ضد الدولة الإله 8
وما بعد الواقعية
مواجهة الجماعات الفاشية
جاء تطور الأديان مع انخراط البشر في جماعات كانت نواة للمجتمعات التعاونية، فجاء الدين ليضع داخل كل شخص منظومة صارمة من القيم التي تضمن أن يعمل الأفراد لصالح الجماعة بوازع داخلي ولو على حساب مصلحتهم الشخصية. وطبيعة المجتمعات القديمة تختلف عما هو موجود الآن، فتلك المجتمعات كانت صغيرة ولم يكن من الشائع أن يتباين أعضاء القبيلة أو القرية في معتقداتهم، بل نجد أنه حتى فترة قريبة كانت المجتمعات الأوروبية لا تتسامح مع الأفراد الذين قد يعتنقون عقائد مغايرة أو يؤمنون بمنظومات قيم مختلفة عن تلك السائدة، فنشأت مثلاً محاكم التفتيش بكل العقوبات الصارمة التي هدفت لقولبة منظومة القيم لدى جميع أفراد المجتمع لأسباب سياسية وسلطوية.
أما اليوم فالوضع مختلف، وأصبح على المجتمعات أن تتكيف مع العديد من المعتقدات والفلسفات المتباينة التي يعتنقها الأفراد، ومن هنا جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليضمن حرية المعتقد والفكر والرأي وحريات وحقوق أخرى عامة ولصيقة بكل إنسان منذ ولادته، ليكون هذا الإعلان هادياً للدساتير والقوانين المحلية والقومية بصورة معيارية. والدين في الأساس هو مجموعة من المعتقدات والطقوس والقيم التي تجعلنا نلزم أنفسنا بسلوكيات نحاول قصارى جهدنا أن تتوافق مع تلك القيم. وهذه القيم لا يستطيع في حقيقة الأمر أن يطلع عليها أحد لأنها داخلية، ولهذا نجد الدين الإسلامي مثلاً يعطي أهمية كبيرة للنية قبل أداء اي عمل أو فريضة أو طاعة. فقبل الصوم أو الصلاة أو الحج أو الزكاة على المسلم أن يوجه نيته لله في أداء تلك الفروض، ولأنه لا مطلع على السرائر سوى الشخص نفسه والله، فلا قيمة لمحاولة المجتمع في أن يراقب السلوك الديني لأي شخص، لأن النية هي الأصل والنية محلها داخل الإنسان.
أما القانون الوضعي، فيعمل بصورة هي عكس ذلك، فهو لا يسأل عن النيات إلا إذا تحولت تلك النيات لأفعال مادية تضر بالآخرين أو بالمجتمع، فهنا يكون الحساب على الأفعال المادية وليس على الأفكار أو الخواطر. أما إذا حاول شخص ما، أو جماعة، أن تلزم الآخرين بسلوكيات شخصية معينة لأسباب دينية، مثل إلزام النساء جبراً بارتداء أزياء معينة، أو فرض تعطيل الأعمال وقت الصلاة، أو غير ذلك من أمور تدخل في إطار السلوك الشخصي الذي لا يضر تركه الآخرين، فهنا هذه الجماعة تفرض سلطة مادية على الآخرين، بدليل أنها تحد من حرياتهم وسلوكياتهم المادية، ولكن طالما استخدمت الجماعة أسلوباً سلمياً طوعياً، يمكن أن نقول أن الأفراد يتنازلون طوعاً عن بعض من حريتهم لصالح فكرة أو عقيدة أو من أجل الانتماء لهذه الجماعة أو تلك وتحقيق مصالح مادية أو معنوية من وراء ذلك.
ولكن المشكلة تحدث عندما تطمح مثل هذه الجماعات لفرض الالتزام بسلوكيات أو طقوس أو معتقدات معينة على نطاق واسع بالقوة إن لزم الأمر، من خلال فرض هذه السلوكيات على القانون الوضعي، وتحميل نظم التعليم والإعلام ومؤسسات التأثير في الرأي العام بمنظومات برمجة هدفها غسل العقل الجمعي وتوجيهه في اتجاه محدد يكرس سلطة هذه الجماعات وسيطرتها على المجتمع، من خلال تنامي سلطتها المادية والمعنوية وتأثيرها في نظم الحكم على العديد من المستويات الإدارية ومن خلال مختلف المؤسسات الرسمية أو الوسيطة، أو من خلال سيطرتها الكاملة على نظم الحكم، ويصبح شيوع الالتزام بأزياء أو طقوس معينة هو رمز سياسي في ثوب ديني للدلالة على تنامي سيطرة هذه الجماعات، وافتعال قضية دينية للاستفادة منها سياسياً.
هنا لابد أن يكافح أفراد المجتمع لاسترداد حرياتهم التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعترف بالحقوق الفطرية الطبيعية لكل إنسان، وقد يضطر الناشطون من أفراد المجتمع للتعرض للاضطهاد المادي أو المعنوي أو العقوبات القانونية، نتيجة لفساد القوانين وعدم التزامها بمعايير حقوق الإنسان، مثل المفكرين أو الكتاب أو المدونين الذين يتعرضون للسجن أو الاغتيال أو التهديد بسبب آراء لهم قد لا تعجب قادة الجماعات الدينية. ولا يمكن أن يسترد المجتمع تلك الحقوق التي اغتصبتها السلطة الدينية في الدولة الإله إلا من خلال الكفاح وبذل التضحيات، والتصدي لمن ينصبون أنفسهم رقباء على الفكر والرأي، والمطالبة بإصلاح القوانين والدساتير حتى تتماشى مع الحقوق والحريات المعيارية، ويصبح على جميع البشر والدول أن تمد يد العون لمن يكافحون لاسترداد حقوقهم الفطرية حتى في أقطار وقارات بعيدة. ونجد في دولة مثل مصر ودول أخرى عديدة شرقاً وغرباً، أن السلطة ظلت لوقت طويل تعمل على استغلال هذه الجماعات الفاشية في أغراض سياسية متباينة، ولا ننسى ما فعله الرئيس السادات مثلاً في السبعينيات من استغلال الدين والجماعات الدينية في محاربة التيارات الاشتراكية والناصرية، أو ما دأب عليه النظام المصري على مدى 3 عقود حاول فيها قتل المعارضة المدنية للترويج لفكرة أن النظام هو البديل الوحيد للجماعات الفاشية، ولا ننسى أيضاً أن الولايات المتحدة الأمريكية قد شجعت تلك المنظمات وقامت بتسليحها واستخدمتها في التصدي للاحتلال السوفييتي لأفغانستان، كما استخدمت – وتستخدم – اليمين المسيحي المتطرف داخل الولايات المتحدة نفسها كطرف في العملية السياسية.
ومع الوضع المتردي وتصاعد النفوذ الفاشي على مستوى العالم من مختلف الأطراف شرقاً وغرباً، يجب على دول العالم أن تعيد النظر بسرعة في ممارسات سابقة كانت تتسامح فيها مع قوى التطرف الديني الفاشي، وتبدأ في وضع قيود على الأنشطة الفاشية لجماعات دينية يتضح بالدليل المادي أنها تستخدم الدين كستار لسلب حقوق الإنسان بصورة منهجية من خلال عمليات غسيل المخ للبسطاء ومن ثم الانتقاص المنظم من حقوق الانسان المعيارية. وأنا هنا لا أتحدث فقط عن الجماعات والمنظمات الإسلامية التي تتبنى أجندة فاشية، ولكن أيضاً عن منظمات اليمين المسيحي في الولايات المتحدة مثلاً، التي تجمع التبرعات الضخمة لصالح تمويل المستوطنات في إسرائيل وهي مستوطنات غير شرعية باعتراف الرئيس الأمريكي نفسه، فلماذا لا نجد التشريعات التي تمنع جمع الأموال لتمويل أنشطة غير شرعية؟ مثال آخر المنظمات الكنسية التي تطبع الأناجيل بلغة الباشتو وتبعث بها للجنود الأمريكيين في أفغانستان للتبشير بالدين المسيحي، رغم أن هذا يخالف صراحة قواعد العمل الميداني للجيش الأمريكي التي تمنع انخراط أفراد الجيش في التنصير.
وعندما نتحدث عن وضع قيود على عمل بعض الجماعات التي تحاول نشر أفكارها الفاشية بوسائل قد تبدو سلمية، لابد وأن يبرز سؤال، أليس من حق أي جماعة أن تنشر أفكارها طالما تستخدم الوسائل السلمية؟ والرد الطبيعي على هذا السؤال يكون بالإيجاب، فالقانون كما نؤمن به يحاسب على الأفعال المادية التي تتسبب في ضرر مباشر وليس على النيات أو الخطط المستقبلية.
هنا يصبح على الدول أن تبحث عن أطر قانونية لحماية مواطنيها وحماية الإنسانية من محاولات المنظمات التي تستخدم الدين في اكتساب أو تكريس سلطة سياسية، أو دفع العالم إلى مواجهات عقائدية لتحقيق نبؤات دينية من عينة "حرب آخر الزمان"، والوصول طبقاً لهذه النبؤات لسيادة دين بعينه أو بعث أحد الشخصيات الدينية أو ظهور "المهدي المنتظر" وهي فكرة تتكرر في الديانات الإبراهيمية مع اختلاف النتائج والشخوص بالطبع. وفي إطار التضييق القانوني يكون على سلطات التحقيق أن تبحث في أدلة مادية تستطيع من خلالها أن تثبت علاقة مثل تلك الجماعات بأنشطة غير مشروعة مثل غسيل الأموال، التحريض على العنف والكراهية، التحريض على أو إيذاء الآخرين، التهرب من الضرائب، جمع أموال وتبرعات بدون ترخيص، تمويل أعمال إرهابية، التبشير بالمخالفة للقواعد الميدانية، وهكذا. ونلاحظ أن هذه الجماعات الفاشية عادة ما تنغمس في مثل هذه الأنشطة ولكن هناك بعض الجماعات التي بدأت تتبع أساليب أكثر تطوراً، حيث تنقسم الجماعة إلى عدة منظمات تعمل بصورة منفصلة، وتتوافق الواجهات النظامية لهذه الجماعات بصورة كبيرة مع القوانين، ولا يربطها بالمنظمات التي تعمل خارج الإطار القانوني أي روابط ظاهرة، بينما تحافظ على الروابط السرية التي تضمن وحدة العمل نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية لهذه الجماعات.
وهنا يكون على الدول أن تواجه مثل هذه الجماعات بوسائل إضافية، مثل التوعية المجتمعية، ومحاصرة الأفرع التي تعمل ضد القانون والبحث عن أدلة تربط بينها وبين الواجهات القانونية، علماً بأن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين حماية المجتمع من ناحية وبين انتهاك حقوق الإنسان والتعسف في استخدام السلطة بدعوى حماية المجتمع من ناحية أخرى، كما يجب عدم الخلط بين ضرورة التعاون السلمي بين الدول بهدف محاصرة الجماعات الفاشية، وبين خرق القانون الدولي بتوجيه ضربات استباقية لبعض الدول بدعوى وجود شكوك في صلة لهذه الدول بمنظمات إرهابية. وفي النهاية، لابد أن نربط بين ضرورة تطوير المنظومة الدولية لحل المنازعات وتحقيق العدالة، وبين قدرة العالم على مواجهة الفاشية التي تستخدم فشل منظومة العدالة الدولية والمعايير المزدوجة في شحن الأفراد والمجتمعات بالكراهية من أجل خلق بيئة خصبة لجذب المؤيدين وتجنيد المقاتلين والترويج لأفكارها الفاشية.