الانتخاب العكسي: 2
البقاء للأفسد
مبدأ الانتخاب الطبيعي يقتضي أن يختار المجتمع أصلح عناصره – في كل منظمة ومحفل ومؤسسة سواء حكومية أم خاصة، تجارية أم صناعية أم خدمية – لتشكل هذه العناصر المتميزة النخبة التي تقود حركة المجتمع في صراعه وتنافسه الدائم مع الأمم الأخرى لضمان البقاء والازدهار.
أما عندما يختلط العام والخاص، ويتجاهل المجتمع فكرة التغيير والتطور، وتستشري المحاباة على حساب المصلحة العامة، ويحسب كل مسئول أن الوزارة أو الكلية أو المؤسسة أو الدولة التي يديرها هي عزبة خاصة، يستحق أن يجلس على سدتها حتى آخر نفس، ولا يكتفي بذلك بل يطمع في توريثها لأبنائه من بعده، عندها تصبح الكفاءة والموهبة نقمة على أصحابها، ويصبح الهم الأكبر للمسئولين هو دفن أو تطفيش أصحاب المواهب، ويطرد المجتمع ككل أفضل عناصره لصالح تكريس الواقع ومنع الارتقاء الداخلي للعناصر الأصلح، وتستشري الضحالة والسطحية والسماجة، واللي ماشي حاله، والنص- نص، واللي مش أوي Mediocrity لتحل محل الموهبة والتميز في تبوأ مقاعد النخبة، ومع منع الموهوبين والمتميزين من الصعود لأعلى لا يصبح أمامهم من سبيل سوى التحرك أفقياً للخروج من المنظومة – بالهجرة مثلاً – والالتحاق بمنظومة أخرى تسمح لهم بالصعود لأعلى، مثل فقاعات الغاز التي تجد طريقها إلى سطح الماء في النهاية بصرف النظر عن العوائق التي تقف في طريقها. ومع هجرة النخبة الطبيعية، تنضم لمنظومة مجتمع آخر منافس، فتزداد الهوة النسبية بين المجتمع الطارد والمجتمعات الأخرى.
ومع تمدد مواسير شبكة الفساد وتوصيل الفساد إجبارياً لكل مدينة وقرية ومصلحة ومؤسسة ومنزل، تتطور الأمور – أو تتدهور – ليصبح معيار الانتخاب لأعلى ليس فقط هو الولاء والنص نص أو حتى الضعف، بل أيضاً المشاركة في الفساد والتواطؤ مع المفسدين والموالسة لهم، ويصر شيوخ المنسر على انتخاب العناصر الفاسدة المتورطة "للركب" في مجاري الشبكة، حتى يطمئنوا على قدراتها في التفاسد والمفاسدة والإفساد، مع إمكانية إزاحة تلك العناصر عند اللزوم بإظهار بلاويها المستخبية وإبراز "ملفاتها السوداء المتضخمة"، ويصبح التنافس ليس في الإبداع أو الإنتاج، بل في التزوير والنفاق والتزييف والفساد والإفساد والهبر، ويصبح البقاء للأفسد.
يضعف المجتمع ككل، وتنهار قوته التنافسية في الصراع الدائم مع الأمم الأخرى، وتحل التصفية البشرية مكان التنمية البشرية، ويفقد المجتمع أغلى عناصره، الموهبة الإنسانية الخلاقة التي هي مصدر الإبداع والقيمة المضافة في أية منظومة في المجتمع. ولكن أسوأ ما يصيب المجتمع هو ترسيخ مجموعة من القيم المعكوسة لتحل محل القيم الطبيعية، فالفساد وليس الأمانة يصبح هو مفتاح الترقي، والنفاق والجبن وليس الصدق والشجاعة يصبحان السبيل إلى الصعود، والضحالة وليس العمق والتميز تصبح هي معيار الاختيار. فعندما تكون المكافأة على قدر النفاق الإعلامي، فمن الطبيعي أن من يترقى لأعلى المناصب الإعلامية يكون هو أكبر المنافقين، ونظرة واحدة على الصحف "القومية" وأسماء القائمين عليها تصيبك بالذعر، وكذلك عندما يكون الهدف هو تزييف الانتخابات والعملية السياسية ككل لتكريس سيطرة نظام ما على الحكم لأطول فترة ممكنة، فمن الطبيعي أن الذي يصل لأعلى المناصب هو أعتى المجرمين في التزوير والبلطجة، محاطاً بحاشيته من البصاصين والمتخصصين في شراء الأصوات والذمم والتلاعب في العملية السياسية واختراق الجامعات والنقابات والصحف والجمعيات والأحزاب. ما هو الدرس الذي يعطيه هذا لأفراد المجتمع وللأجيال القادمة؟ أن الكذب والنفاق، والتزوير والتزييف، والاختلاس وسوء استغلال السلطة وهبر أراضي الدولة ومؤسساتها، هي القيم التي يجب أن يتحلى بها الشاب الشاطر الذي يبتغي النجاح، فمع فساد أهداف المجتمع، تفسد عملية الانتخاب الطبيعي لتعكس هذا الفساد، ويظهر الانتخاب العكسي، ومن هنا يتضح أن الفساد لا يقتصر على الرشوة أو المحسوبية أو غيرها من المظاهر الساذجة، بل إن الفساد يتسع ليضرب جذوره في أعماق المجتمع ملوثاً ضمير الأمة، ليشوه القيم والسلوكيات والأهداف والمرجعيات، والنفوس والممارسات، ويفسد طبيعة التعاملات ومنطق الأشياء والقوانين التي تحكم نتائج التفاعلات الاجتماعية.
هذا هو منطق الانتخاب العكسي، فبدلاً من أن يسود المجتمع منطق البقاء للأصلح، ينقلب منطق الحياة ليصبح البقاء للأفسد، والصعود والترقي للأفسد، وهكذا. وبالتالي، بدلاً من أن يتطور المجتمع طبقاً للقوانين الطبيعية، يتدهور ويتراجع للوراء في كل المجالات، ومهما حاول أي شخص أن ينظف شقته من الداخل، فما دامت بسطة المنزل المشتركة تصخب بالزبالة، فلا يمكن الهروب من القذارة والعطانة والمرض والفشل العام.
من هنا نكتشف أن مبدأ الانتخاب ليس مجرد آلية سياسية، يمكن أن نتنازل عنها مجاملة لحاكم أب أو ابن، بل هو مبدأ فرضته قوانين الطبيعة، وعندما نقف في وجه الطبيعة، ونختار أن تحل المحاباة (المشتقة فساداً من الحب) محل الانتخاب الطبيعي، نضر أنفسنا وأبناءنا وجميع من نحب، لأنه في ظل وجود صراع وتنافس دائم بين الأمم اقتصادياً وتقنياً وثقافياً وسياسياً، نخوض نحن معركة خاسرة مقدماً، بينما تقودنا أسوأ وأفسد عناصر المجتمع نحو الهزيمة الحتمية، ولا يجب عندها أن نندهش عندما تنهمر علينا الأصفار والكوارث والهزائم وحالات الفشل العام والخاص.
والآن: هل من سبيل للخلاص من هذه اللعنة وكسر هذه الدائرة الحلزونية الهابطة؟
وائل نوارة
المصري اليوم 6 سبتمبر 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/13765
No comments:
Post a Comment