سبب رئيسي لمعظم ما يحدث الآن من شقاق هو جهل أو تجاهل لأبسط القواعد المنطقية في التوصل لتوافق
التوافق نحتاجه عندما نكون مختلفين في الرأي والمصالح أو حتى القيم والعقائد
يسوق الوهابيون الحجج لتطبيق أحكام ما يسمونه بالشريعة على باقي المجتمع، من خلال إقحام هذه الأحكام في الدستور، طبقا لتفسيرات دينية معينة، ووضعها مكان القوانين الوضعية، بحيث يلزم القانون الجميع باتباع سلوكيات شخصية معينة والامتناع عن أخرى في الأزياء والمأكل والمشرب والعبادات والفروض بل والنوافل، ناهيك عن نظم التعليم والإعلام والاقتصاد والمال والسياسة الداخلية والخارجية، رغم أن هذه التفسيرات التي يرجعون إليها في النهاية هي تفسيرات بشرية، ورغم أن أفراد المجتمع تتباين اعتقاداتهم الدينية حتى وإن اشترك بعضهم في الانتماء لأحد الأديان، فالمذاهب والفرق والاتجاهات الفكرية تتعدد حتى بين من يشتركون في الإطار العام، فلدينا سنة وشيعة، حنفية ومالكية، صوفية وسلفية، فما بالك بأصحاب الديانات المغايرة أو غير المتدينين. أما الوهابيون فهم يريدون أن يفرضوا تطبيق رؤيتهم هم للدين على جميع أفراد المجتمع، ويقيمون من أنفسهم أوصياء دينيين على الناس في الأرض، رغم أن الله وحده هو الذي يحاسب على الدين والسلوكيات الشخصية، ولا يمكن أن يستقيم الحساب والثواب أو العقاب أو تحميل البشر بمسئولية عن سلوكياتهم إلا مع توفر الحرية للناس في اختيار سلوكياتهم، فحرية الاختيار هي شرط أساسي قبل المساءلة.
ومن المؤكد أن أهل أي دين يختلفون في كثير من التفاصيل، وكذلك فيما يلتزمون به من الدين، فكل شخص يلزم نفسه بما يطيقه ويراه مناسباً له، فالبعض يصوم والبعض الآخر قد لا يصوم، أو يصوم بعض الأيام ولا يصوم أياماً أخرى، والبعض قد يصلي كل الفروض في المسجد أو الكنيسة أو المعبد، والبعض الآخر قد يصلي بعض الفروض في المنزل أو مكان العمل أو لا يصلي إلا لماماً، ولا يمكن أن نفترض أن الجميع يلزمون أنفسهم بنفس الطاعات.
أما القانون الوضعي، فله صيغة تعاقدية ملزمة للجميع، لأنه يمس الآخرين، فلا يمكن مثلاً أن نمتنع عن القتل عدا يوم الجمعة، أو نمتنع عن السرقة إلا بالنسبة لمحلات الذهب، وهكذا، لأن صلاح المجتمع يقوم بأن يتفق أفراده على قوانين ملزمة، لتجنب أن يقوم البعض بإيذاء البعض الآخر، وهذا هو مفهوم تجنب الضرر المادي - الفردي أو الجماعي. وطبيعة الاتفاق تنحصر أساساً في التعاملات، وليس الأفكار أو السلوكيات الشخصية التي لا تخص الآخرين بصورة مباشرة، وأساس الاتفاق هو المساواة والتكافؤ والالتزامات التبادلية، فكل منا يلتزم في سلوكياته تجاه الآخرين بما يحب أن يلتزم به الآخرين تجاهه، من تجنب الضرر والأذى، والحفاظ على المرافق المشتركة، حتى يعيش الجميع في أمان، ويستمتعون باستخدام المرافق العامة.
فالمصلحة الشخصية وأيضاً المصلحة العامة، تستوجب أن يتفق أفراد المجتمع على أرضية مشتركة، يتوافق عليها أفراد المجتمع، لتصبح قانوناً وضعياً، واتفاق من هذا النوع بالضرورة هو اتفاق الحد الأدنى، لا ألزمك فيه إلا بأن تمتنع عن إيذائي مثلاً، وهو ما ترضاه ويتفق مع إرادتك وقيمك، لأنه اتفاق تبادلي ألتزم أنا أيضاً من خلاله بألا أؤذيك، فأنت لن تلزمني إلا بما أرتضيه منك لنفسي، وبهذا يرتضي الجميع أن يمتنع عن إلحاق الأذى بالآخرين بصورة تعاقدية ملزمة.
لكن على المستوى الطوعي، يمكنك أنت أن تضع قيوداً إضافية بصورة اختيارية على نفسك، فقد تلتزم بعدم التدخين مثلاً، أو تخصص جزءاً إضافياً من دخلك خلاف الضرائب لمساعدة ذوي الحاجات، أو تمتنع عن الأطعمة السكرية أو الدهون لسبب صحي، لكن هذا لا يلزمني أنا، وفي نفس الوقت يمكن أن ألتزم أنا بالاستيقاظ مبكراً لممارسة رياضة معينة أو عمل ينفعني، دون أن تضطر أنت للالتزام بنفس هذه القيود، وهكذا، فهذه هي فكرة القوانين الوضعية التي يتفق عليها الناس من خلال آلية مثل الديمقراطية، أنها لا تضع من القيود إلا الضروري، وتترك الباقي للشخص نفسه أن يضع ما يريد من القيود الإضافية يلزم بها نفسه أو من يرعاهم من القصر.
تصور إذا أخذنا بالمنهج العكسي، وهو اتفاق الحد الأقصى، فتضطر أنت للاستيقاظ مبكراً، علاوة على التزاماتك الأخرى، وأضطر أنا للامتناع عن السكريات، علاوة على التزاماتي الأخرى، هنا يعيش المجتمع وسط غابة من القيود المتعسفة يضطر الجميع لأن يخرج عنها لأنه ليس من العملي الالتزام بكل هذه السلوكيات الشخصية فما بالك بمراقبتها، فتضيع هيبة القانون، ويصبح تدخله انتقائياً وشكلياً، ويتفشى الفساد لأن القانون في غاية الصرامة وصولاً لدرجة لا يمكن عندها تطبيقه.
وليس من الطبيعي أن يكون البشر نفسهم نسخة مكررة من بعضهم البعض في عاداتهم الشخصية أو سلوكياتهم الخاصة، فالله خلقهم متباينين، وفي تباينهم من ذكور وإناث، صناع وبنائين، زراع ورعاة ومعلمين، تكمن قدرتهم على البقاء وبناء حضارات عظيمة، وفي تنوع مشاربهم وشخصياتهم ثراء وقوة، ولو تشابهوا جميعاً لهلكوا بعد جيل واحد. فتجاهل هذه الاختلافات بوضع قوانين ترغم الناس في الدخول في قوالب مكررة ضد الطبيعة ولابد وأن يفشل تطبيقه، أو يتسبب في ضعف المناعة الحضارية لمن يحاولون فرض تطبيقه بالقوة، فينقرضون وتذهب سيرتهم مع رياح النسيان.
فوجود القيود الإضافية في أحد الديانات على الأزياء مثلاً أو السلوكيات الشخصية، لا يتعارض مع خلو نصوص القانون من مثل هذا القيود الخاصة، لأنها قيود يمكن لأي شخص أن يلزم نفسه بها طوعاً، دون أن يرهق الآخرين بأن يلتزموا بذلك، وهذه هي فكرة اتفاق الحد الأدنى، التي تكفل حرية الأفراد فيما لا يسبب الضرر للآخرين.
No comments:
Post a Comment