الاقتصاد غير الرسمي كأحد أعراض ظهور
الدولة الموازية
في الآونة الأخيرة، تصاعدت الأصوات التي تطالب بدمج الاقتصاد غير الرسمي في المنظومة الاقتصادية الشرعية. ويسوق المنادون بهذا الاتجاه الكثير من الأسباب والمخاطر والفرص الضائعة التي تحتم من وجهة نظرهم تشجيع أو فرض هذا الاندماج. وفي المقابل، لا نجد هيكلاً فكرياً - متكاملاً من الناحية النظرية ومدعماً بالدراسات الميدانية - يشرح أسباب ظهور الاقتصاد غير الرسمي وتناميه حجماً وتأثيراً، هيكلاً يقيم أهمية وحجم هذا الاقتصاد ويقترح الظروف المواتية التي يمكن أن يحدث عندها هذا الاندماج بصورة تطوعية، ويوضح المخاطر التي يمكن أن تهدد حيوية الاقتصاد القومي (محصلة القطاعين الرسمي وغير الرسمي) إذا تم فرض هذا الاندماج بطرق تشريعية وتنفيذية وبوليسية قبل توفر الظروف المناسبة لحدوث الاندماج التطوعي.
نشأة الاقتصاد غير الرسميبداية، لدينا قناعة أن ظهور الاقتصاد غير الرسمي سبق نشأة الدول والاقتصاد الرسمي المرتبط بها. فمن الناحية التاريخية، عندما كان الأفراد يعيشون في مجموعات صغيرة لا ترقى لمرتبة الدولة، كان على الأفراد أن يقوموا بأنشطة اقتصادية وتجارية، من زراعة ورعي ومقايضة، ولم تكن هناك حاجة للحصول على ترخيص من أية جهة للقيام بمثل هذه الأنشطة. وإلى اليوم، تنشأ مشروعات وصناعات وحرف متناهية في الصغر، تكاد تكفي بالكاد لتوفير القوت لأصحابها وأسرهم، ولا يمكن معها تصور أن يلجأ صاحب المشروع أو الحرفة إلى الدولة للحصول على ترخيص أو بناء هيكل إداري ومحاسبي يتفاعل مع القوانين واللوائح الرسمية وجهات تحصيل الضرائب. وعند نجاح المشروع ونموه إلى حد معين، يصبح من الصعب معه العمل بمعزل عن السلطات الإدارية، عندئذ تضطر المنشأة لتوفيق أوضاعها ولو بصورة جزئية مع القوانين المنظمة لنشاطها. ولا يعني هذا أن المشروعات التي تعمل بمعزل عن الدولة تعمل بصورة غير منظمة تضيع معها حقوق المتعاملين معها – سواء كانوا مستهلكين أو موردين أو عاملين أو ممولين – لأن أعراف المنافسة والسمعة التجارية تحتم على المنشأة أن تتقيد بتلك الأعراف من أجل أن تستمر في العمل.
وظيفة الدولةوهنا لابد أن نبدأ في النظر إلى الدولة كحل إداري وتشريعي نشأ وتطور بالاتفاق الضمني بين أفراد المجتمع ومجموعات المصالح المختلفة، فجاء لينظم العلاقة بين أفراد المجتمع ومجموعاته. ولكي تستقيم الأمور، كان على الأفراد والمنشآت والمجموعات أن يتنازلوا عن جزء من حريتهم المطلقة في العمل والحركة، ويسددوا جزءاً من عوائد أنشطتهم الاقتصادية للنظام، من أجل أن يحصلوا على متطلبات أساسية، لا يمكن لأي منهم أن يوفرها لنفسه أو لمجموعته بصورة منفردة. ومن هذه المتطلبات الجماعية:
1- الأمن: فالدولة تحمي الأفراد والممتلكات حتى يعيشوا باطمئنان.
2- التشريع: الدولة أيضاً تضع التشريعات التي تنظم العلاقات المختلفة، والوضع المثالي هو أن تنبع هذه التشريعات من أعراف المجتمع وتقاليده المتفق عليها، فتأتي وتوثق هذا الاتفاق الجماعي ليصبح ملزماً للجميع.
3- العدل: توفر الدولة النظم القضائية والقانونية التي تنظم حل المنازعات والخلافات بصورة سلمية بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، كما تفرض تنفيذ هذه القوانين والأحكام التي تصدر عن المنظومة القضائية حتى تصبح تلك الأحكام فعالة وملزمة بالفعل وليست مجرد حبراً على ورق.
4- البنية الأساسية: من طرق ومواصلات ووسائل اتصال وصولاً للمظلة الاجتماعية من رعاية صحية وخدمات تعليمية، إلخ.
5- البنية السياسية: وهي التي تحكم كل هذه الوظائف وتنظم عملها، لتضع آلية لاتخاذ القرار المجتمعي، وكيفية صياغة القوانين ووضع السياسات الواجب اتباعها، وطريقة إدارة موارد الدولة وتحديد الإنفاق العام، وطريقة توزيع الثروة على أفراد وجماعات المجتمع، بحيث تأتي هذه السياسات والتشريعات لتعبر عن رأي الأغلبية وفي نفس الوقت ترتضيها الأقلية.
نشوء الدولة الموازية أو الدويلات الموازيةفإذا فشلت الدولة في توفير الحد المعقول من الأمن والعدل والعيش الكريم، أو جاءت القوانين منفصمة عن الواقع والأعراف أو غير قابلة للتطبيق، أو عجزت الدولة عن توفير الخدمات الأساسية من رعاية صحية أو خدمات تعليمية ... إلخ، يسعى الأفراد والجماعات للحصول على هذه الخدمات الضرورية لحياتهم بصورة مستقلة عن الدولة، فتنشأ الدولة الموازية بصورة تدريجية، فإذا تعمقت الفجوة بين ما تفرضه الدولة من قوانين وبين ما يمكن الالتزام به، أو بين ما هو مفروض وما يتم تطبيقه بالفعل، زادت الهوة بين الدولة الرسمية والدولة الحقيقية، والدولة الحقيقية أو الفعلية هي التي يحصل من خلالها المواطنون على الأمن والعدل والخدمات التعليمية والصحية. وعندها قد يضطر القائمون على تطبيق القوانين أو تقديم الخدمات الحكومية إلى غض البصر عن المخالفات لأنهم يعلمون في قرائر أنفسهم أنه لا يمكن تطبيق القوانين بحذافيرها. ومن الناحية الأخرى، عندما يجد الموظف الحكومي الذي تعهد إليه الدولة بتقديم جانب من الخدمات التي يفترض أن تؤديها الدولة لأفراد المجتمع، عندما يجد أن الراتب الذي يحصل عليه من الدولة لا يكفي لإقامة أوده وسد الاحتياجات الأساسية له ولأسرته، يضطر لاصطناع دويلة صغيرة – أو إقطاعية – خاصة به، تقدم هذه الخدمات بمقابل إضافي – إكرامية أو رشوة أو رسم عرفي – وتصبح الدولة غير الرسمية عبارة عن دويلات صغيرة شبه عشوائية في تكوينها، ولكن من المذهل أن نجد أن تلك الدويلات تتفق بصورة كبيرة في أسلوب عملها وفي القواعد التي تحكم العلاقة بين المتعاملين فيها في نفس المجال، نتيجة للتفاعل والتفاوض المستمر بين المتعاملين، وسريان المعلومات من خلال شبكة معلومات غير رسمية. وعلى سبيل المثال:
1- التعليم: نتيجة لسوء حالة التعليم الرسمي، ينشأ سوق للدروس الخصوصية بقواعد وأسعار معروفة ومتفق عليها، كما توجد كتب موازية ومدارس موازية وشبكات موازية لتحديد المقبولين بالمدارس من خلال الاستثناءات والتأشيرات.
2- الصحة: يتقاضى المعالجون والممرضون أتعاباً إضافية تحدد جودة الرعاية الطبية، كما توجد شبكات موازية تنظم قرارات العلاج على نفقة الدولة من خلال الاستثناءات والتأشيرات.
3- النقل: رغم ثبات بنديرة التاكسي عند ستين قرشاً في القاهرة على سبيل المثال - فجميع مستخدمي ومقدمي هذه الخدمة متفقون بصورة ضمنية على السعر الحقيقي للنقل بدقة كبيرة، كما توجد شبكات نقل موازية مثل السرفيس، التي نشأت من رحم التجربة الشعبية منذ السبعينيات، عندما أصبح من المستحيل تطبيق القانون فلجأ السائقون إلى توصيل عدة ركاب ذوي وجهات متقاربة لعدم إمكانية الاكتفاء بالتعريفة الرسمية من راكب واحد.
4- سوق الدولار: عندما قررت الدولة في مصر أن تفرض سعراً غير واقعي للدولار، نشأت السوق الموازية في السبعينيات والثمانينات وخلال الفترة من عام 1999 وإلى عام 2004. وعندما اقتربت الدولة من الأسعار الواقعية وتوثقت ثقة المتعاملين في حسن إدارة سوق الصرف، اختفت تقريباً السوق الموازية.
5- سوق الإسكان: عندما فرضت الدولة قيماً إيجارية غير عادلة بعيداً عن آليات السوق، نشأت فكرة "خلو الرجل" و "المقدم"، وتوسع المستثمرون في إقامة المباني المخصصة للتمليك بدلاً من الإيجار، فجاءت الدولة وحاولت تقنين نسبة ما يتم تخصيصه للتمليك، فتحايل الملاك على ذلك بالتوسع في المباني "السوبر لوكس" غير الخاضعة للقانون وهكذا، إلى أن صدر قانون المساكن الجديد، فاختفت تدريجياً هذه التشوهات التكميلية عدا في المساكن الخاضعة للقانون القديم.
6- التراخيص: عندما تصبح عملية الحصول على تراخيص رسمية للنشاط معقدة أو محاطة بشروط مجافية للمنطق أو الواقع أو مستحيلة التطبيق، تنشأ الشبكات الموازية للحصول على تراخيص البناء والتعلية وإقامة المحال التجارية والمصانع والورش، ويتقاضى الموظف المسئول أتعاباً إضافية مقابل "توفيق" أوضاع أو "تلفيق" مستندات المبنى أو المنشأة. كما ظهرت أحياء عشوائية بالكامل نتيجة لصعوبة التعامل مع الأجهزة التي تنظم النمو العمراني، وتضطر الدولة "الرسمية" في النهاية إلى الرضوخ للأمر الواقع وتوصيل المرافق والخدمات لهذه الأحياء.
ودون التوسع في سرد أو وصف العديد من المنظومات الموازية الأخرى نكتفي باستعراض أمثلة منها بصورة مختصرة:
7- البناء على الرقعة الزراعية: مع نمو حجم القرى وعدم توفير بديل للنمو العمراني.
8- الضرائب على النشاط التجاري: مع ارتفاعها تلجأ العديد من الشركات والمنشآت للتهرب.
9- التسجيل العيني: نتيجة لارتفاع رسوم التسجيل يلجأ الأفراد لأسلوب الحصول على أحكام "بالصحة والنفاذ".
10- ضرائب التركات: يلجأ الآباء لنقل الملكية لأبنائهم وذويهم في حياتهم لتجنب هذه الضرائب.
11- الجمارك: يلجأ الجميع للتهرب الجمركي نتيجة لارتفاع شرائح الجمارك بصورة غير منطقية.
12- رغيف العيش: يلجأ المخبز لإنقاص وزن الرغيف ليستطيع تحمل التكاليف غير المأخوذة في الحسبان.
13- السلع والخدمات: تنشأ السوق السوداء للسلع والأدوية فور وضع تسعيرات جبرية لا تتناسب مع التكلفة أو توازن العرض والطلب.
14- العدل: يلجأ الناس لحيل عديدة مع المحضرين وأحياناً الجهاز القضائي نفسه للحصول على حقوقهم، كما نشأت البلطجة للحصول على الحقوق بسبب بطء العدالة.
15- الأمن: يلجأ أفراد المجتمع ومؤسساته لشركات خاصة للأمن.
16- التشريع: يلجأ رجال الأعمال للانخراط في الحزب الحاكم وتقديم التبرعات الضخمة للحصول على التشريعات التي تخدم مصالحهم أو تأخير تشريعات معينة مثل تشريعات حماية المنافسة أو حماية البيئة أو غيرها.
17- التمويل المصرفي: يحصل القائمون على الائتمان أحياناً على نسب مئوية من القروض التي يمررونها.
18- العلاقات الاجتماعية: تنشأ حالة الزواج العرفي مع صعوبة توفير نفقات الزواج الشرعي.
19- الإعلام والثقافة: يتجه الجمهور للإعلام البديل سواء فضائيات أجنبية أو صحف غير حكومية نتيجة لعدم ثقتهم في الصحف القومية أو لسوء إدارتها وضعف محتواها المعلوماتي أو الإعلامي.
20- التوظيف: يلجأ الناس للمحسوبية والمقايضة وتوريث المناصب للأبناء والأقارب والأصهار.
21- التأمين الاجتماعي: يلجأ الناس لشركات التأمين الاجتماعي الخاصة.
22- المؤسسة الدينية: مع ضعف مستوى العديد من خطباء المساجد والعلماء، اتجه الناس إما لنوع جديد من الدعاة العصريين، أو أغرقوا في الشروح والمتون المغرقة في القدم.
23- الأخلاق: نشأت منظومة جديدة من الأخلاقيات والسلوكيات التي تتيح للأفراد راحة الضمير رغم قيامهم بارتكاب العديد من الممارسات اللا أخلاقية، بل وظهرت الفتاوى الدينية التي تسمح مثلاً للشخص أن يقدم الرشوة للحصول على حقه، وتبرير الإكرامية بضعف راتب الموظف ويعتبرها البعض جزءاً من الزكاة!
24- التنظيمات السياسية: مع صعوبة إنشاء الأحزاب نشأت حركات سياسية غير شرعية ولجأ البعض لشراء الأحزاب أو التنازع على إدارة الأحزاب القائمة، بل ونشأت ظاهرة الإرهاب وأحد أسبابها عجز الدولة عن توفير العدالة الاجتماعية مع عدم وجود قنوات شرعية للتداول السياسي وتحقيق مطالب أو مصالح مجموعات بعينها.
وهكذا ...
ومن المفيد أن ندرس جماعة الإخوان المسلمين كمثال على ظهور "
دويلة موازية" وتنامي سلطانها ونفوذها. فالجماعة رغم أنها تعمل خارج الإطار الرسمي للدولة – بل ربما لأنها تعمل خارج هذا الإطار - فقد استطاعت تدريجياً أن تسيطر على العديد من النقابات، وتتغلغل داخل الجامعات، وأنشأت شبكة موازية لتقديم العديد من الخدمات الاجتماعية والتكافلية، لتسد بعض النقص الذي ظهر نتيجة لغياب الدولة الرسمية وفشلها. ونتيجة لعدم اضطرارها للالتزام بالقيود والقوانين الحكومية التي تنظم عمل وتمويل الجمعيات الأهلية أو الأحزاب السياسية، فقد ارتفعت "قدرتها التنافسية"، واستطاعت أن تنجح في النمو بعيداً عن أعين الدولة، وتنشر دعوتها من خلال منابر المساجد والزوايا في الوقت الذي وجدت الأحزاب الشرعية نفسها ممنوعة من مخاطبة الجماهير وغير قادرة على العمل في الشارع أو الجامعات أو التجمعات العمالية نتيجة لقوانين الطوارئ وغيرها من القيود الأمنية والبيروقراطية، وحاصرت الدولة مصادر تمويلها فلم تستطع تلك الأحزاب أن تنافس جماعة الإخوان المسلمين وهو ما ظهر واضحاً في حصول الجماعة على 88 مقعداً من 160 مقعداً نافست عليها رغم الحصار الأمني والتزوير الذي مورس ضدها، لتأتي تلك النتائج كدليل على انهيار الدولة الرسمية وصعود دولة موازية سياسية، ولولا التزوير وضم النواب المستقلين للحزب الحاكم والاتفاق الضمني أو الصريح بين السلطة والجماعة، فربما كانت مصر اليوم أعلنت كدولة دينية وهو الأمر الذي سوف يحدث إن عاجلاً أو آجلاً إذا استمرت الأوضاع تسير في نفس الاتجاه الحالي.
ومن الأمثلة العديدة التي طرحناها هنا يتضح أن الدولة الموازية أو الدويلات الموازية تبسط سلطانها على كل نواحي الحياة، وليس فقط على النشاط الاقتصادي، ولكن هناك جانباً اقتصادياً لكل من النواحي المذكورة عاليه، ويتضح أيضاً أن نشوء هذه الدويلات الموازية جاء نتيجة لقصور في وظائف الدولة الرسمية، بدليل اختفاء النظام الموازي فور إصلاح النظام الرئيسي، وأن التشوه الموجود في أخلاقيات وسلوكيات البشر إنما جاء ليتوافق مع التشوه الهيكلي في نظم الدولة نفسها. فنفس الشخص الذي كان مضطراً لتقاضي خلو رجل من الساكن، أصبح يكتفي ويقنع بتأجير العقار بالسعر العادل مع تطبيق قانون جديد أقرب للواقع وأكثر عدالة للطرفين.
والشكل أعلاه يوضح التشوه السلوكي الذي يضطر إليه كل من مقدم الخدمة وطالبها، وهو التشوه الذي يمكن أن نتلافاه إذا أصلحنا من المنظومة نفسها. ومع الازدواجية الموجودة بين الدولة الرسمية والدويلات الموازية تصبح الدولة الرسمية دولة مظهرية قليلة التأثير، ويعتمد المواطنون على الدويلات الموازية في قضاء حوائجهم، والمظهرية هنا متبادلة، فالدولة الرسمية تتظاهر بتقديم الخدمات والوظائف، وتتظاهر بتوظيف المواطنين وسداد رواتبهم الهزلية، والمواطنون بدورهم يتظاهرون بطاعة الدولة والحفاظ على قوانينها والموظفون العموميون يتظاهرون بالعمل، ويعيش الجميع مسرحية مستمرة، ولكن هذه الازدواجية تؤدي في النهاية لتكرار الكثير من الأعمال والوظائف بما يمثله هذا من إهدار للموارد وضياع للوقت وانهيار الكفاءة وتباطؤ إيقاع الأعمال. فالطالب مثلاً مضطر لحضور المدرسة الرسمية، ولكنه يعود إلى المنزل ليبدأ يومه "الموازي" حيث الدروس الخصوصية، وتضيع حياته بين المدرسة المظهرية والمدرسة الحقيقية الموازية.
تقييم حجم الاقتصاد غير الرسمي ومدى تغلغله في حياة المجتمع
تقدير حجم الاقتصاد غير الرسمي هو مهمة في غاية الصعوبة نظراً لأن هذا القطاع بطبيعته لا يمسك بحسابات منتظمة ولا يفصح عن حجم أعماله بسهولة. ولكن بصفة عامة، يمكن أن نذكر عدة مؤشرات:
1- هناك مكون للاقتصاد غير الرسمي يدخل في كل نشاط خاص أو حكومي.
2- حجم الاقتصاد غير الرسمي في كل نشاط يتناسب مع الفجوة بين القانون أو اللائحة المنظمة أو المواصفات المصممة وبين ما يمكن تطبيقه عملياً أو ما يمكن الحصول عليه من مواصفات أو جودة.
3- كل المنشآت صغيرة ومتوسطة الحجم، مكون الاقتصاد غير الرسمي فيها كبير جداً بالمقارنة بالمكون الرسمي.
التداخل بين الفساد والاقتصاد غير الرسمي
هناك خلط كبير بين مفهوم الاقتصاد غير الرسمي وبين الفساد. فعلى سبيل المثال، سائق التاكسي الذي يتقاضى أجرة أعلى بكثير من قيمة البنديرة أو العداد هو حالة من حالات الاقتصاد غير الرسمي، ولكن لا يمكن أن نصمه بالفساد. وفي نفس الوقت، عندما يقوم سائق التاكسي بسداد إكرامية لشرطي المرور لتجنب توقيع مخالفة عليه نتيجة لعدم استخدام العداد، فهذه حالة من حالات الفساد مرتبطة بالاضطرار للعمل خارج الاقتصاد الرسمي. وهنا نكتشف أن من يعملون خارج الاقتصاد الرسمي يمكن أن يقعوا تحت طائلة القانون حتى لو لم تصنف حالتهم كحالة فساد. وفساد التشريعات وجمود اللوائح وتضاربها وبعدها عن الواقع، يؤدي بالتأكيد لنمو الاقتصاد غير الرسمي، وهذه الفوضى التشريعية تتسبب في اختلاط الأمور وتمييع الحدود، بما ينتج عنه من خلط بين الأبرياء والمجرمين وبين الشرفاء والفاسدين. إن أخطر ما يواجه المجتمع الذي يضطر أفراده للعمل خارج الإطار الرسمي هو اهتزاز وطمس الحدود بين ما هو شرعي وبين ما هو غير شرعي، فيتآكل النظام العام للمجتمع تدريجياً وينكمش احترام المواطنين للقانون والشرعية، ويتجه المجتمع للفوضى والانهيار التدريجي.
فوائد ومضار ونقاط قصور الاقتصاد غير الرسمي
عندما تعاني الدولة من قصور في وظائفها الأساسية وتنشأ الدويلات الموازية، تقوم النظم الموازية بوظيفة مجتمعية هامة:
1- فهي التي تستكمل الخلل البنيوي في القوانين والنظم الأمامية بقوانين ونظم خلفية موازية تسمح بتقديم الخدمات والسلع والقنوات التي يحتاجها المواطنون في حياتهم اليومية.
2- تترك النظم الموازية فائضاً اقتصادياً يسمح لمجتمع الأعمال بالاستمرار والنمو في ظل سوء الإدارة الحكومي والمبالغة في الضرائب المفروضة والرسوم المتعددة التي تفرضها الدولة.
3- الاقتصاد غير الرسمي لا يخضع لكثير من الأعباء البيروقراطية وبالتالي يحافظ على تنافسية اقتصاد الدولة في ظل تزايد الأعباء البيروقراطية بالمقارنة بالدول الأخرى.
مثال من سوق النقد
وإذا كان حجم الاقتصاد غير الرسمي كبيراً جداً كما ذكرنا، فإن محاولة القضاء على الاقتصاد غير الرسمي بصورة مفاجئة قد يؤدي لانهيار الدولة. نفس الشيء تقريباً يحدث إذا قررت الدولة الأمامية فرض قوانينها بالقوة البوليسية على الدولة الموازية. نأخذ مثالاً لهذا، إذا قامت شرطة المرور بإجبار سائقي الأجرة على الالتزام بالتعريفة المقننة، سوف يتوقف أصحاب سيارات الأجرة عن تشغيل سياراتهم – ولو مؤقتاً - حتى يتجنبوا الخسائر المتوقعة والعقوبات الغليظة التي سوف تقع عليهم في حالة المخالفة. لقد رأينا هذا أيضاً في حالة سوق صرف النقد الأجنبي، عندما لاحقت وزارة الاقتصاد والشرطة شركات الصرافة لأنها كانت تتجر في العملات الأجنبية بأسعار السوق – البعيدة عن الأسعار المفروضة من الدولة، فماذا كانت النتيجة؟ ارتفع سعر الدولار بنسب غير واقعية نتيجة للضغط على السوق الموازية وتضافرت العديد من العوامل لتزيد الطين بلة:
1- أصبح على شركات الصرافة أن تضيف هامش ربح كبير لتغطية مخاطر العقوباتRisk Premium .
2- نتيجة للمبالغة في سرية التعامل أصبحت شبكة معلومات السوق غير قادرة على ملاحقة التغيرات، فازدادت الفجوة بين سعر البيع وسعر الشراء علاوة على ارتفاع هامش الربح لتغطية مخاطر عدم القدرة على معرفة السعر الصحيح.
3- شح الدولار بصورة كبيرة ليس لنقص في حجم المعروض ولكن لنقص أماكن العرض مما أدى لارتفاع أسعاره.
4- ارتفع سعر الدولار نتيجة لاهتزاز ثقة المتعاملين في قوة الجنيه المصري بسبب الإجراءات البوليسية وتكالب مشترون جدد على الدولار لم يكونوا في الأصل يحتاجونه فزاد الضغط على الجنيه.
5- قامت الدولة بإصدار العديد من القوانين واللوائح التي ظنت أنها تقلل من الطلب على الدولار مثل إضافة تعقيدات بيروقراطية على عمليات الاستيراد ومنها فرض توثيق شهادة المنشأ وعدم جواز الشحن إلا من بلد المنشأ وغيرها من إجراءات تعويقية. كما قامت الدولة أيضاً بفرض إجراءات عقابية على المصدرين ألزمتهم بسداد 75% من قيمة صادراتهم بالعملة الصعبة – وهو القرار الذي تم إلغاؤه مؤخراً.
وفي النهاية، أدى تضافر كل هذه العوامل لتباطؤ دورة الاقتصاد، وتباطؤ دورة رأس
المال، وخروج مصر من الإيقاع العالمي للأعمال، فانهار الاستثمار الأجنبي والمحلي،
وتقلص حجم التصدير، وتراجع مركز مصر في تقرير التنافسية العالمية من المركز 39 إلى
المركز 58، وازدادت البطالة والركود الاقتصادي بصورة غير مسبوقة. وعندما قررت
الدولة أن تأخذ بالسعر الطبيعي للدولار وتبتعد عن الأساليب القمعية والبوليسية،
عادت عجلة الاقتصاد للدوران، وارتفع رقم الصادرات، وانخفض سعر الدولار.
وعندما يتهرب المصنعون من أداء ضرائب مبالغ فيها، فإنهم يحافظون على تنافسيتهم في مواجهة المنتج الأجنبي الذي لا يعاني من نفس الأعباء الضريبية والبيروقراطية. أما إذا قررت الدولة أن تلاحقهم بصورة بوليسية، دون إصلاح وتخفيف هذه الأعباء، فإنهم سرعان ما يفلسون أمام طوفان المنتجات المستوردة لعدم تكافؤ المنافسة لأسباب تتعلق ببيئة الأعمال، فترتفع الواردات وتتقلص الصادرات بما يؤثر سلباً على الميزان التجاري ويضغط على العملة الوطنية. وعادة ما نجد المصنعين يشكون من المنافسين الذين يعملون خارج الإطار الرسمي، ولكنهم يرحبون بالموردين والعملاء الذين يعملون خارج نفس الإطار الرسمي!
ومع كل هذا فالاقتصاد غير الرسمي له مضاره الكثيرة:
1- غياب الأرقام الحقيقية حتى عن صاحب العمل أو مدير المنشأة بما يعوق الإدارة السليمة للعمل.
2- ضياع حقوق المستهلك في أحيان كثيرة.
3- انشغال المنشأة بالتحايل على القوانين والضرائب بصورة تعوق التركيز على العمل الأساسي عندما يصبح هدف المنشأة الرئيسي هو اصطناع الدفاتر والقيود والتهرب من الضرائب واللوائح.
4- عدم قدرة المنشأة على النمو عن سقف معين لا تستطيع بعده أن تنمو لعدم وجود حسابات نظامية تسمح بالتحول من شركة أفراد لشركة أموال ولا تستطيع المنشأة الحصول على تمويل ائتماني أو التقدم للمناقصات أو المشروعات الكبرى.
5- حرمان الدولة من موارد هامة بما ينعكس على ضعف قدرتها على الاستثمار في البنية الأساسية أو الإنفاق على الخدمات العامة والمظلة الاجتماعية.
6- معاناة القطاع الرسمي من منافسة غير عادلة مع الاقتصاد غير الرسمي الذي لا يلتزم بنفس القيود والأعباء.
وهنا يتضح أن قصور الدولة الرسمية عن أداء وظائفها يتسبب في الانفصام والازدواجية
وضياع وإهدار الموارد وتحجيم فرص النمو بما يؤدي لانخفاض دخول المواطنين وقد يتسبب
في نشوء ظواهر سلبية كثيرة تبدأ باستشراء الفساد وانهيار الشرعية وصولاً لظهور
الإرهاب مثلاً نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية وعدم وجود قنوات شرعية للتعبير أو
التداول أو التغيير السياسي السلمي.
التحول الطوعي من الاقتصاد غير الرسمي للاقتصاد الرسمي
جميع المجتمعات بما فيها المجتمعات المتقدمة يوجد بها اقتصاد غير رسمي ولكن الخطر أن يصبح الاقتصاد غير الرسمي هو الأساس وما عداه هو الاستثناء. ومن أجل تحويل قطاع كبير من الاقتصاد غير الرسمي للاقتصاد الرسمي، لابد من توافر عدة عوامل:
1- إعادة تصميم قوانين ونظم ولوائح الدولة لتصبح أكثر واقعية وعدالة. وهنا لابد أن تأتي هذه القوانين لتسمح وتيسر وتنظم، بدلاً من أن تمنع وتعوق أو تقمع. لابد أن تأتي القوانين متسقة مع القانون الطبيعي، من أسفل إلى أعلى، من رحم التجربة الشعبية وأعراف المجتمع التي استقر عليها، وليس حسب هوى الحاكم لأغراض سياسية تهدف إلى التحكم والتسلط وتشتط في فرض القيود والقواعد التي يصعب التعامل معها.
2- أن يصبح ثمن العمل داخل إطار الاقتصاد الرسمي قريباً من كلفة العمل خارج هذا الإطار وأن يشعر أصحاب الأعمال أن هناك مزايا إضافية يحصلون عليها إذا قاموا بالانخراط في الاقتصاد الرسمي.
3- أن تنشأ علاقة جديدة قوامها الثقة بين الدولة والمواطنين.
4- أن يشعر المواطنون أن الدولة تقوم بوظائفها الأساسية بكفاءة تسد احتياجاتهم الحياتية بحيث لا يضطرون للبحث عن خدمات تكميلية تخلق طلباً Demand على النظم الموازية.
5- تطبيق القوانين واللوائح بشفافية على الجميع، وليس بصورة انتقائية أو انتقامية.
الخلاصة
من الملاحظ أن المجتمعات والدول التي عانت من حكومات سلطوية ونظم شمولية تفرض القوانين من أعلى إلى أسفل بصورة جامدة، لم تنجح في وضع نظم تلائم الواقع أو العرف. وعندما فشلت الاقتصاديات الموجهة المنغلقة لتلك الدول في تحقيق الحياة الكريمة لمواطنيها في ظل عالم تنافسي تكاملي وخاصة مع تآكل الحدود وعولمة الأسواق والثقافات، أوشكت تلك الدول على الانهيار فتبنت فكرة الانفتاح والاقتصاد الحر، ولكن الحكومات ظلت تفكر بنفس الطريقة، وهي فرض القوانين من أعلى إلى أسفل ومحاولة التحكم في النشاط الاقتصادي عن طريق العقبات البيروقراطية واللوائح المقيدة، رغم دعاوى تحرير الاقتصاد. وهنا حدثت المفارقة واتسعت الهوة بين القانون والواقع، بين الخدمات الرديئة ومتطلبات الحياة، فنشأت النظم الموازية لتستكمل القصور في وظائف الدولة وتتعامل مع تشوهات النظم وفساد القوانين.
وعندما أدركت هذه الدول حجم المشكلة وبدأت تشعر بالعجز المتنامي في الموازنات المالية، بدأت تتطلع للقطاع غير الرسمي لتحصل منه الضرائب، دون أن تضع في الاعتبار الأسباب التي أدت لنشوء الاقتصاد الرسمي وتغوله. تهتم تلك الدول أيضاً بدمج الاقتصاد غير الرسمي في الرسمي من أجل تحسين الأرقام ومؤشرات الأداء، دون أن تضع في الاعتبار أن الدمج البوليسي دون علاج الأسباب الأصلية للمشكلة قد يؤدي لانهيار القطاع غير الرسمي بما يمثله هذا من انهيار الناتج المحلي الإجمالي للدولة (الرسمي وغير الرسمي) وهو ما قد لا تحفل به لأنه لا يظهر في ميزانياتها، بما أيضاً يزيد من البطالة ويؤدي لانهيار تنافسية الاقتصاد ككل. تلك الدول تهتم عادة بالصورة على حساب الأصل، وتحتفي بالمؤشرات التي تستطيع تسويقها إعلامياً وسياسياً باعتبارها إنجازات للنظام، على حساب الواقع المر الذي يعيشه الشعب.
ونحن نعتقد أن الخروج من هذه الدائرة المفرغة يحتاج لقيادة لديها رؤية واضحة وتتمتع
بالمصداقية وتستطيع حشد إرادة سياسية حول مشروع إصلاحي نهضوي، يبدأ بإصلاح بنية
الدولة السياسية والتشريعية والإدارية أولاً، قبل أن يحاسب أو يعاقب القطاع غير
الرسمي، فالملاحقة البوليسية وحدها لن تجدي، ومحاولة تطبيق المستحيل على أرض الواقع
يمكن أن تزيد المشاكل تعقيداً بما يتسبب في تردي الأحوال بصورة خطيرة تهدد استقرار
الدولة وأمنها بل وبقاءها.
وائل نوارة
- نشرت لأول مرة في مجلة الإصلاح الاقتصادي CIPE سبتمبر 2005
- نشرت بعد ذلك في صحف ومجلات عديدة منها المصري اليوم في 9 يناير 2006