في كل بلدان العالم، الإنسان هو مصدر الثروة والقيمة المضافة. وبالتالي، فإن الاهتمام بقضية وعلوم التنمية البشرية لا تضاهيه أية أولوية ولا يعلو عليه أي صوت، حتى صوت المعركة، لأن الإنسان أيضاً هو الذي يستطيع أن يحقق النصر في المعارك، هذا بفرض أن النصر هو الهدف. طبعاً هناك استثناء لكل قاعدة. ونظراً لخصوصيتنا الثقافية وظروفنا التي تختلف عن كل بلدان العالم، فقد ابتكرنا علماً جديداً وبرعنا في تقنياته التطبيقية لدرجة مفزعة، ألا وهو علم التصفية البشرية.
هناك، في دول العالم الأخرى المختلفة عنا، تسمع مقولات وحكم فارغة مثل "الرجل المناسب في المكان المناسب"، و"تمكين الإنسان"، و"احتضان المواهب"، وغيرها من الترهات التافهة والتي لا تضمن الولاء، ولا تكفل الخلود في مقاعد الحكم، ولا تساعد على تجميد الواقع الجميل الذي لابد أن نحرص عليه.
أما هنا، فلدينا الحكم الحقيقية الراسخة، مثل "ذكاء المرء يحسب عليه"، و"الرجل المناسب يأتي بواسطة من الرجل المناسب"، و"القهر يولد الطاعة"، و"الشعب لابد أن يُضرب على دماغه"، و"الخلود هو سنة الحياة"، و"اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش"، و"الملف الأسود ينفع يوم العصيان"، مما أدى "لاحتضار المواهب"، و"تمكين أهل الثقة والولاء"، وهجرة المهارات والعقول، وتفشي الإحساس بالظلم والمعاناة من الاكتئاب، وتدهور كل أوجه الحياة، والحمد لله على كل حال.
ونتيجة للتمسك بالسلطة والكراسي الذي نراه في كل مجالات الحياة من صحافة وإعلام ووزارات وهيئات وحكومات، فقد سادت ثقافة مقاومة التغيير بصورة مرضية، حتى أصبح لفظ "التغيير" من الألفاظ القبيحة التي لا يجب التفوه بها باعتبارها سُبة بذيئة وغريبة عن تقاليدنا الأصيلة، وليس أدل على ذلك من اللاءات الثلاثة التي أسعدنا بها المؤتمر الأخير.
ولترسيخ التجميد ومقاومة التغيير، استخدمت النخبة الحاكمة مجموعة من السياسات التلقائية من الإخصاء والإقصاء، والتعقيم والتقليم، والتشكيل والتنكيل، والطرد العكسي والإعدام المعنوي، لضمان تشكيل أجيال تتميز بالمسايرة والامتثال والطاعة والخضوع.
ويأتي الإخصاء بضرب كل من يجرؤ على الاعتراض بصورة تهدد حالة التجميد، بينما ينتشر التقليم للبراعم التي يشي نشاطها المحدود بإمكانية أن تخرج عن الطوع يوماً ما، ثم يأتي التعقيم لتطهير البيئة من أية أفكار أو سلوكيات تدعو للتغيير وتهدد بقاء الأحوال على ما هي عليه. وبالإضافة لأجهزة للرقابة، فقد نجح النظام في غرس مفاهيم الرقابة الداخلية في كل مسئول سواء عن مؤسسة إعلامية أو أكاديمية أو ثقافية، فنجد هؤلاء المسئولين يقومون بالحذف التلقائي لأية أفكار أو عبارات قد تهدد بقاء الوضع على ما هو عليه، فتعطل المسيرة المهنية لأي كاتب أو باحث أو عالم يشتبه في عدم توافق اتجاهاته مع رغبات "المؤسسة".
وتأتي السياسات التعليمية والإعلامية لترسخ تشكيل أفراد المجتمع في قوالب محددة يتعلمون من خلالها أن هناك حدوداً لا يمكن تخطيها حتى في التفكير، فتجد الواحد من هؤلاء إن اشتط في فكره "استعاذ بالله من الشيطان الرجيم"، وتذكر أولاده أو أسر العاملين لديه، بل أن القلم نفسه قد يصيبه شلل رعاش حينما يقترب من التعبير عن الأفكار المخالفة لمبادئ المسايرة والامتثال. وخطورة التشكيل هو أنه يقضي على أجيال بكاملها ويقهرها من الداخل، ويلغي لديها القدرة على التفكير الحر والإبداع، ومن هنا نجد أن المناهج التعليمية ترسخ النفاق والاستظهار والحفظ، ومسايرة الوضع العام والتهليل للحكام والإنجازات التي لا تحدث على أرض الواقع، بينما نجد الصفحات الأولى في الصحف تقوم أيضاً بدورها في عملية غسيل المخ اللازمة لتشكيل أجيال مغيبة عن الوعي وغير قادرة على اكتشاف البديل، فيصبح الواقع المُر بالنسبة لها وكأنه قدر محتوم لا يمكن الفكاك منه.
أما ما يتعلق بعملية الإقصاء أو الطرد العكسي، فنجد أنها تعمل عكس آليات الانتخاب الطبيعي. والأخيرة هي خاصية من خصائص التطور البيولوجي والمجتمعي – وهي نفس فكرة البقاء للأصلح. وقد أدت سياسة تجميد "المؤسسة" ومحاربة التغيير وتكريس الأوضاع على ما هي عليه واتباع سياسات الإخصاء والتعقيم والتشكيل والإقصاء إلى بزوغ هذه الظاهرة الفريدة التي تعمل بمثابة "الانتخاب المقلوب"، فالمجتمع يطرد أفضل عناصره لصالح تكريس الواقع ومنع الارتقاء الداخلي للعناصر الأفضل، ومع منع تلك العناصر من الصعود لأعلى لا يصبح أمامها من سبيل سوى التحرك أفقياً للخروج من المنظومة والالتحاق بمنظومة أخرى تسمح لها بالصعود لأعلى، مثل فقاعات الغاز التي تحاول أن تجد طريقها إلى سطح الماء، وفي حالات أخرى، تعمل هذه العناصر المقهورة على هدم المجتمع ومحاربة النجاح.
وفي مثل هذه البيئة الفاسدة فإن معيار الانتخاب لأعلى ليس فقط هو الولاء، بل أيضاً الضعف واختيار العناصر الفاسدة التي يمكن إزاحتها عند اللزوم بإبراز "ملفات سوداء"، ثم استخدام إعلام الدولة في عمليات الإعدام المعنوي. وبالتالي فلا تسمح الطبقات العليا بصعود عناصر قادرة على إزاحتها فتحاربها وتطردها من المنظومة، وهذه ظاهرة خطيرة بدأت أول ما بدأت في رفض التغيير والرغبة في الخلود في المقاعد، والتي نجدها حولنا في كل مؤسسات الدولة، فجاءت نتيجتها المؤسفة في تفشي ظاهرة الانتخاب المقلوب، التي تغربل المجتمع لتسمح فقط لعناصر ذات قدرات محدودة في الارتقاء لأعلى، مما يضعف المجتمع ككل فضلاً عن أنه يهدم مبادئ العدالة ويحارب طبيعة الأشياء، وهذا ما نسميه بالتصفية البشرية كبديل عن التنمية البشرية.
فعندما يكون المطلوب هو النفاق الإعلامي، فمن الطبيعي أن من يصل لأعلى المناصب الإعلامية يكون هو أكبر المنافقين، وعندما يكون الهدف هو تزييف الانتخابات لتكريس سيطرة حزب ما على الحكم لأطول فترة ممكنة، فمن الطبيعي أن الذي يصل لأعلى المناصب الحزبية هو أعظم المزيفين ... وهكذا.
مع فساد الأهداف تفسد عملية الانتخاب الطبيعي لتعكس هذا الفساد، ومن هنا يظهر أن الفساد لا يقتصر على الرشوة أو المحسوبية أو غيرهما من الظواهر التقليدية، بل إن الفساد يتسع ليضرب جذوره في أعماق المجتمع ويلوث ضمير الأمة، ويفسد طبيعة التعاملات ومنطق الأشياء، ويشوه القيم والسلوكيات، والأهداف والمرجعيات، والنفوس والممارسات.
كيف وصلنا لهذه الحالة؟ والأهم، كيف نخرج منها؟ هذا ما يتعين علينا أن نحاول بحثه في مقالات قادمة بإذن الله.
*****
وائل نوارة
نشرت في
المصري اليوم
16 أكتوبر
2004
No comments:
Post a Comment