العبور
ساعة الصفر والعبور:
بناء على الدراسة التي قامت بها هيئة العمليات بقيادة اللواء الجمسي، كانت هناك 3 مجموعات من التوقيتات المناسبة للعبور بما يحقق أفضل ظروف مواتية لعبور قواتنا ونجاحها في تنفيذ المهام التالية للعبور، ويكون العدو في ظروف غير مواتية للقتال، وكانت أفضل الأيام كما جاء بالدراسة هو يوم 6 من أكتوبر 1973، وقرر الرئيس السادات بعد التشاور مع القادة ومع الرئيس الأسد تحديد ساعة الصفر لتكون الثانية بعد ظهر يوم السبت السادس من أكتوبر / تشرين أول 1973 م العاشر من رمضان 1393 هـ ، وعند تمامها كانت القوات التى بدأت الهجوم المصري تتألف من:
مائتين واثنتين وعشرين طائرة تقوم بالضربة الأولى على مواقع العدو الحساسة فى الجبهة المصرية من مطارات ومحطات الشوشرة ومراكز القيادة والسيطرة، ومائة طائرة تقوم بنفس العمل على الجبهة السورية.
ألفي (2000) مدفع تطلق قذائفها بكثافة نيرانية هائلة علاوة على مجموعة كبيرة من الصواريخ التكتيكية أرض-أرض، تفتح نيرانها ضد الأهداف الإسرائيلية فى حصون خط بارليف و ما خلف هذا الخط من مواقع دفاعية ووحدات المدفعية. و استمر القصف لمدة ثلاث وخمسين دقيقة، وكان معدل قصف النيران شديداَ بحيث سقط على المواقع الإسرائيلية فى الدقيقة الأولى عشرة آلاف و خمسمائة قذيفة مدفعية بمعدل مائة و خمس و سبعين دانة فى الثانية الواحدة.
ثمانية آلاف رجل ينزلون إلى قوارب المطاط لبدء الموجة الأولى للعبور. واندفع المشاة يعبرون القناة في القوارب المطاطية، وكانت القوات الخاصة قد قامت بسد مواسير الغاز التي خطط العدو لاستخدامها في إشعال سطح قناة السويس لمنع العبور. وتسلق الجنود المصريون الساتر الترابي ورفعوا علم مصر على الضفة الشرقية للقناة، وتقدموا خلف حصون خط بارليف يواجهون مدرعات العدو بالصواريخ المضادة للدبابات لمنعها من التقدم نحو القناة وإعاقة عملية العبور، وبدأت مجموعات أخرى من مقاتلينا في محاصرة نقاط خط بارليف وتطهيرها من جنود العدو والاستيلاء عليها واحداً بعد الآخر، واستخدم الجنود "قاذفات اللهب" التي تم تطويرها محلياً في تطهير مواقع خط بارليف.
وفى الوقت الذى كان يتم فيه اقتحام القناة بواسطة المشاة كانت بعض الدبابات والمركبات البرمائية تعبر البحيرات المرة.
وبدأت مجموعات من رجال سلاح المهندسين في عمل فتحات في الساتر الرملي بطريقة التجريف عن طريق مضخات مياه ذات ضغط عال، صممها المهندسون المصريون خصيصاً لهذه المهمة التي بدت مستحيلة التنفيذ باستخدام وسائل التفجير التقليدية. و تمكنوا من فتح أكثر من ستين ممرا خلال عدة ساعات وتجريف تسعين ألف متر مكعب من الرمال.
وعلى أثر تأمين رءوس الجسور بواسطة قوات الاقتحام الأولى بدأت وحدات المهندسين فى تمهيد الأرض وإعدادها لبناء الجسور العائمة، لعبور الدبابات والمدفعية والأسلحة الثقيلة، وفى الساعة العاشرة و النصف مساءً كان قد تم إنشاء ثمانية كبارى ثقيلة و أربعة كبارى خفيفة و بناء و تشغيل ثلاثين معدية وتدفقت الدبابات المصرية إلى الضفة الشرقية.
وبعد فتح الثغرات قامت الدبابات البرمائية بعبور القناة وتوغلت فى الثغرات المفتوحة.
وسارعت موجات العبور الأولى بتسلق الضفة الشرقية شديدة الميل وهم يحملون معداتهم عبر سلالم من الحبال، وبدأ فريق منهم في عمل فتحات في الأسلاك الشائكة وحقول الألغام، ثم هاجموا الدشم والسراديب المختلفة داخل النقط الدفاعية ، وقاموا بنسف أبوابها وإطلاق القنابل اليدوية عليها. وركزت المدفعية نيرانها فى العمق التكتيكى ضد الاحتياطي المدرع ومدفعية العدو، ثم اندفعت القوات للعمق التكتيكى لتسيطر على طرق الاقتراب والمواقع الحاكمة فى المنطقة.
وحاولت طائرات العدو ضرب الجسور لكن تصدت لها شبكة الدفاع الجوى وأسقطت بعضاً من هذه الطائرات "حوالى 60 طائرة إسرائيلية فى أول يومين كما ذكرت مجلة التايم الأمريكية فى عددها بتاريخ 29 من أكتوبر 1973: "أنزلت القيادة المصرية عدداً من قوات الصاعقة المغاوير بواسطة طائرات الهليوكوبتر فى مؤخرة العدو عند طرق المواصلات وقرب المطارات ومراكز القيادات والشئون الإدارية ، فأخذت هذه القوات تنصب الكمائن لتعزيزات العدو وأثارت الفوضى والاضطراب فى مؤخرته.
وفي ساعات قليلة، كانت خمس فرق مشاة قد عبرت القناة بطول خط المواجهة، واستطاع جندي المشاة المصري أن يتصدى للدبابات وحده ويمنعها من الوصول للقناة أو تهديد عملية العبور. وكان أمام المشاة حوالى ثلاثمائة دبابة إسرائيلية موزعة على طول الجبهة، وتمكنت قوات المشاة والصاعقة من تدمير حوالي مائة دبابة بمعاونة من نيران المدفعية. و قبل الغروب كان لنا حوالى ثلاثة و ثلاثون ألف مقاتل فى الضفة الشرقية للقناة، وفي الساعة الثامنة والنصف، بدأت الدبابات والأسلحة الثقيلة في العبور على الكباري المصرية، وقبل الساعات الأولى من صباح السابع من أكتوبر، كانت القوات المصرية قد نجحت في تكوين رءوس خمس كباري على طول خط المواجهة.
اقتحام قناة السويس:
تعد قناة السويس مانعاً مائياً فريداً، فهي عميقة وعرضها حوالي مائتي متر، كما أن خصائص عديدة تعوق عملية الاقتحام وأبرزها حركات المد والجزر، وسرعة التيار وتغير اتجاهه بصورة دورية خلال اليوم، علاوة على وجود الساتر الترابى الشرقى للقناة الذى يصل ارتفاعه إلى 26 متراً، ووجود خط بارليف المكون من 27 نقطة حصينة موزعة على طول القناة، وازاء هذه الصعوبات تم إجراء عديد من التجارب:
طرق التفجير: استخدمت فيها الأعيرة المختلفة للمدفعية والصواريخ الموجهة وقنابل الممرات واستخدام المفرقعات.
طرق التجريف الميكانيكي: اعتمدت التجارب على نقل آلات التجريف بواسطة الهليكوبتر لعمل الفتحات في الساتر الترابي.
ولكن الصعوبات العملية أثبتت عدم ملاءمة أي من الوسائل السابقة، إلى أن استطاع سلاح المهندسين تطوير فكرة استخدام التجريف الهيدروليكي بالمياه، وقام المهندسون بإجراء التجارب وتم تصنيع عدد كبير من الطلمبات ذات الضغط العالي في ألمانيا خصيصاً تحت ستار استخدامها في مكافحة الحريق، ومما يذكر أن المهندسين الألمان اندهشوا من تصميم الطلمبات بتلك الطريقة، وكان رد فعلهم يتسم بالسخرية، حيث لم يكشف المصريون عن الهدف الحقيقي لتصنيع تلك الطلمبات.
كما تم تجهيز الأعداد المطلوبة من القوارب والكبارى والمعديات اللازمة للعبور. وقد اقتضت خطة العمليات الموضوعة اقتحام قناة السويس وخط بارليف بخمس فرق مشاة وفي قطاع بورسعيد فى الشمال وفى توقيت واحد.
وقد تركزت المعدات والمهمات المخصصة لعملية الاقتحام والعبور فيما يلي:-
2500 قارب مطاطى وخشبى لعبور فرق النسق الأول ووحدات المهندسين المخصصة لفتح الثغرات فى الساتر الترابى وإنشاء المعابر الهيكلية عليها.
68 ناقلة برمائية خفيفة حمولة 5 طن K61 .
47 ناقلة برمائية متوسطة للمدفعيات حمولة 12 طنا BTS .
27 معدية ذاتية الحركة لعبور الدبابات حمولة 50 طنا GSP
3 كبارى اقتحام خفيف 25 طنا (واحد منها صنع محلياً).
3 كبارى سريعة الإنشاء 60 طنا.
2 كوبرى اقتحام 80 طنا (مصنعة كلها محلياً).
2 كوبرى هيكلى على قوارب خشبية 40 طنا (مصنعة كلها محلياً).
10 كبارى هيكلية على أنابيب مطاطية للأفراد فقط، بالإضافة إلى كبارى المواصلات الموجودة على المجارى المائية الأخرى خلاف قناة السويس فى عمق القوات.
ومن ناحية أخرى، كان لدقة معلومات الاستطلاع الهندسى عن طبيعة قناة السويس والساتر الترابى والنقط الحصينة وموانع العدو على خط بارليف وحقول ألغامه وأنابيب المواد البترولية التى أنشأها على الضفة الشرقية للقناة، أكبر الأثر فى نجاح عملية الاقتحام والعبور إنشاء المعابر فى توقيتات مناسبة، ونجاح قواتنا فى اقتحام النقط الحصينة.
وقد نشطت عناصر الاستطلاع الهندسى وقامت بفتح نقط المساحة الهندسية على الساتر الترابى وعلى الأشجار والمبانى المرتفعة فى المدن غرب القناة لمراقبة العدو على الضفة الشرقية وكشف تغييرات مواقعه وأنواع موانعه، وصاحب ذلك دفع دوريات استطلاع هندسى لمواقع العدو شرق القناة.
ولتحقيق ضمان النجاح والدقة فى التنفيذ قامت القوات المسلحة بانشاء مراكز قيادة متخصصة للحصول على معلومات عن الخصائص الهيدروجرافية لقناة السويس فى التوقيتات المختلفة على مدار العام، وذلك لمعرفة شدة واتجاه التيار – وفرق منسوب المياه بين أعلى مد وأقل جزر، وساهم هذا في تحديد أنسب التوقيتات لعملية العبور.
ولتحقيق الخداع التعبوى قامت وحدات القوات المسلحة بإخفاء التحركات على الطرق لتأمين عملية إعادة التجميع وذلك بإنشاء السواتر الترابية والمعدنية والمصاطب.
العبور العظيم
في الساعة الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السادس من أكتوبر الموافق العاشر من رمضان، انطلقت مائتان واثنان وعشرون طائرة من مختلف القواعد الجوية في أنحاء الجمهورية، وعبرت القناة على ارتفاع منخفض فوق رءوس الجنود المصريين بطول خط المواجهة، وانطلق نسور مصر لأهدافهم في مختلف أنحاء سيناء، بحيث وصلت تلك الطائرات لأهدافها في وقت واحد لتحقيق المفاجأة الكاملة للعدو، وأخذ نسور مصر يدكون مطارات العدو ومحطات الشوشرة ومراكز القيادة والسيطرة لقواته في سيناء الحبيبة. وفي نفس الوقت، وعلى الجبهة السورية، وصلت البلاغات للقيادة الإسرائيلية، أن هناك مائة طائرة تهاجم مواقعهم في الجولان وجبل الشيخ المحتلين، ومما لفت انتباه القيادة الإسرائيلية، أن الهجمات الجوية تمت في وقت واحد على الجبهتين المصرية والسورية. وعادت الطائرات المصرية سالمة بخسائر بسيطة وصلت الى خمس طائرات فقط و هى نسبة أقل بكثير مما كان متوقعاً. وحققت القوات الجوية بقيادة اللواء طيار محمد حسنى مبارك نجاحاً كبيراً فى توجيه هذه الضربة المحكمة والمؤثرة، تتويجاً للجهد الكبير الذى بذلته القوات الجوية فى التحضير و الإعداد و التدريب و التخطيط خلال فترة ما قبل الحرب، و كان نجاح الضربة الجوية بمثابة مفتاح النصر فى الحرب.
صيحة "الله أكبر"
وكان لعبور قواتنا الجوية خط القناة بهذا الحشد الكبير وعلى ارتفاع منخفض جداً، أثره الإيجابي الكبير على معنويات مقاتلينا، فقد التهبت مشاعر الجنود بالحماس والثقة بينما دب الذعر والهلع فى نفوس أفراد العدو. واجتاحت صيحة "الله أكبر" قناة السويس بطول خط المواجهة تزلزل الأرض وتبث الرعب في قلوب جنود العدو.
ولم تكن صيحة الله أكبر مجرد صيحة حناجر، وانما كانت تعبر عن نبض قلوب المقاتلين المفعمة بالثقة فى أن الله أكبر من الخوف والموت والحياة، وأن الله ينصر من ينصره، وأنه إما النصر أو الشهادة، فالموت في معركة الشرف خير من حياة ذليلة مهينة، وأن الشهداء إن هم إلا أحياء عند ربهم يرزقون. وتذكر الجنود الانتصارات الكبرى التي أنعم الله بها على المجاهدين الأوائل في شهر رمضان المعظم، فها هي ذي غزوة بدر التي انتصر فيها نفر قليل من المؤمنين على جموع محتشدة من المشركين، فكانت صيحة الله أكبر تستحضر أمام جنودنا التاريخ كله، وتؤكد أن الله مع المؤمنين إذا صدقوا النية في الجهاد، يشد من أزرهم، ويثبت أقدامهم وينصرهم على عدوهم.
ويقول جرانفيل واطس – مراسل رويترز أثناء الحرب – عن صيحة الله أكبر : " ان صيحة الله أكبر كانت أصيلة وموحية وقوية التأثير إلى الحد الذى تصور المرء معه أن الجنود ليسوا وحدهم هم الذين يهتفون بها ، بل – أيضاً – الجبال والرمال والذخيرة والأفق كله".
لقد جاء العبور في شهر رمضان المبارك، وكان الاسم الشفري لخطة العبور هو "بدر" تيمناً بغزوة بدر، وجاءت صيحة الله أكبر كشعار القتال والتضحية والنصر.
***********
من برنامج
أكتوبر
نقطة التحول في الصراع العربي الإسرائيلي
الناشر
Horizon Studios
Ministry of Defense, Military Researches Authority
No comments:
Post a Comment