بعد نجاح عملية العبور وتغلغل القوات المصرية بعمق 12-15 كيلومتراً شرق القناة، وإقامة رءوس جيوش وفشل الهجمات الإسرائيلية المضادة بعد استدعاء الاحتياطي الإسرائيلي والتعبئة العامة، كان على إسرائيل أن تواجه الهزيمة لأول مرة في تاريخها. وعبر رئيس إسرائيل عن ذلك في لقائه بالقادة العسكريين في غرفة العمليات بقوله : "عليكم أن تدفعوا ثمن غروركم، ولا أعرف كيف ستواجهون شعب إسرائيل بعد ما حدث".
وفي مؤتمره الصحفي مساء التاسع من أكتوبر قال ديان : "لقد أدرك العالم كله الآن أننا لسنا أكثر قوة من المصريين وإن الهالة التى كانت تتوجنا (إذا هاجم العرب فإن الإسرائيليين سيحطمونهم) قد سقطت و يتحتم أن نقول الحقيقة للشعب الإسرائيلي."
أما جولدا مائير فقد أطلقت صرخة "أنقذوا إسرائيل Save Israel "، وعرضت على الرئيس الأمريكي أن تذهب لواشنطن لشرح سوء الأوضاع وجهاً لوجه ومقابلته ولو "لساعة واحدة"، حتى يسارع بإنقاذ إسرائيل. وفي حديث تليفوني للرئيس نيكسون قالت: "لا أعرف كيف سأواجه عائلات القتلى الكثيرين في الحرب."
الجسر الجوي الأمريكي:
وأصبح الموقف واضحاً أمام أمريكا، فقد كانت جولدا مائير في حالة انهيار Panic ، ورفض كيسنجر تماماً فكرة حضورها وترك إسرائيل في ذلك الوقت الحرج مما سيجعل الأمور تظهر الواقع السيء الذي وصلت إليه القوات الإسرائيلية، مما قد يغري دولاً عربية أخرى على الاشتراك في الحرب. وكان كسينجر مقتنعاً بأن هزيمة إسرائيل بفضل التسليح السوفيتى ستكون كارثة جيوبوليتيكية لأمريكا، فقرر الرئيس نيكسون إقامة جسر جوي لتعويض إسرائيل عن جميع خسائرها وإمدادها بأسلحة جديدة بما فيها شحن الدبابات على طائرات أمريكية. واستخدمت أمريكا مائتين وخمسا و عشرين طائرة نقل بحيث قامت هذه الطائرات بخمسمائة و تسع و ستين طلعة على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً، استُخدم فيها حوالى ربع طائرات النقل التابعة لقيادة النقل الجوي الأمريكية، علاوة على جميع الطائرات الخاصة بشركة العال الإسرائيلية المدنية. واشتملت الأسلحة على الدبابات و الصواريخ المضادة للدبابات من طراز تاو و محركات و أجنحة طائرات، و معدات دفاع جوى من طراز شابرال وكانت الدبابات تصل الى مطار العريش مجهزة بكامل ذخيرتها و مليئة بالوقود.
ووصل كيسنجر إلى الاقتناع بأنه على إسرائيل أن تحرز بعض التقدم على الجبهة المصرية حتى يستطيع أن يجد ما يفاوض به السادات بعد وقف إطلاق النار، فعملت أمريكا على مساعدة إسرائيل لتحقيق أي تقدم على المستوى الاستراتيجي أو حتى التكتيكي يمكن استخدامه إعلامياً وسياسياً للضغط على العرب.
الجهد الاستطلاعي الأمريكي
وبالإضافة للجسر الجوي، فقد قررت الولايات المتحدة أن تعمل على تحويل مسار الحرب بكافة الطرق. وفي يوم 13 من أكتوبر، اخترقت مجالنا الجوي طائرة من طراز SR-71 تطير على ارتفاع أعلى من 25 كيلومتر بسرعة تصل إلى ثلاثة أضعاف سرعة الصوت، وقامت هذه الطائرة بتصوير ورصد مواقع قواتنا شرق وغرب القناة، و كذلك مطاراتنا ووسائل الدفاع الجوى و الاحتياطيات. وكان ذلك التدخل العسكرى الأمريكى المباشر و العلنى تمهيداً لقيام إسرائيل بعمل ثغرة بين الجيشين الثاني و الثالث، و العبور إلى غرب القناة، بهدف تحقيق نجاح تكتيكي إعلامي يعوض الفشل الإستراتيجي العام الذى منيت به إسرائيل، و كان كيسنجر كما وضحنا- يرى أنه لابد من تحقيق بعض التقدم لإسرائيل على الجبهة المصرية بالذات حتى يسهل ذلك من مهمته فى التفاوض عندما يتم وقف إطلاق النار.
ولتحقيق هذا، فقد دفع العدو بقوات ضخمة لعمل ثغرة بين الجيشين الثاني في الشمال والثالث في الجنوب، وكان الاستطلاع الأمريكي يوم الثالث عشر من أكتوبر بواسطة طائرات إس آر واحد وسبعين التي تطير على ارتفاعات عالية خارج حدود الدفاع الجوي أو الطيران المصري قد مد الإسرائيليين بخرائط تفصيلية لأوضاع قواتنا في الشرق والغرب مما مكن العدو من التسلل غرباً.
و كثفت إسرائيل من قواتها فى المنطقة الموجودة بين الجيشين الثانى والثالث بحيث قامت فرقتان مدرعتان بالهجوم بغرض تأمين ممر صحراوى عرضه ميلان و نصف جنوب الدفرسوار و شمال البحيرات المرة و الاستيلاء على قطعة أرض شرق القناة تعرف باسم "المزرعة الصينية"، وعمل معبر وإنشاء رأس كوبرى تعبر من خلاله الى الضفة الغربية. و قوبلت هذه المحاولة بقتال عنيف من الفرقة السادسة عشرة بقيادة اللواء عبد رب النبى حافظ ، و تحت ستار هذا القتال تسللت قوة من لواء مظلات إسرائيلي ليلاً وعبرت فى قوارب إلى الشاطئ الغربي للقناة و لحقت بها سرية دبابات واختفت هذه القوات فى منطقة الأشجار الكثيفة الموجودة فى هذه المنطقة لتأمين إنشاء المعبر.
ونتيجة للمقاومة العنيفة والقتال الضاري، فشلت المحاولة الأولى لإنشاء المعبر الإسرائيلي خلال ليلة السادس عشر من أكتوبر، و لكن العدو عاد و هاجم بقوات جديدة الى أن نجح فى إقامة المعبر يوم السابع عشر من أكتوبر و عبرت المدرعات الإسرائيلية الى غرب القناة وحاولت قوات شارون احتلال الاسماعيلية ولكن تم صد هجومها و حرمانها من تحقيق هذا الهدف السياسى العسكرى.
فلسفة التعامل مع الثغرة
لعل الكثيرون يتساءلون، كيف سمحت قواتنا لقوات العدو بالعبور للضفة الغربية، ولماذا لم تسحب مصر قواتها من شرق القناة لغربها لتصفية الثغرة؟
كان هدف إسرائيل من الدفع بقواتها غرب القناة، هو تحقيق نجاح تكتيكي استراتيجي بالاستيلاء على أحد مدن القناة وإجبار مصر على سحب قواتها من الشرق للغرب، حتى تستطيع القوات الإسرائيلية في شرق القناة مهاجمة قواتنا شرق القناة واستعادة الأوضاع التي كانت عليها صباح 6 من أكتوبر وإهدار الانتصار الاستراتيجي لمصر في الحرب وتصفية المكاسب العسكرية الناتجة عن حرب أكتوبر.
يفوق العدد الذي دخلت به العمليات في 6 أكتوبر ... أنا أستطيع أن أحارب إسرائيل لمدة عام كامل!".
وكان بعض القادة –ومنهم الفريق الشاذلي - يرون ضرورة سحب كم كبير من القوات من الشرق للغرب لتصفية الثغرة، ولكن الرئيس السادات والفريق أول أحمد إسماعيل واللواء الجمسي لم يوافقوه على ذلك، فقد رأوا أن القوات الإسرائيلية غرب القناة محكوم عليها بالفشل إن عاجلاً أو آجلاً، وأنه لا يجب التخلي عن المكاسب الاستراتيجية التي تحققت والوقوع في الفخ الإعلامي الذي نصبته إسرائيل لنا. ووجه السادات حديثه لقائد القوات الجوية قائلاً: "وما رأي اللواء مبارك؟" فرد قائلاً: "أنا طائراتي معظمها سليم، وهناك طائرات كانت معطلة وغير صالحة للاستعمال منذ تاريخ طويل قبل نشوب الحرب، وقد تمكنت من إصلاحها جميعاً، وأصبح عندي الآن عدد من الطائرات
وكان قرار الرئيس السادات هو عدم سحب أية قوات من الشرق للغرب. وعلى الرغم من صحة رأي الفريق الشاذلي من الناحية التكتيكية، فقد اتضحت رؤية السادات الاستراتيجية في قراره رفض سحب القوات من الشرق، وجاء مسار الأحداث فيما بعد ليؤكد حكمته وبعد نظره في هذا القرار.
وقف إطلاق النار والقرار 338
ومع وضوح التدخل الأمريكى فى الحرب قرر الرئيس السادات قبول وقف إطلاق النار بتاريخ الثانى والعشرين من اكتوبر، وصدر قرار مجلس الأمن رقم 338 بإيقاف وقف إطلاق النار اعتباراً من غروب شمس 22 من أكتوبر. وكان الاتحاد السوفيتى و أمريكا يطالبون بذلك منذ اليوم الثانى للحرب، وتعهدت القوتان العظميان بالمحافظة على مواقع القوات كما هى يوم الثاني و العشرين من أكتوبر. وبرغم قبول إسرائيل بوقف إطلاق النار، فإنها في الواقع كانت تنوي عدم احترامه، وشجعتها الولايات المتحدة على محاولة تحقيق أي مكاسب في الغرب. وكعادة العدو الإسرائيلي في استغلال وقف إطلاق النار في تحسين موقفه القتالي، فقد دفع بقوات جديدة الى غرب القناة ليلة الثالث و العشرين و ليلة الرابع و العشرين من أكتوبر، بحيث اتجهت فرقة من مدرعاته جنوباً فى اتجاه السويس بهدف تطويق الجيش الثالث وقطع طريق القاهرة السويس لحرمانه من الإمدادات والاستيلاء على مدينة السويس.
واتصل السيد "حافظ إسماعيل" بكيسنجر وأبلغه أن إسرائيل تجاهلت القرار 338، ولكن أمريكا كانت تسعى لكسب الوقت حتى تحقق إسرائيل بعض المكاسب غرب القناة كما قلنا. وأصدرت القيادة العامة المصرية تعليماتها للدفاع عن المدينة، وأخذت السلطات المدنية تعمل بجانب القوات العسكرية الموجودة داخل المدينة لمنع العدو من دخول المدينة وتدمير قواته، وقام العميد يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 مشاة بتخصيص الأسلحة للمدافعين عن المدينة من المدنيين.
ودار القتال العنيف غرب القناة، وفشلت القوات الإسرائيلية بقيادة "شارون" في التقدم شمالاً نحو الإسماعيلية، وقامت القوات الجوية بقيادة اللواء طيار حسني مبارك بدور بارز في تكبيد العدو خسائر فادحة، كما قامت الفرقة الرابعة المدرعة بقيادة العميد "عبد العزيز قابيل " بدور بطولي، فقد عملت تلك الفرقة في خط مواجهة حوالي 70 كيلومتراً في مواجهة 3 فرق مدرعة إسرائيلية، وبتطور الأمور وتماسك أوضاع قواتنا، دخلت قوات أخرى لمعاونة الفرقة الرابعة في مقاومة ثم تصفية الثغرة فيما بعد.
وفي 23 من أكتوبر، اجتمع مجلس الأمن مرة أخرى وأصدر القرار 339 الذي حث الأطراف المتحاربة على العودة لخطوط اليوم السابق، ومرة أخرى، وبرغم موافقتها على القرار، فقد تركت إسرائيل لجيشها حرية الحركة بحيث يحاول الاستيلاء على مدينة السويس لتحقيق الهدف من "الثغرة".
وفي 24 من أكتوبر، حاول لواءان مدرعان من فرقة "آدن" اقتحام المدينة من الشمال والغرب، بعد قصف كثيف من المدفعية الثقيلة والطيران للمدينة بهدف تحطيم الروح المعنوية للمدافعين وخاصة المدنيين، ولكن العدو فوجئ بمقاومة أسطورية كبدته خسائر فادحة في الأفراد والدبابات، وكما نجح فريق المشاة من قبل في مواجهة المدرعة، فقد نجح المدنيون من أهل السويس في مواجهة المدرعات، ودار القتال في الشوارع وداخل المنازل وفي الميادين.
وبجهود أبطال السويس من رجال الدفاع الشعبي ورجال الشرطة والسلطة المدنية والقوات العسكرية من الفرقة 19 مشاة، أمكن هزيمة قوات العدو التي حاولت دخول المدينة، واضطرت قوات العدو إلى الانسحاب والتمركز خارج المدينة، وظلت الدبابات الإسرائيلية المحترقة والمحطمة في الطريق الرئيسي المؤدي للمدينة شاهداً على فشل القوات الإسرائيلية وعجزها عن احتلال المدينة، وليصبح يوم 25 من أكتوبر عيداً قومياً لمدينة السويس وللشعب المصري كله.
مباحثات الكيلو 101
وصدر قرار مجلس الأمن رقم 340 يوم 25 من أكتوبر والذي يقضي بإنشاء قوة طوارئ دولية لمراقبة تنفيذ قرار وقف القتال والعودة إلى خطوط يوم 22 من أكتوبر كما قضى بذلك القرارين السابقين 338 و 339. ومع تجاهل إسرائيل المستمر لقرارات وقف إطلاق النار، حدث تصعيد نووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي برفع حالة التأهب النووي إلى الدرجة القصوى، كما وجدت إسرائيل نفسها إنها وقد فشلت في احتلال مدينة السويس، فقد أصبحت قواتها في الغرب تمثل نزيفاً تتزايد فيه الخسائر كل يوم، ومع نجاح القوات الإسرائيلية في قطع طريق القاهرة السويس، وهو الطريق الرئيسي لإمداد مدينة السويس وقوات الجيش الثالث، فقد أصبح لدى كيسنجر أخيراً ما يناور به في المفاوضات، وبناء عليه بدأ تطبيق وقف إطلاق النار يوم الثامن و العشرين من أكتوبر، مع وصول طلائع قوات الأمم المتحدة و بدء محادثات الكيلو 101.
وتم تعيين اللوء الجمسي (الذي كان قد أصبح رئيساً للأركان وإن كان لم يُعلَن عن ذلك إلا في 12 من ديسمبر) ممثلاً لمصر في محادثات الكيلو 101 التي جرت تحت إشراف قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة بقيادة الجنرال سيلاسفيو، وكان الهدف من المباحثات هو تثبيت وقف إطلاق النار ومناقشة الاعتبارات العسكرية لتطبيق قراري مجلس الأمن 338 و 339، وتنظيم مرور عربات تحمل إمدادات غير عسكرية إلى الجيش الثالث.
واجتمع الوفدان المصري والإسرائيلي في الساعة الواحدة والنصف من صبح يوم 28 أكتوبر لبدء هذه المباحثات. وبهذا توقف القتال رسمياً يوم 28 أكتوبر 1973.
أوضاع قواتنا عند توقف القتال:
في 28 من أكتوبر، كانت قواتنا شرق القناة المكونة من الجيشين الثاني والثالث، في أوضاع عسكرية ممتازة، ولديها من الأسلحة والذخيرة والمعدات ما يمكنها من القتال لفترات طويلة بكفاءة تامة، وكانت رءوس الكباري بمثابة صخرة قوية تحطمت عليها كل هجمات العدو المضادة، وكانت القوات الإسرائيلية تقف دون تأثير في مواجهة قوات الجيشين.
أما في الغرب، فقد كانت أوضاع القوات المصرية في تحسن مستمر، فقد كانت في اشتباكات مستمرة مع قوت العدو لمنعه من تعزيز مواقعه، ومع تكوين التجميعات العسكرية المصرية الإضافية في الغرب، أصبحت قواتنا في الغرب قادرة على احتواء العدو ثم تصفيته. أما العدو، فقد عجز عن تحقيق الهدف الاستراتيجي من الثغرة وهو احتلال الاسماعيلية أو السويس، وأصبح عليه أن يكتفي بقطع طريق القاهرة السويس كورقة للمساومة على إمدادات السويس والجيش الثالث، وأصبحت تلك القوات نزيفاً مستمراً لإسرائيل، وليس في قدرتها تحقيق أي هدف آخر، وفي نفس الوقت كانت خسائرها تتزايد مع تحسن أوضاع قواتنا في الغرب، وكانت إمدادات قوات الثغرة صعبة وكذلك عملية إخلاء القتلى والجرحى، فكان لابد أن تمر من خلال ثغرة الدفرسوار وعرضها 7 كيلومترات أو بالطائرات، وكان على القوات الإسرائيلية أن تبدأ في عمل التجهيزات الهندسية الدفاعية لمحاولة صد الهجوم المصري المتوقع إذا فشلت مباحثات الكيلو 101. وكانت قوات العدو في الغرب في موقف لا يسمح لها بالعودة إلى الشرق، وبالتالي أصبح على إسرائيل أن تدفع ثمن نجاحها التكتيكي غرب القناة، فقد وقعت 3 فرق لها غرب القناة كرهينة يمكن تصفيتها في أي وقت بخسائر بشرية فادحة على الجانب الإسرائيلي.
وكان على إسرائيل أن تحتفظ بثلاث فرق غرب القناة في رقعة أرض محدودة ومحاطة إما بموانع طبيعية أو صناعية أو بقوات مصرية، فأصبحت شبه محاصرة وفي وضع عسكري هش وضعيف، مما دفع السادات بالتلويح عدة مرات للأمريكيين بقدرته على تصفية ذلك "الجيب" وما يعنيه ذلك من كارثة محققة لإسرائيل على المستوى البشري.
ولتأمين مدخل الثغرة، خصصت إسرائيل فرقتين لمنع الجيش الثالث من التقدم شمالاً والثاني من التقدم جنوباً لإغلاق مدخل الثغرة. كما كان على إسرائيل أيضاً أن تحتفظ ب3-4 فرق أمام الخمس فرق المصرية شرق القناة حتى تعوق تقدم القوات المصرية نحو المضايق. وبذلك فكان على إسرائيل أن تحتفظ بحوالي من 9 إلى 10 فرق في حالة استنفار دائم لمجرد الاحتفاظ بالوضع على ما هو عليه Status Quo دون وجود أي أمل في تحقيق أية مكاسب من أي نوع. ولكن إسرائيل استغلت الثغرة إعلامياً لأقصى درجة، وقامت بتصوير قادتها في الغرب وبث تلك الأفلام في تليفزيونات العالم، وأخذت في الطنطنة بتحقيق ذلك النجاح التكتيكي، رغم أن وضعها كان في الواقع أسوأ بكثير مما يمكن تخيله إذا تم استئناف القتال، فقد كان غرب القناة سوف يصبح أرض قتل Killing Fields للقوات الإسرائيلية، كما كان على إسرائيل أن تحتفظ بالتعبئة العامة لشهور طويلة مما أصاب اقتصادها بالشلل، فالاحتياطي الإسرائيلي يمثل نسبة ضخمة من قوة العمل Labor Force في إسرائيل، لأن الجيش الإسرائيلي يشبه جبل الثلج، والجزء الظاهر الصغير منه هو الجيش العامل، أما الجزء الأكبر فهو الاحتياطي.
وبالرغم من بدء المحادثات ووصول قوات الطوارئ الدولية إلا أن قواتنا بدأت حرب استنـزاف غرب القناة لمنع القوات الإسرائيلية من تثبيت مواقعها الدفاعية وكذلك تكبيدها أكبر خسائر ممكنة إلى أن يحين الوقت المناسب لتصفيتها، فقد حدث 452 اشتباكاً بالنيران منذ إيقاف إطلاق النار وحتى تم الانسحاب الإسرائيلي بعد اتفاقية فض الاشتباك الأول التي نجح كيسنجر في تحقيقها، فقد طلبت إسرائيل الانسحاب من الثغرة وسحب قواتها شرقاً بعيداً عن القناة، وكانت سعادة الإسرائيليين واضحة بالخروج من الثغرة التي كانت سوف تصبح أكبر فرصة للقوات المصرية لتكبيد إسرائيل خسائر أكبر من تلك التي تكبدتها في الأيام الأولى من الحرب.
الخطة شامل
ومع تماسك تجميعات قواتنا في الغرب، أصبح لنا دبابتان وصاروخان مضادان للدبابات في مواجهة كل دبابة إسرائيلية في الثغرة، وكانت قوات العدو في الثغرة دائماً هدفاً سهلاً لقواتنا الجوية، وبينما تأثر الإسرائيليون وصدقوا الطنطنة الإعلامية الكاذبة التي أطلقوها بأنفسهم حول الثغرة، وبدأوا يراوغون في المفاوضات، كانت الخطة "شامل" لتصفية الثغرة قد اكتملت، وصدق عليها الرئيس السادات في 24 من ديسمبر 1973، وكلف اللواء "سعد مأمون " -الذي قاد بنجاح الجيش الثاني في عملية العبور إلى أن سقط مريضاً يوم 14 من أكتوبر- بقيادة القوات التي سوف تقوم بتصفية الثغرة في حالة فشل المباحثات.
هل كانت القاهرة مهددة؟
أحياناً ما يثور التساؤل: هل كانت القاهرة مهددة؟ إذا كان العدو قد وصل إلى الكيلو 101 من طريق القاهرة السويس، فهذا يعني أنه كان على بعد أقل من 90 كيلومتراً من حدود القاهرة، فهل كان من الممكن أن يهدد القاهرة ويحقق جزءاً من حلمه في "إسرائيل الكبرى" الذي يجسده علمه "من الفرات وإلى النيل"؟
والواقع أن القوات الإسرائيلية غرب القناة، كانت في أوضاع سيئة لا تستطيع معها التمسك طويلاً بمواقعها الحالية فضلاً عن إحراز أي تقدم آخر، أما الوصول للقاهرة فكان هو المستحيل بعينه، لأن القوات المصرية التي كانت تعد للهجوم على القوات الإسرائيلية بهدف فتح طريق "القاهرة – السويس" بالقوة، كانت متجمعة في ذلك الاتجاه بالذات، فضلاً عن العديد من خطوط الدفاع الأخرى التي تحيط بالمنطقة المركزية مما يجعل تلك الفكرة مستحيلة التنفيذ.
وفي الواقع فإن الكثيرين يتصورون أن الحرب تعني أن يكون للجيش أفراد ومعدات في كل متر مربع تحت سيطرته، ولكن بالطبع هذا التصور لا يمت للعلم العسكري من قريب أو بعيد، فتجمعات القوات تكون ديناميكية وفي أماكن معينة مؤثرة، ومن الوارد أن يتم اختراق من نوع الثغرة في أي مكان، ولكن المهم هو مدى نجاحه في تحقيق أهدافه، وكيفية احتوائه والسيطرة عليه ثم تصفيته.
إن انسحاب العدو وتخليه عن الثغرة طواعية، لم يقابله أن تتخلى مصر عن الأراضي التي حررتها في حرب أكتوبر، وبهذا يتضح أن الثغرة التي طنطن العدو حولها كثيراً، كانت في الواقع شراً اضطر إليه متصوراً إمكانية الحصول على بعض التنازلات في مقابل التخلص منه –وهو ما كان سوف يتم إن عاجلاً أو آجلاً.
المفاوضات المكوكية
بعد وقف إطلاق النار في 28 من أكتوبر 1973، بدأ الدكتور هنري كيسنجر – وزير خارجية الولايات المتحدة، فى محاولة حل الأزمة عن طريق المفاوضات المكوكية، وبالرغم من أن كيسنجر استغل في البداية قطع إسرائيل لطريق "القاهرة-السويس"، فمع تطور التجميعات العسكرية المصرية حول القوات الإسرائيلية غرب القناة، وقيام الأقمار الصناعية الأمريكية بتصوير تلك الأوضاع، اعترف كيسنجر للسادات أن موقف إسرائيل ضعيف جداً في الغرب، فقد كانت هناك دبابتان مصريتان وصاروخان في الغرب لكل دبابة إسرائيلية، مع الأخذ في الاعتبار أن القوات الإسرائيلية في الغرب كانت بمثابة رهينة شبه محاصرة في أيدي القوات المصرية، فهي بعيدة عن خطوط إمدادها، ولم يكن لها سوى منفذ واحد عمقه سبعة كيلومترات عند الدفرسوار، ولوح كيسنجر بأن البنتاجون سيتدخل إلى جانب إسرائيل بقوة إن أصر السادات على تصفية الثغرة عسكرياً. وكانت القوات المسلحة قد وضعت الخطة "شامل" لتصفية القوات الإسرائيلية في الغرب في حالة عدم نجاح المباحثات السلمية، وكانت القوات الإسرائيلية في الغرب تعاني من حالة عدم اتزان تعبوي، بينما كانت قواتنا في وضع أفضل شرقاً وغرباً.
واستمر كيسنجر في جولات المفاوضات المكوكية إلى أن تم الاتفاق على فك الاشتباك الأول فى 17 من يناير 1974 فى أسوان، وتم الاتفاق على فك الاشتباك في الجبهة السورية في وقت لاحق.
وبالنصر الكبير الذي أحرزته مصر في حرب أكتوبر وبفك الاشتباك الأول وما تلاه من فك الاشتباك الثاني، بدأت مصر سعيها نحو السلام من موقف القوة.
من انتصر في الحرب؟
كما أن انسحاب العدو وتخليه عن الثغرة طواعية، لم يقابله أن تتخلى مصر عن الأراضي التي حررتها في حرب أكتوبر، وبهذا يتضح أن الثغرة التي طنطن العدو حولها كثيراً، وضعت قوات العدو كرهينة في أيدي قواتنا التي سرعان ما جهزت التجميعات العسكرية المناسبة واحتوت القوات الإسرائيلية في الغرب، بحيث أصبح لكل دبابة إسرائيلية في الغرب دبابتان مصريتان وصاروخان مضادان للدبابات، وأعدت الخطة "شامل" لتصفية الثغرة، مما دعا كيسنجر للتلويح بأن البنتاجون سوف يتدخل في الحرب بصورة مباشرة إن أصرت مصر على تصفية الثغرة عسكرياً. ومما سبق، فلا شك لدينا أن نتيجة الحرب كانت انتصار مصر وهزيمة إسرائيل. فلم نر من قبل الطرف المنتصر ينسحب ويترك الأرض للطرف المهزوم، وخاصة إذا كان ذلك الطرف هو دولة عدوانية عقيدتها التوسع على حساب جيرانها!
**************
من برنامج
أكتوبر
نقطة التحول في الصراع العربي الإسرائيلي
الناشر
Horizon Studios
Ministry of Defense, Military Researches Authority