ما بعـد الواقعـية
Post-Realism
خلال الشهور الماضية، أتيحت لي الفرصة أن ألتقي بالعديد من نواب البرلمان الأوروبي والألماني والبريطاني، والمسئولين بالمفوضية الأوروبية والخارجية الألمانية، والأحزاب الليبرالية في أوروبا، ضمن وفد من ممثلي الأحزاب الليبرالية العربية، بدعوة من مؤسسة فريدريش ناومان. وفوجئنا جميعاً أن الموضوع الذي دفع به جميع المتحدثين العرب من المغرب، والجزائر، وتونس، ومصر، والأردن، وفلسطين على طاولات المحادثات الثنائية والجماعية والمناقشات العامة والخاصة، كان موضوع القضية الفلسطينية، مع تشديد على قصور الدور الأوروبي في حل القضية، يسبقه فساد الدور الأمريكي وانحيازه التام لإسرائيل، وازدواجية المعايير الدولية، بما ينذر بكارثة إقليمية وعالمية.
وفي حديثي لأحد المسئولين الألمان، أوضحت أنه لو كان هذا اللقاء تم منذ 10 سنوات، لكانت دفة الحديث اتجهت لدور أوروبا في التنمية الاقتصادية في بلداننا، ونقل التكنولوجيا، والتحول الديمقراطي، وسبل التعاون في إطار الديبلوماسية الشعبية، وغيرها من موضوعات كانت تميز المرحلة التي أسميها مرحلة الواقعية السياسية. بدأت تلك المرحلة في نوفمبر 1973. ففي أعقاب حرب أكتوبر 1973، جلس الرئيس السادات مع كيسنجر، وصارحه برؤيته في مستقبل المنطقة، وضرورة الوصول لاتفاق سلام بين العرب وإسرائيل، وعزمه على أن تتجه مصر غرباً. وكان السادات قد طرد حوالي 15 ألف خبير سوفييتي في صيف 1972، دون أن يبعث بأية إشارة أو يجري أية مفاوضات مع الجانب الأمريكي أو الغرب حول "الثمن" الذي كانت أمريكا مستعدة حتماً لتقديمه مقابل هذا التغيير في خريطة النفوذ السياسي العالمي لقطبي الحرب الباردة في ذلك الوقت، وهو التغيير الذي شكل نقطة انقلاب حسمت نتيجة الحرب الباردة بصورة مبكرة قبل انهيار المعسكر الشرقي داخلياً في نهاية الثمانينات. ومرحلة الواقعية السياسية، تلت مرحلة الرومانسية التي ميزت سياسات مصر في الستينيات، حركتها طموحات الوحدة العربية بأحلامها الرائعة، التي استيقظنا منها على كوابيس الهزيمة المروعة، في يونيو 1967. وفي صباح 11 سبتمبر 2001، استيقظ العالم على مشاهد مفجعة، عندما ظهر طرف لم يكن مدعواً أو محسوباً في تقديرات النظام العالمي الجديد، طرف استطاع تخطي الحواجز الأمنية، والحدود الدولية، والفجوة التقنية، والجيوش النظامية، ليضرب ضربات سريعة متلاحقة، في الولايات المتحدة، ولندن، ومدريد، وشرم الشيخ، وبالي، وغيرها من مدن وعواصم العالم، فيسقط الأبرياء ضحايا للإرهاب، في رسائل دموية نارية طائرة، أوقظت العالم وأوقظتنا جميعاً من مرحلة الواقعية السياسية، لندخل في مرحلة ما بعد الواقعية Post-realism.
ما هي الواقعية السياسية؟ هي أن نطلب من العرب ألا يطمحوا في سلام عادل لأنهم لا يملكون القوة الكافية لاستحقاق هذا السلام. هي أن نطلب من الفلسطينيين أن يجلسوا على طاولة المفاوضات تحت فوهة المدافع، ويقبلوا بما يفرضه المفاوض الإسرائيلي من شروط لأنهم لا يملكون بطاقات يفاوضون بها. الواقعية بالطبع تحتم على الجانب الفلسطيني أن يعود إلى شعبه، ويحاول إقناعه بأن يقبل بتسوية تفتقر إلى العدل، باعتبار أن هذا هو "حكم القوي"، في عالم لا يعرف من العدالة إلا السيف الذي جردنا العدالة منه، ووضعناه في يد من يمتلك المدافع والأسلحة النووية والتقليدية. وبعد أن يجاهد المفاوض الفلسطيني في إقناع شعبه بالتسوية المغبنة، يعود الجانب الإسرائيلي فيرفضها، بحجة أن الواقع السياسي قد تغير على الأرض، فتبدأ المفاوضات من جديد من نقطة ما قبل الصفر، وهكذا تضيع الحقوق في مسلسل من التنازلات التي لا تنتهي.
دعونا نتصور أن يتم هذا على المستوى المحلي، عندما يقوم شخص ما بسرقة حافظة نقودك تحت تهديد السلاح، فتذهب تشكو للبوليس، فيطلب منك الضابط أن "تتفاوض" أنت الضحية الأعزل، مع الجاني المفتري المدجج بالسلاح لتطالبه بحافظتك؟ ماذا يمكنك أن تفعل؟ قد تضطر لحظتها للاستعانة بأحد البلطجية، أو تشتري أنت بنفسك قطعة سلاح، وتستغل فرصة نوم المفتري الغاصب، فتستعيد نقودك وقد تأخذ بعضاً من نقوده أيضاً، أو قد تخطف أحد أطفاله في طريق عودته من المدرسة، لتساوم به على استعادة حقوقك. أليس هذا ما يحدث اليوم في مجتمعنا عندما تعجز العدالة عن الحفاظ على حقوق المواطنين؟ ألا يلجأ البعض للبلطجة في الدولة الموازية لاستعادة حقوقهم في ظل غياب آليات العدالة؟ إن البناء الحضاري للعالم قام على فكرة "ماعت" وهي التي مثلت نظام العدالة والتوازن بين القيم العليا للإنسان في الدولة المصرية القديمة، وبدون "ماعت" يعود البشر لقيم الغابة، القيم التي تحكم عالم الحيوان، وأهمها قيمتي القوة والسرعة، وتنتهي الحضارة الإنسانية، بعد أن يصبح من حق أي شخص ما دام يملك القوة أو السرعة أو كليهما، أن يقتنص ممتلكات الآخرين، أو يعتدي عليهم، أو يقتلهم، أو حتى يأكلهم، فهذه هي طبيعة قيم الغابة.
نفس الشيء ينطبق على المستوى الدولي، فإذا لم تجد الضحية من تشكو إليه، وإذا لم يجد المعتدي من يردعه ويزجره ويأخذ الحق منه، بآليات واضحة ومعايير موضوعية، بدون ازدواجية أو محسوبية دولية، تغيب العدالة، ويصبح الحديث عن الشرعية الدولية حديث أجوف من أي معنى أو غاية، وتتوه الحدود بين الحق والباطل، ويصبح الإرهاب أداة من أدوات البلطجة الدولية، منظومة موازية، مثل الأخذ بالثأر في المجتمعات القبلية، التي تعاني من غياب آليات مجتمعية للشرعية والعدالة.
قالت إحدى السياسيات "الواقعيات": "لابد أن تعلموا أننا ملتزمون بأمن إسرائيل، وأن تعاملنا مع إسرائيل يتسم بحساسية مفرطة، وهناك ذكريات ما حدث في الحرب العالمية الثانية، التي تجعلنا عاجزين عن فعل الكثير من الأشياء التي قد تكون واجبة وصحيحة. ولابد أن يتحقق السلام من خلال التفاوض، ونحن كأوروبيين نشعر أحياناً أن إسرائيل لا ترحب بتدخلنا، وبالتالي لا نود أن "نتطفل" على القضية، ونحن نبذل أقصى ما في وسعنا في حدود هذه المعطيات." يا سيدتي، لقد تفضلتم و"تطفلتم" وتدخلتم بالفعل، عندما أصدر بلفور وزير الخارجية البريطاني وعد بلفور في 1917، ثم جاء اضطهادكم لليهود ومحارق الهولوكوست، واليوم تشعرون بالذنب، وتظنون أنه ربما علينا نحن، أن ندفع ثمن خطاياكم أنتم، ولكن الشأن الفلسطيني، لم يعد قضية محلية أو إقليمية، بل أن العالم كله يدفع الثمن الآن. ربما حدث لكم نوع من الكلال أو أصبح الموضوع كمرض مزمن يتعين علينا أن نعتاد عليه، ولكن الوضع الآن يختلف، لقد كفرت الشعوب في منطقتنا بالعدالة الدولية وأصبحت الحركات المتطرفة والمسلحة ودعاة القوة مثل حزب الله، حماس، أحمد نجاد، تتمتع بتأييد قطاعات واسعة من العرب والمسلمين في العالم كله وداخل حدودكم أنتم، حتى بن لادن نفسه، أصبحت له شعبية بفضل احتكامكم للمعايير المزدوجة، وأخشى أن حساسيتكم تجاه ما فعلتموه أنتم ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، قد يدفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة، بل ربما نكون الآن وسط حرب عالمية ثالثة بالفعل، ولكنها حرب غير تقليدية، حرب موازية، أنتم تحتلون العراق وأفغانستان بالقوات النظامية، ويدفع المدنيون الثمن في تفجيرات إرهابية، في لندن ونيويورك وشرم الشيخ وبالي ومدريد.
ومن أجل أن نتجنب هذه الحرب العالمية الثالثة، أو نجهضها، لابد أن نعود مرة أخرى إلى المبادئ، وهذا ما أسميه مرحلة ما بعد الواقعية. إن ما حدث وأهال عليه العالم التراب في الماضي، ظنا أنه مات وتحلل، فهو يبعث اليوم، إنه ينهض الآن، ليلاحقنا في كل مكان. لم يعد من الممكن أن نهرب من يوم الحساب، لقد أصبحت "الكارما" التي استحقتها كل دولة معلقة في رقبتها، "كل طائره في عنقه". لم تعد للجيوش وأسلحة الفيديو جيم والتحصينات الأمنية قيمة، فالعقاب يأتي من حيث لا نحتسب، أحياناً من السماء، وأحياناً في الهواء أو الماء، إن الشخص الذي يصل لدرجة من الإحباط واليأس، تجعله مستعداً لمبادلة حياته، مقابل توصيل رسالة دموية، لعالم خلا من العدل، مثل هذا الشخص قد لا تنفع معه إجراءات الأمن، لأن إجراءات الأمن تعتمد على أن الشخص سوف يأتمر بأمر رجال الأمن خوفاً على حياته، ولكن ماذا إذا هانت حياته وفقدت قيمتها أمام الظلم والفقر، وقيل له أنه سوف يصبح بطلاً شهيداً يستحق الجنة، والجنة الآن؟ عندما يصبح ذلك الشخص العادي انتحارياً تعجز أمامه كل الإجراءات والتحصينات.
هذا عن أفراد انتحاريين، ولكن ماذا إذا وصلت أنظمة انتحارية إلى الحكم في الشرق الأوسط؟ لقد اكتسبت القيم التي يتشدق بها الغرب سمعة سيئة وسط الشعوب، فالنظم المستبدة تذيق شعوبها الذل وشظف العيش، وهي تتمسح بالأنظمة الغربية وتسير في ركابها، بينما تدعي أنها تقود تلك الشعوب للجنة الغربية، والشعوب لم تر من جراء مبادرات السلام والانفتاح على الغرب سوى المزيد من الإذلال والفقر، وضياع الأراضي والحقوق، ولم تر من العالم الغربي الذي يتشدق بقيم الحرية والعدالة والشرعية الدولية، سوى النفاق الأخلاقي، والمعايير المزدوجة والتعامي عن الجرائم الإسرائيلية بسبب قوة اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم.
إن التخلي عن مبادئ العدالة والحق والمساواة، يهدم الأساس الأخلاقي للحضارة الإنسانية، ويفتح الباب لأن تصبح القوة الغاشمة هي أساس الاستيلاء على الحقوق واغتصابها أو استعادتها، وبهذا نطعن السلام في العالم طعنة قاتلة، ويصبح على كل شخص منا ألا ينام، فعليه أن يسهر مدججاً بالسلاح، يتمنى ألا يغفو، ولكنه حتماً سوف يغفو، وعندما يغفو أي منا، لا نعلم من أين يأتي الخطر.
إن الرومانسية وتجاهل الواقع يجعل ما نقوله هنا مجرد كلام غير قابل للتطبيق، ولذلك على العالم اليوم أن يتطرق إلى حلول خلاقة تضع آليات لتحقيق العدالة الدولية على أرض الواقع، ربما من خلال إصلاح الأمم المتحدة، أو اللجوء للتحكيم الدولي عندما تفشل المفاوضات، أو الضغط الاقتصادي على الدول التي تتسبب بسلوكياتها المستهترة في تقويض السلام العالمي.
لا يجب أن نقع ضحايا للواقعية المفرطة ونقول هذا هوالواقع. لو قال أجدادنا نفس الشيء، لظلت مصر تحت الحكم العثماني أو الانجليزي، ولظلت أوروبا تحت نير حكم امبراطوريات مستبدة، ولظل الإنسان يعيش في الغابة. فالعالم نرسمه في مخيلتنا وضمائرنا أولاً، ثم ننطلق لنبنيه ونصنعه على أرض الواقع، ولا يجب أن نتخلى عن حلمنا في عالم ينعم بالسلام، والتطلع لغد أفضل لنا ولأبنائنا، بحجة أن الواقع سيء.
هذه هي ما أسميه بمرحلة ما بعد الواقعية. وفي رأيي، هذا هو البديل عن اندلاع أو اتساع الحرب العالمية الثالثة. لأنه إذا كانت الواقعية تحتم علينا أن ننظر للأوضاع اليوم كما هي، فإن ما بعد الواقعية، تستدعي منا أن نتحسب لمخاطر المستقبل التي قد نجلبها على أنفسنا، عندما ننسى القيم الحاكمة في منظومة "ماعت".
No comments:
Post a Comment