصية والعامة، بين اعتبارات الفرصة وبين الثوابت المبدئية والقيم الروحية، بين محددات الواقع وبين ملامح المستقبل.
والأمم العظيمة تصنعها الأحلام العظيمة. الأمم العظيمة هي التي تسمح للحالمين بالحلم، وتتيح الفرصة لأصحاب المبادرة أن يأخذوا المبادرة، ويحققوها على أرض الواقع، ويستفيدوا بصفة شخصية من نجاحها، ما دامت تلك المبادرات سوف تسهم في النهاية في النهوض بالمجتمع وتعبر به نحو المستقبل. أما الأنظمة التي تخاف من الأحلام، وتطارد الحالمين، وتئد أحلامهم، أو تعاقبهم على مجرد الحلم، في سبيل تكريس الواقع والحفاظ على مصالح النخبة الحاكمة، تحت دعاوى الاستقرار والإصلاح التدريجي، فهي أمم محكوم عليها بالتدهور والتذيل، ثم الاندثار والفناء. الأنظمة التي تحاصر أصحاب المبادرات، وتنكر عليهم الاستفادة من مبادراتهم، خشية أن يصعدوا فيهددوا النخبة الموجودة، هي أنظمة تطلب العقم وتحرص عليه، وتمارس التعقيم والتقليم، والإخصاء والإقصاء، بدعوى الحفاظ على الاستقرار وحماية السلام الاجتماعي تارة، أو مراعاة مصالح محدودي الدخل تارة أخرى، أو تذويب الفوارق بين الطبقات تارة ثالثة، وغيرها من الشعارات الكاذبة، التي تستخدم لتبرير كراهية النجاح ومحاربة الناجحين، وملاحقة المتعثرين والتشفي فيهم، رغم أن التعثر صفة تلازم المبادرات الجديدة أكثر من النجاح، والقبول بالتجربة وباحتمالات التعثر هو شرط لإدراك ذلك النجاح. إن تلك الأنظمة المعقِمة تحارب النجاح وتضطهد الموهوبين، حتى تختنق الأحلام، ويحجم كل صاحب مبادرة عن العمل الخلاق، أو يهاجر هرباً من هذا الجو المسموم، ويترك وطنه لينتمي لمجتمعات أخرى يحقق فيها النجاح ويحصل على التقدير، فتستفيد تلك المجتمعات من هذه الموارد البشرية النادرة، بعد أن اضطُهدت تلك الموارد في أوطانها الأصلية.
ولأن الحالمين وأصحاب المبادرات وأعضاء فيلق التغيير هم عملة نادرة، ويخضع ظهورهم لنسب إحصائية ضئيلة، فإن فقدان واحد منهم يمثل خسارة فادحة لا تعوض بسهولة، أما موضوع أن "مصر ولادة" وأنها قادرة على إنجاب "سيد سيده"، فهو قول حق يراد به باطل. فمصر ولادة بحق، ولكن إذا كانت طبيعة النظام هي أن يقضي على الموهوبين ويبعد الحالمين ويطارد أصحاب المبادرات بصورة تلقائية، فكثرة الولادة لن تفيدنا بشيء، سوى أن تتسبب في تفشي البطالة والفقر والجهل، واستشراء السماجة والسخافة، وانهيار الفنون والآداب والعلوم، وتدهور النشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، فضلاً عن تدني الذوق العام وتسمم المناخ المحيط بالحياة اليومية لكل منا.
نتحدث عن النهوض بالاقتصاد والاستثمار، وعن تطوير التعليم والثقافة، و كل هذا جميل، ولكنني أقول لكم بكل صراحة، بدون حلم عظيم، بل أحلام عظيمة، لن نتقدم خطوة إلى الأمام. بدون هؤلاء الحالمين والموهوبين المضطهدين سوف يتدهور وضعنا يوماً بعد يوم. بدون فيلق التغيير سوف نغرق في قيعان التخليد والتجميد. بدون تداول المقاعد في كل موقع، والحرص على تشجيع الحراك الاجتماعي في كل مجال، سوف نتكلس ونتحجر، وندخل التاريخ كأول أمة معاصرة، يتم تصنيفها ضمن الآثار الغابرة. والآن، علينا جميعاً أن نجد حلاً لهذه المشكلة، قبل أن نستقر في ذيل كل قوائم الأداء المعروفة والمستحدثة.