لقد شمل التوجيه الاستراتيجي الصادر من الرئيس السادات في أول أكتوبر 1973، على أهداف سيكولوجية وسلوكية هامة، فكان مطلوباً ومتوقعاً من الحرب أن تحدث "هزة" و"صدمة" داخل المجتمع الإسرائيلي والفكر الإسرائيلي، حتى يبدأ العدو في "تغيير سلوكه العدواني"، وهو ما حدث بالفعل وأدى لإمكانية بدء مسيرة السلام كخيار استراتيجي.
رد الفعل الإسرائيلي:
كانت ثقة الإسرائيليين كبيرة جدا في التفوق النوعي بل والكمي للجيش الإسرائيلي وسلاحه الجوي والأسلحة الأمريكية الحديثة، التي كانت تتدفق على الترسانة الإسرائيلية بصورة منتظمة. كما اطمأن الإسرائيليون لمنعة تحصيناتهم التي أقاموها علي الضفة الشرقية للقناة وعلي رأسها خط بارليف. وكانت نظرية الحدود الآمنة تصور لهم أن قناة السويس وهي أصعب مانع مائي في العالم، تجعل مهمة المصريين مستحيلة في العبور، أما إذا حاولوا العبور، فإن مواسير الغاز كانت كفيلة بإشعال سطح القناة على طول خط المواجهة وتلقين المصريين درساً لا ينسى. ولعل طبيعة عمليات الجيش المصري خلال حرب الاستنزاف، صورت لهم أن المصريين، سوف يقومون بعمليات كوماندوز محدودة على أفضل تقدير، فجاءت المفاجأة الاستراتيجية بعبور خمس فرق كاملة في الساعات الأولى للقتال وعلى طول خط المواجهة كفيلة لأن يفقد العدو اتزانه.
كما استبعد العدو تماماً نية مصر في خوض الحرب في ذلك التوقيت، خاصة بعد ما فعله السادات في مايو و أغسطس عام 1973 عندما أمر المشير أحمد إسماعيل بتحريك القوات المصرية حتى خط القناة ثم إعادتها لمواقعها مرة أخري، كجزء من خطة الخداع الاستراتيجي ، مما جعل إسرائيل في كل من هذين التوقيتين تعتقد أن السادات ينوي الحرب فتعلن التعبئة العامة، و تتكلف عشرة ملايين دولار في كل مرة بلا جدوى. فلما جاء يوم 6 من أكتوبر ظن الإسرائيليون في البداية أن السادات غير جاد مثلما حدث في المرتين السابقتين.
وعندما بدأ الهجوم المصري والسوري بعد ظهر يوم 6 من أكتوبر، ورغم المفاجأة الكبيرة التي هزت الإسرائيليين، إلا أن معظمهم كانوا متفائلين معتقدين أن بإمكانهم دحر الهجوم بكل سهولة، وأنهم سيتمكنون بسرعة من طحن عظام المصريين والسوريين، بيد أن موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي كان له رأي آخر، ففي اجتماع مجلس الوزراء الذي تم مساء اليوم الأول للقتال، اقترح ديان الانسحاب إلي خط ثان، والقتال ضد المصريين في نطاق 12 ميل من القناة مبديا شكوكه في قدرة القوات الإسرائيلية علي عرقلة عبور الجيش المصري قبل وصول الاحتياطي إلي الجبهات والذي قد يستغرق من 24 إلي 36 ساعة، ولكن أعضاء مجلس الوزراء لم يقتنعوا بهذا الرأي.
إسرائيل في خطر:
وفي اليوم الثاني للقتال يوم 7 من أكتوبر، وأثناء عودة ديان من مقر قيادة الجبهة الجنوبية (سيناء) بعد استعراضه للموقف مع قائدها الجنرال (جونين)، كان ديان قد أصبح محطما منهارا حتى أنه وصف رحلة طيرانه عائدا من هناك قائلا: "لا أتذكر لحظة في الماضي شعرت فيها بالقلق الذي شعرت به الآن … فلو أنني كنت أعاني جسمانياً، وأواجه الخطر شخصياً لكان الأمر أهون، أما الآن فثمة شعور آخر ينتابني … إن إسرائيل في خطر".
يوم الفشل العام
وفي مساء ذلك اليوم عندما اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي لمناقشة تطورات الموقف، كان ديان لا يزال مصمما علي رأيه بوجوب ترك خط القناة والبدء في تنظيم القوات الإسرائيلية علي خط جديد ولكن المجلس انتقد هذا الرأي للمرة الثانية وعدوه ضعفا وتشاؤما مبالغا فيه من قبل ديان، بالرغم من اعتراف رئيس الأركان الإسرائيلي اليعازر بفقدان إسرائيل للسيطرة علي الموقف وبالرغم من أن الذعر كان قد بدأ يعم الإسرائيليين خصوصا مع بدء وصول سيارات الإسعاف حاملة الجرحى الإسرائيليين من الجبهتين المصرية والسورية.
وفي اليوم الثالث من القتال يوم 8 من أكتوبر1973 –يوم الفشل العظيم كما وصفه ديان– شنت إسرائيل هجوماً مضاداً كان الغرض منه سحق القوات التي عبرت القناة، و حدث اشتباك فعلي بالدبابات، إلا أن هذا الهجوم باء بالفشل الذريع، وفي نهاية اليوم كانت إسرائيل قد فقدت أكثر من ثلث سلاح طيرانها علي الجبهتين المصرية والسورية مع خيرة طياريها المدربين. فقد كانت هذه هي بداية الهزيمة لإسرائيل، فكما جاء في اعتراف عساف ياجوري قائد اللواء 190 المدرع الإسرائيلي، والذي كان مقررا له أن يقوم بدور رأس الحربة، ويصل للقناة ويفصل القوات المصرية عن بعضها، إلا أنه بعد ثلث ساعة فقط من بدء المعركة أبيدت جميع دباباته وعددها أكثر من 115 ،مما أصاب عساف ياجوري بانهيار عصبي وهو يسلم نفسه للقوات المصرية.وبعد عودته من الأسر بعد انتهاء الحرب، كتب مقالا في جريدة معارييف وصف فيه يوم 8 من أكتوبر بأنه دخل التاريخ تحت اسم "الاثنين الأسود في إسرائيل"، وبأنه "يوم الدم وخيبة الأمل والألم العظيم "،
كما قال ديان واصفا هذا اليوم بأنه :"انقضى مخلفا في أعقابه خيبه أمل كبيرة، و خسائر جسيمة، و تقهقرا"، وهو الذي كان كثيرا ما يدعي بأن: "الجبهة المصرية لاتستحق من جهد جيش إسرائيل أكثر من 60 دقيقة" معبرا عن ثقته في الجيش الإسرائيلي، كما أنه كان يعبر عن ثقته في عدم قدرة مصر علي دخول الحرب قائلا: "إن مصر لن تحارب قبل عشر سنوات ، إذا هي فكرت في الحرب فعلا".
وبعد التأكد من فشل الهجوم المضاد، عم الذعر والفزع أرجاء إسرائيل، وفقد قادتها الاتزان تماما، كما فقدوا القدرة علي اتخاذ قرارات أو إجراءات سليمة، فلجئوا كالعادة إلي الولايات المتحدة الأمريكية !
لم تتوقف الولايات المتحدة عن دعم إسرائيل منذ اليوم الأول للقتال، وقام كيسنجر بصفته مستشار الأمن الأمريكي و وزير الخارجية بتنسيق الجهود الدبلوماسية الأمريكية أثناء الحرب- كان كيسنجر يعد رجل إسرائيل الأول في الإدارة الأمريكية نظرا لكونه يهوديا- و لم يكن كيسنجر يتوقع أن تقوم مصر وسوريا بالهجوم نظرا لمعرفته أنهما لا تمتلكان المعدات اللازمة، أو الإمكانيات الحربية اللازمة.
كان كيسنجر قد عرض علي أبا إيبان يوم 4 من أكتوبر أي قبل الحرب بيومين أن يحاول التفاوض مع مصر حول سيناء، فكان رد إيبان: "ولماذا نقدم حلولا؟ … سنبقي علي ضفة القناة للخمسين سنة القادمة. ومصر لا قيمة لها . ولن تستطيع مواجهتنا في يوم من الأيام". ولقد حدث أن استطاعت مصر مواجهة الجيش الإسرائيلي بعد هذا الحوار بيومين في يوم 6 من أكتوبر، حينما حدث الهجوم المصري، مما دفع أبا إيبان لأن يفقد عجرفته ويبادر بالاتصال مذعورا بكيسنجر مبلغا إياه الخبر قائلا: "لقد هجمت مصر وسوريا … أرجوك الاتصال بالرئيس نيكسون".
و كانت مسئولية كيسنجر صعبة، حيث كان عليه مواجهة عدد من المطالب التي تبدو متناقضة كما جاء علي لسانه: "علينا تأمين بقاء إسرائيل، وعلينا في الوقت ذاته المحافظة علي علاقاتنا بالدول العربية المعتدلة كالأردن مثلا، والمملكة العربية السعودية " . ثم حدث الانهيار الذي أصاب إسرائيل بعد فشل هجومها المضاد الذي تم في اليوم الثالث و أدرك كيسنجر هذا مما جعله يقول لجولدا مائير في اليوم الرابع للحرب: "لقد خسرت الحرب، و يجب أن تعدي نفسك لهذا".
انقذوا إسرائيل
كان الذعر الشديد قد انتاب جولدا، ودفعها لأن تطلب من كيسنجر السماح لها بالذهاب إلي الولايات المتحدة بنفسها، لتطلب إمداد إسرائيل المعدات والأسلحة الحربية، لمنع زيادة تدهور الموقف، إلا أن كيسنجر رفض مغادرتها البلاد، حتى لا يزيد الفزع والذعر العام في إسرائيل Panic . وعندها قالت جولدا لقادة جيوشها: "افعلوا أي شيء، فنحن علي الجبهة المصرية قد وصلنا إلي الحضيض".
و لمنع استمرار تدهور أوضاع إسرائيل في الحرب، قامت الولايات المتحدة بإنشاء جسر جوي لإمداد إسرائيل بالأسلحة والمعدات، مستخدمة طائرات النقل العسكرية الأمريكية لنقل ما تحتاجه إسرائيل من المستودعات الأمريكية إلي إسرائيل، و لو لم يحدث هذا لاضطرت إسرائيل للتخلي عن أراضٍ محتلة أكثر.
فقد صرح الجنرال الأمريكي أيفيل بانجر عقب انتهاء الحرب: "إن إسرائيل بقيت كدولة لأننا لم نخنها. فبدون الأسلحة والنفاثات الأمريكية كان محتوما أن تفني إسرائيل". كماأعترف الجنرال إليعازر (رئيس أركان الجيش الإسرائيلي) باعتقاده أن مصر وسوريا كان باستطاعتهما إن يصلا لأبعد مما يتصوره أي إسرائيلي، لو لم تصل إليهم الإمدادات الأمريكية بتلك الصورة السريعة والمكثفة. والمفارقة هي أن إليعازر كان كثيرا ما يباهي باليد الطولي للجيش الإسرائيلي والتي تستطيع أن تمتد في لحظات إلي أي موقع في الأراضي العربية، ثم تتحول إلي قبضة قوية تضرب بلا رحمة!
محاكمة الجنرالات - لجنة إجرانات
وبعد الإنتصار الذي حققه الجيش المصري في الحرب. وبعد الهزيمة التي لحقت بجيش إسرائيل الذي لا يهزم! اختلف الجنرالات في إسرائيل حيث حاول كل منهم أن ينفي مسئوليته عن الهزيمة ملقياً الذنب علي الأخريين. فتم تشكيل لجنة للتحقيق في مسئوليات الهزيمة عرفت باسم (لجنة أجرانات) والتي تضمن تقريرها المبدئي إدانة كاملة للجنرال دافيد إليعازر واتهمته بأنه تقاعس عن بذل أي جهد حقيقي لكي يستخلص استنتاجاً سليماً للموقف كقائد عسكري. إلا أن اللجنة دافعت عن موشي ديان لأسباب سياسية، وقالت أنه زار جبهة الجولان قبل نشوب القتال بأسبوع، ودعا إلى إرسال تعزيزات للمواقع. وقامت إسرائيل بطرد رئيس الأركان ورئيس المخابرات العسكرية وقائد الجبهة الجنوبية. إلا أن الشعب الإسرائيلي طالب بمزيد من الإدانات. وأخذ كل جنرال يهاجم الآخرين فيما عرف باسم حرب الجنرالات.
باسم الجنود الذين احترقوا أحياء في دباباتهم
وهكذا انهارت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم وأسطورة خط بارليف المنيع والذي كان مصممه - الجنرال حاييم بارليف - يقول في مارس عام 1972: "أقول باختصار… إذا استأنفت مصر القتال فإن إسرائيل لن تخسر موقعا واحدا". قالها بكل غرور متأكدا من قوة خط بارليف الذي صممه. وجاءت هزيمة إسرائيل في أكتوبر 1937 لتمحو غرور الإسرائيليين الذي نتج عن نصرهم في 1967 وبدلا من أغاني النصر التي كانت تذيعها الإذاعة في إسرائيل حلت مكانها أغنية تلاحق الإسرائيليين ليل نهار في الإذاعة تقول كلماتها: "باسم الجنود الذين احترقوا أحياء في دباباتهم … باسم الطيارين الذين هبطوا والنيران مشتعلة في أجسادهم … أعدك يا صغيرتي العزيزة أن هذه الحرب ستكون الأخيرة … نعم الأخيرة … الأخيرة … الأخيرة".
آخر الحروب؟
وهذا التحول الذي حدث في العقلية الإسرائيلية، كان من أهم أهداف حرب أكتوبر ، وقد استمر الرئيس السادات في استراتيجيته القائمة على تغيير تفكير العدو بالصدمات التراكمية، عندما ذهب في زيارته التاريخية إلى القدس ووجه خطابه للشعب الإسرائيلي واليهود في كافة أنحاء العالم، بل والرأي العام العالمي بأجمعه، واستثمر السادات الصدمة التي أحدثتها حرب أكتوبر حينما "تمنى" في مبادرة السلام أن تكون حرب أكتوبر هي آخر الحروب حتى تتفرغ الشعوب للتنمية.
**************
من برنامج
أكتوبر
نقطة التحول في الصراع العربي الإسرائيلي
الناشر
Horizon Studios
Ministry of Defense, Military Researches Authority
No comments:
Post a Comment