مشكلة البقاء: العدو داخل الأسوار
رأينا كيف أدى الانتخاب العكسي أو المقلوب إلى تلويث قيم المجتمع وسيادة مبدأ البقاء للأفسد، وهو عكس المبدأ الطبيعي – البقاء للأصلح، وأن ما ينتج عن ذلك هو أن نفشل في تحقيق التطور الطبيعي فنتدهور بينما يتقدم من حولنا، ورأينا كيف استفحلت المشكلة على كل المستويات وفي كافة المؤسسات وليس فقط في المجال السياسي. وفي ضوء التنافس المستمر مع المجتمعات والأمم الأخرى، نخوض نحن معركة خاسرة مقدماً، بينما تقودنا نخبة مضروبة - تضم أسوأ عناصر المجتمع - نحو هزائم وأصفار حتمية، مع تفشي حالات الفشل العام والخاص.
وبما أننا نتبنى منهج محاكاة الطبيعة البيولوجية في التحليل، اسمحوا لي أن أستعير فكرة الجينات أو DNA الذي يتحكم في خصائص الكائنات الحية، ويحمل الشفرة الوراثية لكل فصيل بكل ما تعلمته الأجيال السابقة من دروس التواءم مع البيئة من أجل البقاء. الثقافة بالنسبة للأمم والشعوب والحضارات، مثل الـ DNA بالنسبة للفصائل الحية. وعندما أقول الثقافة Culture هنا، فأنا لا أقصد المعنى الذي يدل على الآداب والفنون والعلوم، بل أتحدث عن المفهوم الأنثروبولجي للثقافة، وهو أقرب لفكرة "طريقة الحياة"، حيث تشير الثقافة طبقاً لهذا التعريف، إلى مجموعة القيم والسلوكيات، والعادات والتقاليد، ونظم التفاعل الاجتماعي، التي يطورها ويتبناها مجتمع ما - باعتبارها تحمل في طياتها الحل الجماعي لمشكلة البقاء – بقاء المجتمع أو الجماعة أو الأمة.
هل لدينا مشكلة في البقاء؟ لعل الأمة المصرية من الأمم التي حباها الله بقدرة متميزة على البقاء رغم كل شيء. مر عليها المحتلون والغاصبون والجباة والبلطجية والمستبدون من كل ملة، وصمدت في امتحان البقاء. ولكن اليوم، يشعر البعض – أو الكثيرون – منا بصورة غريزية بحلول أو قرب حلول مشكلة ضخمة تهدد بقاءنا بصورة خطيرة. الدليل على هذا نراه في الأبحاث التي تشير إلى أن نسبة ضخمة من المصريين يفكرون في الهجرة بصورة أو بأخرى، ونراه في أنفسنا وفي كيف ينظر كل منا لنفسه وغده وأبنائه بقلق متزايد. لا أتحدث هنا فقط عن نزاعات حوض النيل – ومصر هي هبة النيل – وما يمكن أن تؤدي إليه، أو عن خطر أن ينفجر الشريط الأخضر الضيق بنا وبمن نحب تحت وطأة النمو السكاني والازدحام العشوائي فتتحول مصر لمقبرة بحجم الدولة، فكل هذه المصائب والكوارث هي في الحقيقة أعراض للكارثة الحقيقية، وهي أن ثقافتنا – طريقة حياتنا – منظومة القيم التي تتحكم في سلوكياتنا وعاداتنا وتقاليدنا ونظمنا ومؤسساتنا، لم تعد مناسبة لتحديات البيئة التي تحتضننا.
في لحظة مصارحة مع النفس، لابد أن ندرك أن مستقبل أولادنا محاط بتهديدات تبدو خارجية، لكن منبعها في الحقيقة داخل كل منا. الخطر يدق على الأبواب، ولكن العدو داخل الأسوار.
أبناؤنا يسافرون إلى الخارج فليتحقون بمنظومات سوية، يبدعون فيها ويتميزون وينجحون، رغم أن هروبهم من مصر علامة على أنهم لم يستطيعوا النجاح في الوطن. ملايين المصريين الآن يتبنون الحل الفردي، سواء بالهجرة أو بالسكن في مستعمرة مخلقة عالية الأسوار، غريبة عن البيئة المحيطة بها. على قدر نجاحنا في الحل الفردي، لم نجرب الحل الجماعي. أن نعمل على تغيير هذا الوضع المتردي معاً. وهو لن يتغير إلا إذا عملنا معاً على تغييره.
أتذكر تجارب كثيرة، عندما يختلف السكان في إحدى العمارات على المشاركة في المنافع العامة، صيانة العقار والمصاعد، كهرباء ونظافة السلم، وغيرها من أشياء بسيطة، وتتفاقم المشكلة، فتصطخب العمارة بالزبالة والقذارة، وتتدهور حالة المصاعد والمنافع العامة، وبينما يجتهد كل ساكن في تجميل شقته من الداخل، لا يمكن أن ينفصل عن المرافق المشتركة التي تحدد في النهاية جودة الحياة في هذه العمارة.
هذا هو الوضع الحالي، تسرب الفساد لأساس البناء، امتلأت طرقات وممرات العمارة بالزبالة والقوارض والحشرات، تدهورت أحوال البنية الأساسية الدستورية والإدارية والتشريعية في مصر، عجز الموهوبون عن العمل والكسب، وضعنا العوائق أمام المتميزين ليتقدمنا الفسدة، فأصبح البناء على وشك السقوط، بينما ينشغل كل منا بالتخطيط لشركته أو مؤسسته أو بيته، غير مدرك أن تدهور الوضع العام ينذر بكارثة ستنعكس – أو انعكست بالفعل - على الوضع الخاص لكل منا.
نحتاج لأن نغير بسرعة من هذا الوضع المأساوي. نحتاج لأن يصبح كل منا هو التغيير الذي ننشده. لابد أن نستعدل الأوضاع المقلوبة، أن نعمل على تقويم أو إسقاط أو مقاطعة المؤسسات التي تعمل بطريقة الانتخاب العكسي.
نحتاج أن نحترم وندعم التغيير والتطور الذي هو منهج الكون. أن نحترم الانتخاب الطبيعي الذي هو طبيعة الحياة. أن نعلم أن للسن أحكام، وأن صبغ الشعر وشد الجلد لا يدير عقارب الساعة للوراء. أن رتوش الفوتوشوب والتزييف والتزوير لأي صورة لا يغير الواقع. قد نخدع البعض باصطناع خبر أو صورة، لكننا لن نتقدم في الواقع الملموس بمجرد ترويش الصورة على طريقة سرايا التعبيرية. لابد أن نعلم أن الإنسان هو مصدر الإبداع والثروة. وأن الموهوب هو عملة نادرة يجب أن نحافظ عليها ونستفيد من قيمتها. لابد أن ندفع بالموهوب والعامل والمتميز لأعلى المراكز في المجتمع، ليصبح هؤلاء هم النخبة الطبيعية، فهذا ما يحمينا ويضمن مستقبل أحبائنا.
تتحدث الأم فتقول: إن كنت تبحث عن الكنز، أنا أدلك على مكانه: في قلب كل واحد من أولادي وفي ساعديه وفي رأسه. إذا جعلت قلبه حزيناً، وقيدت ذراعيه بالسلاسل، ووطأت رأسه بحذائك، فلا تشكو من الفاقة وسوء المآل.
وائل نوارة
Wael_Nawara@Hotmail.com
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=270388&IssueID=1900
No comments:
Post a Comment