السجن والتشهير ...
وأدوات الحوار الأخرى
في مصر، يوجد عالمان، العالم الرسمي المعلن، وهو عالم شكلي زائف، والعالم العرفي المستتر، وهو العالم الحقيقي الذي يعيش فيه الشعب، ومن خلال آلياته غير الرسمية، يحصل المواطنون على التعليم والعلاج والتراخيص والعملات والقروض وغيرها من الخدمات الحياتية.
هذان العالمان يتواجدان معاً ويتفاعل كل منهما مع الآخر بصورة تثير التعجب. ومن سوء الحظ، لا يمكن لأي شخص مهما صغر شأنه أو انتأى مكانه أن يكتفي بالعيش في أحد العالمين دون الآخر. فسائق التاكسي الذي يحصل من الركاب على أجره العادل باتفاق ضمني أو مسبق مع الركاب في العالم العرفي، لا يستطيع أن يستغنى عن العداد. وقد يظن البعض أن ذلك العداد لا توجد له وظيفة سوى تكدير حِجْر الراكب وتمزيق ملابسه، ولكن الواقع أن للعداد وظيفة هامة ووجوده في حد ذاته قيمة كبرى. فالعداد – رغم عدم استخدامه بصورة عملية - هو الذي يمثل العالم الرسمي ويعلن عن استمرار وجوده. العداد هو عين الحكومة النائمة التي يمكن أن تستيقظ فجأة، عندما يطل أحد ممثلي السلطات برأسه داخل التاكسي، ويهدد بسحب الرخصة، فيضطر السائق المسكين إلى سداد المعلوم، خوفاً من المجهول، وتعود العين إلى سباتها المعتاد، لتستريح الحكومة من آلام الشيخوخة وأمراضها.
ولا يختلف الحوار الوطني عن التاكسي في قليل أو كثير. فهناك "الحوار الوطني" الرسمي المعلن، الذي يتم في قاعات فخمة مكيفة، بالآليات المتعارف عليها، من خطابات وأوراق عمل ومواقف، تتناولها وسائل الإعلام الرسمية بالتغطية، والمستقلة بالتعرية. وهذا الحوار هو وقتي، قليل الأثر، مثله كمثل عداد التاكسي. أما الحوار الحقيقي، فيتم بآليات ووسائل أخرى. دعونا نأخذ حالة حزب الغد كمثال. فمنذ الشروع في تأسيس الحزب منذ حوالي عامين، يتواجد المخبرون من ممثلي السلطة داخل الحزب بصورة مكثفة وشبه علنية، ينقلون لأجهزة الدولة ما يدور في الاجتماعات والندوات وورش العمل، يختفي الواحد منهم لدقائق فتجد له العذر لأنك تعلم أنه قد ذهب لتصوير بعض الأوراق الهامة، أو تدوين وتبليغ بعض الملاحظات قبل أن تُنسى.
وبناء على ما يُنقل ويُسمع، يأتي رد فعل الأجهزة الأمنية والسياسية. وعلى مدى 16 شهراً، طالب حزب الغد علانية بتغيير الدستور، وتنقية التشريعات، وإعادة تصميم نظم الدولة، وطرح برامج متكاملة، تشمل مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولفترة طويلة، كان موقف الأجهزة الأمنية والسياسية واضحاً، برفض الدعوة لتغيير الدستور، وأعلن بصورة رسمية أن الدعوة لتغيير الدستور إنما هي "تهديد للاستقرار وضرب للشرعية"، وبالتالي، ومع عدم "رضا" السلطة عن توجهات حزب الغد، منعته من الظهور وحجبت عنه الترخيص، رغم شعبيته الواضحة في مختلف المحافظات، وحصوله على عدد من مقاعد مجلس الشعب يفوق أي من الأحزاب القائمة أو النائمة.
ساءت الأمور وتدهور أداء الدولة إلى الحضيض، واحتدمت المواجهة بين مطالب الشعب للتغيير وإصرار الحكومة على التخليد وتجميد الأوضاع، وظهرت عدة حركات وحملات شعبية مثل حركة "كفاية"، تطالب أيضاً بتعديل الدستور واختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب المباشر من بين أكثر من مرشح، حتى اضطرت السلطة للإطاحة بالوزارة ككبش فداء، وجاءت بوزارة جديدة بها بعض الوجوه الشابة وعدد من أعضاء "لجنة السياسات". وتحت الضغط الشعبي الجارف، والرغبة العارمة في التغيير، التي عبرت عنها الصحف المستقلة والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني ورجل الشارع، اضطر النظام للتراجع، وأعلن نفس من رفض تغيير الدستور منذ أقل من سنة "أن تعديل الدستور أمر وارد"، وداخل الغرف المغلقة، بدأت الشكوى من ضيق الوقت، بما لا يسمح بتعديل الدستور إلا بعد الاستفتاء الرئاسي، ولكن حزب الغد أصدر في سبتمبر 2004 مشروع دستور مقترح، تتحول فيه مصر للنظام الرئاسي البرلماني، ويكفل تداول السلطة بصورة منتظمة، ويحقق التوازن بين المؤسسات والسلطات، ويضمن أن تأتي المساءلة على قدر المسئولية.
وقبل 10 أيام من صدور الحكم في قضية حزب الغد أمام مجلس الدولة، أعلنت لجنة شئون الحزب عن موافقتها على صدوره، وسربت السلطة للصحف أن هناك صفقة بين الحزب والحكم، للسماح بقيام الحزب مقابل أن يوافق الحزب على مبدأ تأجيل تغيير الدستور إلى ما بعد الاستفتاء الرئاسي. وفي الواقع فإن الخط المبدئي الذي أعلنه الحزب منذ سبتمبر 2004، كان يمكن أن يتقبل فكرة التجديد إذا سبقه الإعلان عن تشكيل لجنة لتعديل الدستور، وأن يعلن النظام بوضوح على الشعب التزامه بجدول زمني محدد لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، بحيث يأتي مثل هذا الإعلان قبل طرح فكرة التجديد بفترة كافية، في إشارة إلى أن الحزب لا يهمه الحكم، وإنما يهمه الإصلاح الدستوري والتحول الديمقراطي بصرف النظر عمن يجلسون عن المقاعد. خرج الحزب في 28 أكتوبر 2004، وأقام مؤتمره الأول في 5 نوفمبر 2004، بحضور حوالي 1500 مؤسس من كافة محافظات مصر، وأجريت انتخابات رئاسة الحزب والهيئة العليا في صناديق زجاجية بإشراف منظمات حقوقية محلية وعالمية، وبحضور مجموعة لا بأس بها من المراقبين الدوليين.
وفور قيامه، حصل حزب الغد على زعامة المعارضة في مجلس الشعب، ولكن النظام رفض ذلك بإباء وشمم. تقدم الحزب بمقترحاته في تعديل الدستور لمجلس الشعب، وطالب مجلس الشورى بالمساواة بين مختلف الأحزاب المشتركة في الحوار الوطني (الرسمي) من حيث مستوى التمثيل وحجم الوفود والتناوب في إدارة الجلسات.
وفجأة، فقد النظام أعصابه، ورأينا في أسبوع واحد موجة من الاعتقالات، ومُنع محمد السيد السعيد عن ندوته بمعرض الكتاب، وصدرت التصريحات بأن الدعوة لتغيير الدستور هي دعوة "باطلة"، وقبض على أيمن نور في اليوم التالي. (لا أعلم كيف تكون الدعوة "لأي شيء" باطلة، فالدعوة – عكس الدعوى – لا يمكن أن تكون باطلة).
بعد 3 شهور بالضبط من قيام الحزب، وفي يوم الجمعة 28 يناير، استيقظت جميع أجهزة الدولة المتثائبة أصلاً في أيام العمل الرسمية، ونشطت يوم العطلة الأسبوعية لإصدار خطابات الاتهام، من المباحث للمحامي العام، ومن المحامي العام للنائب العام، ومن النائب العام لوزير العدل، ومن وزير العدل لرئيس مجلس الشعب، لدرجة أن يوقع رئيس مجلس الشعب على خطاب بطلب مناقشة رفع الحصانة أمام اللجنة الدستورية والتشريعية الساعة الواحدة وخمس دقائق من صباح السبت 29 يناير، فور عودته من الخارج، وتجتمع اللجنة النشيطة جداً الساعة التاسعة صباحاً، وتصدر قرارها بعد نصف ساعة دون حضور زميلهم النائب المتهم، وتوصي المجلس برفع الحصانة. وفي دقائق قليلة، يصدر المجلس قراره برفع الحصانة عن نائب الشعب الدكتور أيمن نور، الذي تألق عبر 10 سنوات من الممارسة البرلمانية المتميزة، رقابة وتشريعاً ونقلاً لهموم الشعب وأوجاعه. النائب أيمن نور المحامي، يوافق زملاؤه على رفع الحصانة عنه علناً، ويعتذرون لأسرته سراً، بأنهم قد أجبروا على ذلك من نظام متسلط. تُرفع الحصانة عن أيمن نور في دقائق، بينما تستغرق شهوراً وسنوات ولا ترفع عن نواب الكيف، والمسئولين عن السماح باستيراد المبيدات المسرطنة. فعلاً، اللي اختشوا ماتوا.
لماذا اختارت السلطة أن تقبض على أيمن نور بعد 3 شهور (باليوم) من قيام حزب الغد؟ هل ظنت أنه مستوظف حكومي لدى السلطة، يمكنها فصله بعد فترة اختبار ثلاثة شهور؟ يبدو أن الدكتور أيمن نور لم ينجح كرئيس لحزب الغد في إرضاء الإدارة العليا، فقررت الإدارة بدورها فصله فور انتهاء فترة الاختبار، وقامت بإلقاء القبض عليه بتهم مضحكة مصطنعة، وتمت الاعتداء عليه بالضرب والإهانة في ميدان التحرير، وعلق بالكلبشات في باب الحجز، ومنع من الجلوس أو دخول الحمام، وتم نقله في سيارة ترحيلات ليس بها مقاعد ولا مقابض ولا عواميد يحتمي بها الراكب، حتى يستمتع بالشقلبة طوال مطبات ودورانات الرحلة، وتم تجديد حبسه لمدة 45 يوماً مثل أي مسجل خطر.
وصدرت التصريحات بأن حزب الغد ما زال قائماً وأن مجلس الشورى "يراقب" ما يحدث داخله من تفاعلات عديدة سوف تحدد مستقبله، ربما في دعوة لقيادات الحزب لإعادة النظر في موقف الحزب من القضايا المطروحة.
هذه هي بعض الرسائل المتبادلة بين السلطة وحزب الغد خلال الحوار الوطني غير الرسمي في العالم العرفي المستتر والحقيقي، رأينا من خلالها أدوات الحوار، من اعتقال، وإهانة، وتشهير، وتهديد. وأنا أود أن أنقل للسلطة هذه الرسالة بصورة شخصية. نشكركم لأنكم قد دفعتم بالعجلة الصدأة لتدور بعد ركود طويل، ولكنني أود أن أقول للسلطة - ولكل سلطة، عليكم أن تعلموا أنكم تجلسون على مقاعد الحكم، وتنعمون بالعز والجاه، طالما احترمتم رأي الشعب، وتجاوبتم مع طموحاته وتطلعاته، واستجبتم لمطالبه المشروعة.
لقد أرادت السلطة التصعيد، وبدأت في الضرب بقوة تحت الحزام، ظناً منها أن هذا يكفل لها السلامة والخلود، ولكنني أقول، أن هذا الطريق رأيناه من قبل، وهو طريق وعر عواقبه وخيمة، لا نرضاها للوطن. وأنا أدعو السلطة لإعادة النظر في الأمر. لأننا لا نرضى لمصر هذا الطريق الصعب، فلن تستطيع السلطة، أي سلطة، أن تنتصر على إرادة الشعب. أيها السادة لا تستمعوا، لأقاويل الخلود أو تنخدعوا، فاليوم آت آت، بل لعله قد أتى بالفعل وأنتم لا تشعرون. أيها السادة، التغيير هو سنة الحياة، وإنكاره لا يعوقه ولا يؤخره، بل أن قمع من يذكرونكم به يعجل به ويبرره.
No comments:
Post a Comment