معراجان من المعاريج العشرة
وبعد مرور حوالي نصف ساعة، بدأ الخطيب في موضوع الخطبة، بالشرح التفصيلي لكل معراج، وبدأ بالمعراج الأول، حيث السماء الدنيا، وبه أول البشر آدم عليه السلام، ثم بدأ يشرح لماذا جاء آدم في السماء الدنيا رغم أنه أبو البشر أجمعين، وأكد أن مكان آدم هذا لا ينتقص من مكانته، وبأن مفهوم المكان عند البشر لا علاقة له بالمكانة عند الإله، ودلل على ذلك بأن العبد في السجود هو أقرب إلى الله مكانة، رغم أن رأس الشخص المنتصب القامة أقرب إلى السماء عن رأس الساجد، ثم شرح أوجه النبوءة والتشابه بين السماء الأولى، وبين السنة الأولى من الهجرة، حيث خرج آدم من أحب مكان إلى قلبه وهو الجنة، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام من أحب الأماكن إلى قلبه وهي مكة، واستغرق حوالي ربع ساعة في ذلك المعراج رغم أن لم يكن به إلا نبي واحد، وهو آدم عليه السلام.
وبعد أن مرت ثلاثة أرباع ساعة من الخطبة الدسمة، دخل الخطيب في المعراج الثاني، وشرح أن به عيسى عليه السلام ويحي عليه السلام، وبدأ بتوضيح سريع، يربط بين تسمية أتباع سيدنا عيسى بالنصارى لأنهم نصروه، بينما وتهامس المصلون بأن سيدنا عيسى جاء من الناصرة(!)، ولكن الخطيب استمر دون تردد أو شكوك، ليربط بين تسمية مؤيدي عيسى بالنصارى، وبين تسمية أهل المدينة بالأنصار لنفس السبب وهو نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم الذين استقبلوا الرسول وأيدوه لتصبح المدينة قاعدة لانطلاق الإسلام ونصرته في مشارق الأرض ومغاربها، وكيف جاء انتصار بدر، وكيف قاتل أهل المدينة جنباً بجنب مع الرسول عليه الصلاة والسلام في بدر، رغم خلو بيعة العقبة من بند يلزمهم بذلك ...
مرت ساعة كاملة والخطيب لا يزال في منتصف المعراج الثاني، يشرح بعض أحداث السنة الثانية من الهجرة، وهو لم يتحدث بعد سوى عن نبيين، ولا زال أمامه في المعراج الثاني يحيى عليه السلام، وهناك معاريج ثمان أخرى، تذخر بالعديد من الأنبياء والرسل، مثل يوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم ونوح عليهم السلام أجمعين، ولا زال هناك ثمان سنوات ونصف من الهجرة لابد من شرحها، وتوضيح العلاقة الدقيقة بين كل سنة والسماء التي تقابلها في المعاريج، والدلائل التي تؤكد هذه العلاقة بما هو وراء أي شك، والأراء المختلفة للعلماء الأجلاء حول هذه الأدلة، وما هو راجح منها وما هو غير راجح، ...
وفي نفس الوقت، انتظر الآلاف من المصلين والمتظاهرين الذين لم يسعهم مسجد سيدي جابر تحت شمس يونيو القاحلة خارج المسجد، محاطين بجحافل قوامها عشرات الآلاف من قوات الأمن المركزي وقوات قمع التظاهر، وسيارات الشرطة المدرعة، ومئات اللواءات والعمداء والعقداء والضباط والمساعدين والأمناء والمرور في حللهم الرسمية، ورجال المباحث والمخبرين ورجال البوليس السياسي في ملابس مدنية، كل هؤلاء مهددين بالإصابة بضربة قاضية من شمس يونيو الحامية.
وبات واضحاً أن الخطيب قد تلقى تعليمات صريحة من الجهات الأمنية، بأن حشد كل قدراته على الإطناب والحديث لساعات طويلة مضنية، حتى يرهق المتظاهرين فيصابوا بالضربة القاضية الشمسية، بما يضمن إجهاض المظاهرة الوطنية، وانتقال المتظاهرين في سيارات الأسعاف إلى المستشفيات الدانية والقصية.
وبينما صبر المتظاهرون على هذا الأذى المتعمد حتى لا يتهموا بإساءة الأدب في المسجد، كانت هناك جثة مسجية، حولها أهل مكلومون، ينتظرون انتهاء الصلاة ليقوموا بالصلاة على فقيدهم أو فقيدتهم، وإكرام الميت دفنه، وخاصة في هذا الحر الشديد الذي يؤذي أجساد الموتى قبل الأحياء ...
بدأ المصلون كل في ذهنه يقوم بحساب الوقت المتبق من الخطبة، فإذا كان أول معراجين قد استغرقا حوالي الساعة، وهناك معاريج ثمان أخرى، فمن الممكن إن استمر الحال على ما هو عليه، أن تستمر الخطبة لأربع أو خمس ساعات إضافية، فتتصل صلاة الجمعة بالعصر والمغرب، ...