الجمعـية الوطنية:
التغـيير على الطريقة المصرية
في حوار مع مجموعة من الناشطين وقع نقاش حول الجمعية والتغيير والدكتور البرادعي، واعترض البعض أن نضفي صفات القداسة على د. البرادعي فيصبح من ينتقده خائناً وعميلاً.
وأريد أن أقول أنه ليس هناك قداسة ولا يحزنون، كل ما في الأمر هو أن هناك شخص ما - مؤهل و محترم - حظى بلحظة مصرية نادرة من لحظات الاختيار التلقائي والاتفاق غير المرتب - التي جعلتنا جميعاً نفكر في إمكانية تكوين توافق شعبي واسع حول مطالب الإصلاح والتغيير.
هناك أحزاب وفرق سياسية كثيرة من حقها أن تتنافس، ولكن قبل الانشغال بالتنافس، يجب أولاً أن نسعى لبناء ملعب سياسي يسمح لهذه الفرق باللعب والتنافس في ظل قواعد واضحة ونزيهة أو حتى شبه نزيهة.
الجميع يريد أن يلعب - إذن فلينشط الجميع في بناء هذا الملعب - الاستاد السياسي - بدستوره وقواعده، وهذا ما نعنيه بالمرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي، مثل تلك المرحلة تحتاج لتوافق - لا لتنافس - لأنه لا يمكن بناء الاستاد في حالات التنافس.
لا يوجد خلاف تقريباً حول مواصفات الملعب - فمعظم القوى والتحالفات والائتلافات والمؤتمرات والجبهات الديمقراطية ونصف الديمقراطية وحتى ربع الديمقراطية أصدرت من البيانات وأوراق العمل والعرائض والمعلقات فراسخ مربعة، تتشابه في الظاهر من توجهاتها العامة.
لكن يأتي السؤال - من يشرف على بناء الملعب - من يقود عملية بناء الملعب السياسي الجديد؟
وهو سؤال مهم لكن الحظ المصري خدمنا والآن نظن أن الفرصة واضحة، في أن يكون الدكتور البرادعي في المركز من هذا التحالف الوطني من أجل التغيير، لكن بعضنا لا يزال يعافر ويرفض تلك الفرصة، أو يتظاهر إنه مش واخد باله يعني، والخطر هنا أن يتسبب هذا في ضياع فرصة بناء الملعب واللعب والتنافس المحترم - ونستمر في اللعب بنوى ثمار الدوم أو أحجار الطريق حتى تدمى أقدامنا دون تأثير حقيقي.
نعم الظروف خدمتنا – وهذا هو التغيير على الطريقة المصرية – أن تأتي لحظة مصرية صافية ونادرة – ربما من بركة آل البيت والأولياء والقديسين، أو دعاء الأمهات والجدات الطيبين، أو بركات وأسرار تعاويذ الأقدمين، المنقوشة على المعابد وأصداء الترانيم.
حالة مصرية – كادت تحدث في 2005 فاستنكفناها على قائد مسيرة التغيير آنذاك، وسيط التغيير، ولكن في الحقيقة فقد استكثرناها على أنفسنا وليس على الوسيط – فالوسيط ما هو إلا كذلك – وسيلة لتحقيق ما يجب أن يكون، في صورة شخصية قيادية تتمتع بقبول شعبي واسع.
هذا هو التغيير على الطريقة المصرية رأيناه في 1805 ورأيناه في 1919 – تشيع فكرة معينة للتخلص من وضع كارثي وتنتشر بين المصريين كالنار في الهشيم – حتى قبل اختراع الموبايل والإنترنت والتليفزيون والقطار أو حتى الطفطف – وبحسابات تلقائية بسيطة تحدث حالة من الاتفاق العام على شيء ما – وتصبح الحالة في حد ذاتها دافعاً لحدوث هذا الشيء - فيحدث هذا الشيء – البتاع يعني.
رأينا هذه الحالة وعايناها من قبل ولكن البعض ينسى أو يتناسى شكل ولون ورائحة المشهد المصري.
الجمعية الوطنية للتغيير – ما هي إلا كذلك – جمعية – أي وعاء لتجميع الجهود أو القدرات أو الأموال المتراكمة من نقود قليلة.
للمصريين طرق طريفة ومبتكرة للتعامل مع مضائق وضوائق ومضايقات الحياة ومنغصاتها.
فعندما يعجز أصحاب الحاجة (أي البتاع) عن توفير المال الكافي للحصول على البتاع، يجتمع مجموعة من الأقارب والأصدقاء في عملية تعاونية تكافلية طبيعية، هي صورة من صور التضامن الاجتماعي في سبيل أن يحصل كل من المجتمعين – وليس فقط واحد منهم – على حاجته.
البعض – عادة الأكثر احتياجاً – يقبض أولاً، وهذا في الواقع مجاملة لهذا البعض في صورة قرض حسن – أي عديم الفائدة - من الحبايب لهذا الشخص الذي يقبض أولاً.
لكن في الحقيقة الجميع يحصل على نصيبه إن عاجلاً أو آجلاً، فقبض الجمعية يدور إلى أن يأتي على كل شخص دوره فيقبض نصيبه، والبعض يدخل بسهم، والبعض يدخل بسهمين، كل على قدر قدرته واحتياجه، ولكن في النهاية، الخير يأتي على كل فرد في الوقت المناسب – على الطريقة المصرية.
من البديهي أن يلجأ للجمعية من لا يستطيع تحقيق الحاجة (البتاع) وحده أو بإمكانياته الفردية، واللاجئون للجمعية الوطنية للتغيير ومشاركوها، حاولوا كثيراً فرادى أن يحصلوا على البتاع دون جدوى – والآن جاءت هذه الفرصة – وهي ليست فرصة أكيدة – لكن الفرص عادة تتحسن عندما نجتمع على إنجاحها ونتفق على ما يجب عمله لذلك، ثم ننطلق في العمل على تنفيذه بصورة منظمة تتميز بالعمل الجماعي المتناغم.
ومن الطبيعي أن يختلف البعض على الشخص الذي سيناله الخير أو شرف الجهاد وقيادة البناء أولاً، ولكن يجب ألا يفسد ذلك الخلاف فكرة الجمعية، وإلا ضاعت فرصة التجميع على الجميع، فالوطن في الواقع هو الذي سيقبض أولاً. التغيير نفسه هو من سيستفيد، أما بعد بناء الملعب، فليتنافس كل صاحب طموح أو شعبية أو رؤية، فهذه هي وظيفة الملعب، أن يتيح الفرصة لكل متنافس أن يقدم ما عنده، والحكم في النهاية للجمهور وللناخبين، ولكن غالباً سيأتي ذلك الحكم بالخير لكل فريق، وسيحصل في الأغلب كل عامل على ثمرة تقابل أو تقترب مما قدمه من عمل وطني.
وكما نحذر من فساد الجمعية وانهيار الآمال المعقودة عليها نتيجة الخلاف حول من "يقبض أولاً"، فهناك أخطار أخرى أيضاً تعلق بعدم خبرتنا في العمل الجماعي. وليس هناك أقوى في استشعار مثل هذه الأخطار من قراءة ما جاء في مقال د. حسن نافعة - بحسن نية دون شك - في المصري اليوم بتاريخ 4/4/2010 والذي يتنصل فيه من وجود هيئة تأسيسية للجمعية الوطنية للتغيير، ويوحي بتحول الجمعية إلى فرد واحد، هو الدكتور البرادعي، ومن يختارهم الدكتور البرادعي.
يقول د. نافعة، "أن مجموعة النشطاء الذين ذهبوا للقاء الدكتور البرادعى فى منزله يوم ٢٣ فبراير الماضى وأصروا على إعلان قيام «جمعية وطنية للتغيير» ... تصورت أنها - أي المجموعة- باتت تشكل «هيئة تأسيسية» للجمعية، تملك صلاحيات تخول لها بناء الهيكل التنظيمى وتحديد آليات اتخاذ القرار فى الجمعية، غير أن هذا التصور – في رأي د. نافعة - ليس له ما يبرره فى الواقع، سواء من الناحية القانونية أو من الناحية العملية" ... لأن من وجهة نظره، وجود هذه المجموعة خضع لاعتبارات ظرفية وليس من المنطقي استبعاد آخرين يرغبون في الانضمام للجمعية من الهيئة التأسيسية.
من الطبيعي بالفعل أن تعبر الهيئة التأسيسية للجمعية الوطنية للتغيير عن القيادات الطبيعية لكافة التيارات والأحزاب والحركات الشبابية والنسائية، السياسية والاجتماعية والشعبية، المشاركة في حركة التغيير والراغبة في الانضمام للجمعية، بصرف النظر عمن حضر أو لم يحضر اجتماعاً ما في يوم معين في ساعة معينة في مكان معين، لأنه ليس من المفيد استبعاد أي قوى تتفق على مطالب التغيير من الهيئة التأسيسية للجمعية. وفي نفس الوقت، لا يمكن أن ننكر أن المجموعة التي اتفقت في اجتماع 23 فبراير (ولم أكن من الحاضرين بالمناسبة)، هي نواة الهيئة التأسيسية، لأن القرار بتأسيس الجمعية جاء في تلك اللحظة، بدعوة من هؤلاء الحاضرين، بناء على العديد من أوراق العمل والمداولات في اجتماعات الحملة المصرية ضد التوريث والتي أوصت بأن تتحول الحملة من حملة سلبية ترفض التوريث فقط، إلى حملة إيجابية، بمطالب إصلاحية شاملة، وبحيث تصبح "الحملة المصرية ضد التوريث" لجنة داخل المظلة الجامعة لـ "الجماعة الوطنية للتغيير"، وهو ما تمخض فيما بعد عن الإعلان عن قيام "الجمعية الوطنية للتغيير" في اجتماع 23 فبراير. ثم اجتمع هؤلاء عدة مرات أخرى، مرة في حزب الجبهة، ومرة في حزب الغد، عدا اجتماعات لجان الموقع الإلكتروني، واتفقوا على صيغة بيان الجمعية، وتم طباعة البيان وبدأت حملة شعبية قادها هؤلاء المؤسسون لجمع التوقيعات على البيان في كافة المحافظات، فكيف نأتي الآن ونقول أنه لم تكن هناك جمعية ولم يكن هناك مؤسسين؟
وعندما يأتي الكلام من الدكتور حسن نافعة يكون له وضع خاص ولابد من التوقف عنده، من منطلق الحرص على المصلحة العامة، ومن باب الحب والتقدير للدكتور نافعة في المقام الأول، فهو منسق الحملة المصرية ضد التوريث، واختير في اجتماع 23 فبراير كمنسق الجمعية الوطنية للتغيير، باعتبار أن الدعوة للجمعية الوطنية للتغيير جاءت من أعضاء الحملة المصرية ضد التوريث، وبالتالي قررت الحملة الانضمام للجمعية الوطنية للتغيير بل والاندماج فيها، مثلها مثل جماعات أخرى، دون وصاية أو إقصاء لأي تيار أو مجموعة ترغب في الانضمام طالما وافقت على إعلان المبادئ، لأن الهدف المعلن هو تكوين توافق وطني واسع حول مطالب التغيير، ولا يمكن أن يحدث هذا مع سياسات الاستبعاد والإقصاء.
ليس هناك شك في أن الدكتور البرادعي في موقف يتيح له توحيد القوى المطالبة بالتغيير في إطار الجمعية الوطنية للتغيير، ولكن يجب أن نتحسب من ما يقترحه د. نافعة عندما يقول في نفس المقال:
" أنه من الطبيعي أن يختار البرادعي "معاونيه" وأن يستبعد البرادعي كذا – ..."
فهذا الأسلوب ليس بالتأكيد أسلوب دعاة الديمقراطية والتغيير، فالجمعية الوطنية للتغيير، هي "جمعية"، بين أكثر من جهة، ومن الطبيعي أن يأتي القرار ليعبر عن أعضاء الجمعية ومؤسسيها، وليس من الطبيعي أبداً أن تختزل الجمعية وقراراتها في شخص واحد.
ولكن أخطر ما جاء في مقال د. نافعة هو تعبير "حرية كافية" في سياق "الحتمية التاريخية" مقترناً بضرورة أن نترك الدكتور البرادعي - الذي نحبه ونحترمه - يفعل ما يشاء باعتباره "الوحيد" القادر على كذا وكذا ...، دون الرجوع لشركائه الذين كونوا معه "الجمعية الوطنية للتغيير". توقفت أمام تعبير "حرية كافية" لأنه يعني في السياق دكتاتورية القرار، فحرية الحركة دون ضوابط الالتزام بديمقراطية القرار مع الحلفاء والشركاء، هي حرية حركة تؤدي إلى الانزلاق إلى هوة عميقة من الدكتاتورية والانفراد بالرأي بحجة "تجنب الأخطاء السابقة" وتجنب الهياكل البيروقراطية (أم الديمقراطية؟)، وأقتبس من نص نفس المقال:
"ألا تستدرج «الجمعية الوطنية للتغيير» للعمل وممارسة النشاط وفقا للقواعد التقليدية المفروضة من جانب الحزب الحاكم والتى أدت إلى إضعاف وشل حركة الأحزاب، وإلى إجهاض حالات الحراك السياسى السابقة."
الالتزام بأبسط قواعد العمل الجماعي، مثل استشارة الشركاء والحلفاء واحترام رأيهم، لم يكن أبداً على أجندة الحزب الحاكم كما لا يمكن أن يكون سبباً في إضعاف أو شل أي حركة مؤسسية. دعونا نتذكر أن الضباط الأحرار عندما قاموا بحل الأحزاب وتعطيل الديمقراطية
في 1953 كانت نيتهم حسنة وهدفهم أن يأخذوا "تخريمة" تختصر الطريق لتحقيق التنمية السريعة بعيداً على القيود والإجراءات التي يفرضها العمل الديمقراطي، فكانت النتيجة ما حدث من مصائب وما رأينا من كوارث. وما نستهدفه من إصلاح ليس هو إزالة شخص لنأتي بآخر، لكن أن نكتسب ممارسة جديدة ونقيم عملية سياسية على أسس مؤسسية.
عندما تمت صياغة بيان الجمعية الوطنية للتغيير وبدأت حملة جمع التوقيعات على البيان، جاء البيان من الجمعية وليس من د. البرادعي فقط، وإن كانت الجمعية قد حرصت على تأييد مطالب د. البرادعي، التي لا تخرج عن مطالب باقي القوى الوطنية، فالبرادعي لم يشكل وحده الجمعية الوطنية للتغيير، بل انضم لها مع من انضموا واختاروه ضمنياً في موقع المركز منها، ولكن مركز الدائرة لا يصلح بدون الدائرة، بل يصبح نقطة مفردة مثل غيرها من النقاط.
وحتى لا نفقد هذه الفرصة التاريخية في جدل حول الاعتبارات الظرفية والقانونية، ومن هم في الهيئة التأسيسية ومن هم خارجها، أرى دعوة الجمعية الوطنية للتغيير وكل من يريد أن ينضم لهيئتها التأسيسية للانعقاد في أقرب فرصة، لاختيار هيكل ديمقراطي (وليس بيروقراطي) لعملها لوضع النقاط فوق الحروف والتحسب من مثل هذه السقطات المروعة، حتى لا تؤدي دعاوى حرية الحركة إلى الانزلاق في فخ الفردية والدكتاتورية. السادة الأعزاء، دعونا نتفق على التغيير، وعلى الجمعية، وعلى هذه اللحظة المصرية النادرة، دون أن نفسدها بالاختلاف على من يقبض الجمعية أولاً أو أن نفقدها نتيجة محاولات الاختطاف والانفراد بها، فقوة الجمعية تكمن في التوافق الواسع حولها، وليس الانفراد بها أو إقصاء أعضائها عنها.
وائل نوارة
جريدة الدستور العدد الأسبوعي
7 إبريل 2010
...