السبت، نوفمبر 10، 2012

الدستور المحفور فى ضمير المصريين - التحرير


تشكلت الجمعية التأسيسية للدستور ثم حكم القضاء ببطلانها، وتشكلت من جديد بنفس العوار ثم حُكم ببطلان المجلس الذى شكلها على شاكلته المختلة، ثم طُعن عليها مرة أخرى وحُوِّل الطعن للمحكمة الدستورية، كل هذا والجمعية تتظاهر بأن الأمر لا يعنيها، بل وجدنا من يعلن عن تسريع وتيرة أعمالها حتى تنتهى من الدستور قبل أن تحكم المحكمة الدستورية ببطلان تشكيلها، وكأن الدستور محفظة ستنشلها الجمعية قبل أن يتنبه صاحبها. استمرت الجمعية فى أعمالها الخفية، تنعقد وتنفض، ونسمع عن عقد بعض الأعضاء لصفقات سرية، ويهدد البعض الآخر بكشف المستور، وتتسرب مواد من الجمعية كبالونات اختبار ثم تتبرأ منها الجمعية، ويقترح البعض أن تكون السيادة لله، وكأن الله -تعالى عما يصفون- ينتظر أن تحميه الجمعية التأسيسية، ونقترح نحن أن تكون السيادة لصاحب الدكان، مع تسليمنا بأن الملك والأمر لله من قبل ومن بعد. يحاول البعض أن يبدو بمظهر الحريص على الدين والشرع، بينما هو لا يخجل أن يقترح تقنين ودسترة اغتصاب الأطفال. يخرج أمين الجمعية ويعلن أن الجمعية متوافقة بنسبة 100% على مسودة الدستور، فيصفه زملاؤه بالكذب البين ويهددون بالانسحاب من الجمعية. يتساءل البعض عن سر تعيين مشمش فى الجمعية والمجلس وكل المجالس والمصاطب والترع والمساقى الأرضية والقنوات الفضائية، ولم يُعرف عنه من قبل أنه صاحب فكر ولم يُسمع له رأى، ثم يتبين سر التعيين، عندما يفصح مشمش أنه ولله الحمد حاصل على شهادة كلية «سماجة إنجليش»، والله على ما يقول شهيد، بما يؤهله إلى كل هذه المجالس والجمعيات بكل تأكيد.

أما علماء البلد وفقهاؤها الدستوريون، ومناضلوها من الشباب والشيوخ نساء ورجالا، السياسيون والقضاة، الأساتذة والعمال والفلاحون، الطبيبات والمهندسون، المدرسات والكتاب والفنانون، الباحثات والمبدعون والمبتكرون، فليس لهم حضور أو تمثيل يذكر فى الجمعية، التى اقتصرت فى أغلبيتها الساحقة على مشمش وبلبل وأبو مشمش وأم بلبل وجيران مشمش وأصدقاء بلبل، باعتبارهم كلهم من الموالين لشيخ القبيلة التى ينتمى إليها مشمش وبلبل، وهو الشيخ الذى لا يثق فى غير مشمش وبلبل. وتنظر إلى مشمش وبلبل وزملائهم، فتجد أنهم لا يتكلمون بلغة المصريين أو فى الأمور التى تهمهم، فجل كلامهم عن زواج الأطفال وختان البنات والحجاب والنقاب والأضرحة والإغلاق المبكر للمحلات والرقابة على الإعلام والإنترنت وحرمانية فوائد البنوك «الربوية» -باستثناء طبعا قرض صندوق النقد الدولى فهو حلال بلال- وتحريم الموسيقى والسلام الجمهورى وكراهة اللغة الإنجليزية وحرمانية تحية علم مصر التى يفترض أن يكتبوا دستورها، وغيرها من أمور فكاهية، لا موقع لها من الإعراب فى أى جملة دستورية، سواء إسمية أو فعلية.

وتندهش، لماذا لم يختر البرلمان لتأسيسية الدستور عينات تمثل تنوع الأمة وثراء عقولها، ثم تكتشف أن شيخ القبيلة لا يريد العقول التى قد تفكر، ربنا يكفيك شر الفكر، فتعترض أو تجادل لا قدر الله، بل يبتغى الأيادى التى ترفع بالريموت وتصفق بالإشارة، حسب التوجيهات السابقة أو اللاحقة، لاشتقاق أغلبية زائفة ماحقة، لقلة صغيرة عددا غنية تمويلا، بحيث يبدو الأمر وكأن الجمعية تضع الدستور، بينما الواقع أن الدستور مكتوب فى مكتب شيخ القبيلة ودور الجمعية هو الموافقة عليه.
ينظر الشعب لهذا السيرك الكوميدى، الذى تديره جماعة هى أصلا غير شرعية ولا سند لها من القانون أو التنظيم، وقبل أن توفق أوضاعها الشائنة المخلة، قررت أن تتصدى لكتابة دستور بلد مثل مصر. يتعجب المصريون من مشمش وبلبل، الذين يريدون أن يضعوا له دستورا وهابيا، دون أى اعتبار لهوية هذا الشعب وثقافته الراسخة قبل الظهور الأغبر للأخ الوهابى مشمش بآلاف السنين.

لا يعلم مشمش ولم يدرسوا له فى كلية «سخافة إنجلش» أن الدساتير والقوانين لا تُوضع، بل تُكتشف وتُقرأ من ضمير الشعب الجمعى ووعيه الحى الكلى، أما الدستور المكتوب، فهو مجرد تدوين لما هو موجود، وتسجيل لما هو معروف بالضرورة ومفهوم للكافة. يظن بلبل أن البترودولار يمكن أن يشترى له بلدا بدستور ملاكى يبرطع فيه هو ومشمش وأصدقاؤهما، ولا يعلمون أن الشعب المصرى لا يعترف إلا بدستوره هو، وأن الحكام الذين لم يدركوا هذه الحقيقة أصدروا الدساتير التى خرجت ميتة، وشرعوا القوانين التى وأدت ودفنت حيث ولدت، تحت القبة، بينما عاش الشعب فى دولته الموازية، بأعرافه الشعبية وتقاليده العريقة، وحكمته المذهلة، والتى تظهر فى أمثاله وعاداته وطريقة حياته، حيث يحتال ليعيش وتستمر حضارته رغم ظلم الولاة والجباة عبر آلاف السنين ويذهب الحكام الظالمون لمزبلة التاريخ.

ما هو دستور المصريين؟ المادة الأولى، مصر أم الدنيا، أرضها ونيلها أحلى مكان فى الكون يحبه المصريون ويذوبون فى عشقه. فالمصريون يقدسون الأرض والنهر، ومصر دولة طبيعية، أى صنعتها الطبيعة وليس السياسة أو الحروب، وبالتالى فهى بطبيعتها موحدة، رغم وجود تمايز بين بعض أهلها خصوصا قرب الأطراف كما قررت الطبيعة بأمر الله، قد يتقارب أهل قبلى وأهل بحرى، ولكن لا ننكر وجود خصوصية ثقافية لأهل النوبة وبدو سيناء والصحراء الغربية والمسيحيين. ومن أجل أن تستمر مصر موحدة مع هذه التباينات، لا بد من احترام هذه الخصوصيات وهذا التنوع، بحيث لا تفرض الأغلبية شخصيتها فتزعزع وشائج الوحدة كما رأينا فى دول مجاورة تفتت لشظايا.

المادة الثانية، أهل مصر مؤمنون بخالق الأرض ومرسل النهر العظيم. يحيى الأرض بعد موتها بالفيضان ومعه الخير العميم. والإسلام الوسطى المصرى والكنيسة المصرية، والثقافة المصرية الأصيلة، يجسدون الروافد الروحية التى يتواصل المصرى من خلالها مع المنابع المتعددة للقيم الأخلاقية الراسخة لديه منذ آلاف السنوات. وعليه، فهناك إسلام مصرى وكنيسة مصرية، تشكلا من طبيعة الأرض والنهر والناس، وأحبهما العالم أجمع لما بهما من تسامح وحب، يعكسان شخصية الفلاح المصرى الأصيل الذى فطر على حب الخير والتعاون مع الجيران. اسأل أى مصرى فى ما عدا مشمش وبلبل… هل تقبل بقطع اليد والرجم والجلد والصلب والثقف كعقوبات لأى جريمة، وستجد الإجابة غالبا بالنفى المبلل بما تيسر من ترجيع.

المصرى يحب العدالة، وقدس ماعت، ويريد أن يطمئن لوجود قضاء قوى مستقل نزيه وعادل. المصرى يحب الحرية، ويتسامح فى ارتكاب بعض الصغائر كنوع من أنواع التفاريح من وقت لآخر، ولا يراها تتعارض مع الإيمان بالخالق أو الالتزام الأخلاقى فى الأمور الهامة، مثل الحرص على الأسرة، ورعاية الأطفال، وود الجار، وصلة الرحم، وتقديس الزرع والنهر والحيوان والنبات، كتجليات للخالق الأعظم.

أما الأيديولوجية المصرية، فتؤمن بضرورة وجود حرية اقتصادية، فالمصرى يحب أن يكون حرا يعمل ويتملك الأرض والبيت والدكان والورشة، لكنه أيضا يريد أن يطمئن على غده ومستقبل أولاده وتعليمهم وتطبيبهم، فلا بد من وجود نظام ضمان اجتماعى لينام قرير العين. المصرى يريد أن تظل دولته موحدة جيشها قوى، لكنه منذ فجر التاريخ قسم البلاد لأقاليم طبيعية تتمتع بنوع من أنواع الحكم المحلى على عكس ما يتصور البعض. المصرى عانى كثيرا من الولاة الظالمين، فلن يحب وضع البيض كله فى سلة رئيس أو حاكم، وفى نفس الوقت هو يحب الاستقرار وأيد ثورة 52 التى كان من أهم أسباب قيامها تغير عدد كبير من الحكومات فى فترة قصيرة، ولهذا سيفضل حلا وسطا يجمع بين مزايا استقرار النظام الرئاسى مع وجود وزير أول يتصدى للمشكلات الحياتية ويراقبهما برلمان وصحافة وأجهزة رقابية تمثل الشعب، وبالتالى فتلك الأجهزة الرقابية لا بد أن تتبع البرلمان لا الرئيس. من الآخر، المصرى وسطى، ولا بد أن تتجلى وسطيته العبقرية فى دستوره المكتوب، لتعكس ما فطر عليه وحفر فى وجدانه منذ فجر الضمير.

ليست هناك تعليقات:

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook