Friday, August 08, 2008

Bread, Butter, Brain & Religion

Bread, Butter,
Brain & Religion




عندما أعطى الخالق
كل إنسان رزقه
لم يرض أحد عن نصيبه
وعادوا فرادى
إلى الخالق
يطلبون مقابلة شخصية


يا رب
لماذا أعطيتني
أقل من جاري
أقل مما أستحق
أقل من حاجة عيالي
لماذا أنقصت من مالي؟

وظلوا على تلك الحال
إلى اليوم


وعندها قرر الخالق
أن يكون الأمر مختلفاً
مع هبة العقل


فصاغ العقل بطريقة
تجعل صاحبه
يعجب به
ويظن أنه
أفضل العقول


وعندما أعطى الخالق
كل مخلوق عقله
ابتهج الجميع
وطاروا من الفرح
وخبأ كل شخص عقله
في تجويف عميق في رأسه
حتى لا يراه الآخرون
فيحسدونه عليه

وجرى كل منهم
إلى بيته
وجلس وحده
يتأمل حلاوة عقله
ودينه
وعقيدته
وأفكاره النيرة
التي لم يسمع الناس بمثلها
أبداً
من قبل

!!


Wael Nawara

Thursday, August 07, 2008

The Evils of Thinking

شر الفكر



من صالح الدعاء الخالد الذي نعتز به في مصر دعاء "ربنا يكفيك شر الفكر". وهذا الفكر المذموم من واقع التراث هو الفكر الزائد عن الحدود المسموح بها، بما يورث الهم والاكتئاب أو يؤدي إلى الوساوس والشكوك والأمراض الذهنية. أما في عصر الثورة المجيدة، فمن المؤكد أن شطط الفكر بعيداً عن مديح النظام على كل لون أو خارج تعاليم "الإرشاد القومي" يؤدي إلى الزنزانة أو الفصل التعسفي أو الحرمان من الامتحان في أحسن الأحوال، وهو العقاب العادل الذي نالته الطالبة آلاء التي لم تكتف بالفكر والعياذ بالله، بل تعدته إلى التعبير عن ذلك الفكر في جراءة متناهية، ولكن يقظة المصحح كانت تقف لها بالمرصاد، وصدق ابن عباس حينما قال: "قف للمصحح مهما كنت جليسا ... كاد المصحح أن يكون بوليسا".

وفي الواقع فإن الابتعاد عن الفكر الضار والاقتصار على الإشادة بحكمة النظام وإنجازاته الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى ولا ترى بالعين المجردة، لا يؤدي فقط إلى تجنب شر المصححين والزنازين، بل إنه بالفعل يؤدي إلى تجنب الإصابة بالاكتئاب. فتشغيل الفكر عمال على بطال في الظواهر العجيبة والخارقة التي تحيط بنا من كل جانب وبصورة يومية، له ضحايا كثيرة وربنا يكفينا جميعاً شر السوء. ويكفي أن تعلم أن الدكتور عكاشة قد قدر المصابين بالاكتئاب بحوالي 30% من الشعب الغلبان ولسه، وهذه الإصابة ليست بسبب البيروقراطية أو الظلم أو الفقر أو تفشي البطالة وتوحش الفساد، بل أنها بسبب الفكر اللعين الذي يذكر صاحبه دائماً بمثل هذه المشاكل ويلفت نظره إليها بدون داع، فيوسوس مثلاً لصاحبه بسؤال خبيث وشرير من عينة "لماذا يعاني الشعب من شظف العيش بينما تجود الحكومة بالاحتكارات المتنوعة على محاسيبها الذين يفرون بالمليارات بصورة منتظمة؟"، أو "كيف تسمح الحكومة لصاحب العبارة بالسفر إلى الخارج ثم تصدر بعد هربه أمراً بمنعه من السفر - إلى الداخل طبعاً – حتى يبقى في الغربة يا ولداه تطارده أشباح الضحايا؟" وقد صادفت أحد المصابين بالفكر من هواة قراءة وتحليل أخبار الجرائد المسماة بالقومية ومقارنتها بعضها البعض على مر الحقب الزمنية المختلفة، فماذا كانت النتيجة، أصيب المسكين بلوثة عقلية تجعله ينفجر في الضحك كلما رأى إحدى هذه الصحف أو إذا ما سمع تصريحاً من مسئول حكومي، وفي النهاية مات بكرشة نفس عندما فطس على نفسه من الضحك بعد ما رأى كيف غير أعضاء المجلس الموقر رأيهم في قانون الصحافة والتفوا على أعقابهم بزاوية 180 درجة بدون منقلة بمجرد أن سمعوا توجيهات الرئيس. أما الذين لا يشغلون أنفسهم بمثل هذه الأمور فهم في نعيم مقيم، فهم يصدقون كل التصريحات، فإذا قالت التصريحات أننا نعوم في الرخاء والوظائف الجديدة للشباب بالملايين، فهم يصفقون فرحاً ويهتفون بالدعاء لكل المسئولين، ويلقون باللوم على أبنائهم الكسالى العواطلية من هواة البطالة رغم الوظائف الجديدة المتلتلة و"هي الجرائد حتكذب يعني؟" لأ طبعاً وألف لا سمح الله.

ومن هنا اتضح أن الفكر في مصر ضار جداً، ويقال أن التحذير المكتوب على علب السجائر ليس بسبب القطران والزفت الموجودين في الدخان، بل بسبب أن التدخين ارتبط في الأفلام بالتفكير العميق ولهذا وجب التنبيه لعدم الإحراج. وأصبحت مصر طاردة لكل فكر ضار، فهاجر أصحاب الفكر والعلماء النابهين تصحبهم ألف سلامة والباب يفوت جمل على رأي المسئول الذي خرج علينا في العاشرة مساءاً يقول من لا يعجبه نظامنا يرحل، وكسر وزير الهجرة وراءهم مليون قلة وزير، بدل ما يقعدوا في مصر ويوجعوا أدمغتنا بفلسفتهم الكذابة، أهم يعيشوا بره ليحصلوا على جوائز نوبل والذي منه، منهم يقبضون بالدولار ومسيرهم يأتون إلى مصر ليشتروا شقة أو شاليه أو يحضروا أولادهم في أجازة وقد يشترون بعض الهدايا لأهاليهم فينتعش الاقتصاد القومي من بعيد لبعيد دون أن نتكبد مشقة الاستماع لأفكارهم العجيبة وآرائهم الشاذة المقرفة.

ولهذا لا نتعجب عندما نجد برنامج حكومة "الفكر الجديد" يخلو من أي إشارة إلى الفكر أو الثروة الفكرية، أو إلى القيمة المضافة، فالبرنامج يهتم ببناء ألف مصنع ومصنع، باعتبار أن بناء المصنع في حد ذاته إنجاز كبير وحلال على من يبيعون الأسمنت والحديد، أما آلاف المصانع التي فتحت وقفلت نظراً لأنها عجزت عن أن تصل للتنافسية أو تتميز بقيمة مضافة خاصة، أو في الأغلب عجزت عن أن تتواءم مع تحكم الحكومات المتتالية وتقاليعها التي تتغير في كل موسم، فهذه المصانع طبعاً كخة لأنها بنيت قبل صدور برنامج الألف مصنع. نسمع عن مدن صناعية وغير صناعية، ولكننا لم نسمع عن برنامج واحد يوحد ربنا يعمل على تنمية القيمة المضافة أو الثروة الفكرية. وهذا والحق يقال ليس خطأ الحكومة وحدها، فرجال الأعمال – أو من بقى منهم - مستعدون للاستثمار في كل مجال، عدا في الفكر وربنا يكفيك شر الفكر.

هل سألت نفسك يوماً ما هو الفرق بين السيارة نصر 128 والسيارة المرسيدس 200؟ لماذا سعر المرسيدس 10 أضعاف الـ 128 رغم أن السيارتين تحتويان على نفس المادة الخام تقريباً. نفس وزن الحديد. نفس كمية المطاط والزجاج. ما هو الفرق؟ الفرق يكمن في الثروة الفكرية الموجودة في المرسيدس. عشرات بل مئات من براءات الاختراع تظهر في كل مادة أو خامة أو منظومة. طيب، لماذا توقفنا عند إنتاج الـ 128 لمدة 40 عاماً بينما نجحت اليابان – بلاش اليابان - بينما نجحت كوريا في أن تطور موديلات تصدرها إلى العالم أجمع؟ بلاش كوريا، نجحت ماليزيا في عشرين عاماً في أن تقفز بالسيارة "بروتون" إلى المنافسة العالمية، بينما نفخر نحن بحسن العشرة الطويلة للسيارة 128 التي لا زلنا نصنعها بترخيص من الغير.

من جانب أصحاب المشروعات ورجال الأعمال - كيف يكون الاستثمار في الفكر، ومن الناحية الأخرى - كيف نتوقع من الحكومة أن تعمل على تنمية الثروة الفكرية؟

أولاً، لابد من أن نبتعد عن موضوع محل عصير القصب. في النهاية هناك قدرة محدودة لمثانة السوق في استيعاب كل هذا العصير أو السيراميك أو المكيفات أو محلات الأحذية أو غيرها من السلع أو الخدمات المكررة بصورة حرفية. أول استثمار فكري قد يأتي على شكل منتج جديد أو تقنية جديدة أو دراسة تسويقية يتعرف من خلالها صاحب المشروع على اتجاهات السوق والمنافسة الموجودة والفجوات التي يمكن أن يقوم مشروعه باستهدافها ليكتسب تفرداً وميزة تنافسية. ثانياً، على قدر الاستثمار في تطوير منتجات أو خدمات جديدة أو أساليب إنتاج أكثر كفاءة، على قدر ما تدوم المزايا التنافسية، لأن ما يسهل بناؤه أو تصنيعه، يسهل نسخه وتقليده. ثالثاً، عملية الابتكار وإضافة القيمة هي عملية دائمة، ولابد من وضع آليات داخل المؤسسة للحفاظ على التطوير باستمرار. رابعاً، يمكن الاستعانة بالقدرات البحثية في الكليات العملية مثل كلية الهندسة والزراعة والصيدلة في تطوير منتجات وتقنيات جديدة. خامساً، لابد أن تشجع المؤسسة التفكير والتطوير من خلال هيكل الحوافز، فالمؤسسات لا تحصل على ما تحلم به وتتمناه في كتيب الرؤية، بل تحصل على ما تقوم بقياسه وتشجيعه من خلال الحوافز والمكافآت. سادساً، المكون الفكري لا يقتصر على تصميم منتج جديد، بل يمتد ليشمل تطوير خامات أطول عمراً أو أرخص سعراً، تطوير أسلوب إنتاج يرفع من الإنتاجية، تطوير هيكل إداري يسمح بمرونة وتكيف أفضل، تطوير نظام محاسبي يسهل ربط الأرقام بالأداء، تطوير نظام جديد لقياس رد فعل السوق بصورة أسرع وأدق، تطوير نظم معلومات تساعد على تحليل الموقف واتخاذ القرارات الذكية، تطوير نظام لتنمية المواهب البشرية وتحسين مناخ العمل، إلخ.

هل للحكومات دور في تطوير القيمة المضافة والثروة الفكرية؟ هل لو شجعت الحكومة المصانع على إنتاج سيارات مرسيدس بدلاً من سيارات 128 سوف يرتفع الناتج المحلي 10 أضعاف؟ هذا بالطبع تصور ساذج، ولكن لنا أن نتصور، إذا استثمرنا قليلاً في المكون الفكري أو التسويقي لأي سلعة صناعية أو محصول زراعي أو خدمة، تزداد القيمة المضافة، ويزداد هامش الربح، وتزداد المبيعات دون أي استثمار إضافي يذكر في مبان أو معدات جديدة. وهنا يأتي دور الحكومة على عدة محاور. أولاً تشجيع تنمية المكون الفكري من خلال الحوافز الإيجابية والمنح الخاصة بالبحوث والتطوير. ثانياً، ضخ طلب حكومي على القيمة المضافة والمكون الفكري - وهذا يستدعي تغيير قانون المناقصات طبعاً! ثالثاً، ضخ طلب حكومي قوي على البحوث والتطوير في مجالات بعينها طبقاً لخطة قومية تستشرف فجوات المستقبل وفرصه. رابعاً، إيجاد آليات تمويلية للصناعات والمنتجات ذات المكون الفكري العالي، مثل صناديق تمويل مشروعات المخاطر Venture Capital. تشجيع التعاون بين الصناعة والجامعات والمراكز البحثية من خلال وضع بروتوكولات تعاون ميسرة وإلزام الكليات العملية بأن تخصص ما لا يقل عن 70% من مشروعات التخرج وبحوث الماجستير والدكتوراه لمشروعات مرتبطة بالصناعة والواقع العملي.

عندما استشعرت الولايات المتحدة الخطر من التفوق السوفييتي في مجال الفضاء، أعلن الرئيس كنيدي عن برنامج طموح لوضع أول إنسان على سطح القمر، "نفعل ذلك ليس لأنه سهل علينا ... بل لأنه صعب" وقامت الحكومة من خلال وكالة ناسا بضخ طلب من القطاع الخاص على صناعات الكومبيوتر والاتصالات، وتطوير مواد جديدة، ونظم التوجيه، ومحركات الصواريخ، ووقود الصواريخ، والأبحاث الطبية المرتبطة بالفضاء، إلخ. ماذا كانت النتيجة؟ أصبحت أمريكا هي القوة العظمى الأولى في العالم، ليس لأنها استطاعت وضع أول إنسان على سطح القمر، بل لأنها في خضم الاستعداد لذلك استثمرت في العديد من التقنيات التي ضمنت لها السيادة التقنية والصناعية في مجالات إستراتيجية لسنوات طويلة.

أما في مصر اليوم، وقبل كل شيء، لابد أن نرجع إلى الجذور. المكون الفكري يأتي من عقول البشر وهي التي يشكلها التعليم والإعلام والمسجد والكنيسة. إن قضية مثل موضوع التعبير الخاص بآلاء توضح كيف اغتال النظام قدرة النشء على التفكير الحر المبدع، وكيف اقتحم فيروس المباحث عقول المربين والمعلمين والمصححين. إن نظرة واحدة على كتاب اللغة العربية للصف الثالث الابتدائي بموضوعاته الشيقة عن الأمن الغذائي والأسر المنتجة وتشجيع السياحة وكيف أن الوزارات المبجلة كلها تقوم بدورها على أكمل وجه، أي والله نظرة واحدة على كتاب ثالثة ابتدائي، يوضح المؤامرة السخيفة التي يتعرض لها أبناؤنا. وبدلاً من أن يقوم المسئولون بحل المشكلة من جذورها ومحاكمة أبلة تفيدة مولشاك المتخصصة في التدبير المنزلي والمشرفة على مثل تلك الكتب، فإنهم يرسلون أبناءهم للمدارس الدولية، ليس للمدارس الخاصة أو مدارس اللغات، لأنها كلها لا تزال تخضع لسطوة هولاكو المولشاك، بل للمدارس الدولية البعيدة عن الإشعاع الوزاري الضار، ثم يجلسون معنا على مائدة الحوار ويتحدثون عن النهضة التعليمية الشاملة التي يعاني منها أبناء الشعب المسكين الذي يضطر لضيق ذات اليد للخضوع لوزارة هولاكو وبقية وزارات دولة التتار المفترية.

تنمية المكون الفكري تتحقق عندما لا يصبح الفكر عالة ونكبة على من يصاب به. مصر هي الدولة الوحيدة التي يقوم فيها المؤلف المحترم بسداد مبلغ مالي للناشر حتى يطبع أعماله الفكرية، وبينما تصدح أصوات الجوقة بأغاني أوبريت القراءة للجميع نكتشف أن أول المتضررين من الكتاب أبو جنيه هم الكتاب والمؤلفين الذين لا يحصلون إلا على الفتات – إذا توفر – مقابل أعمالهم. القراءة للجميع مبادرة عظيمة، ولكن لابد أن تصاحبها مبادرة أخرى، وهي الطعام للمؤلفين. عندما يصبح الفكر والبحث العلمي مورد رزق لا نكبة على أصحابه من العلماء والباحثين المصريين الذين ينفقون من جيوبهم على البحث العلمي نظراً لعدم توفر ميزانية! عندما تتوقف الصحف المسماة بالقومية عن الاستخفاف بعقول الشعب وتبتعد عن محاولة غسل مخ الشعب وتبدأ في احترام قدرته على التفكير، عندما تتوقف معاملة الفكر كمرض اجتماعي ونفسي، عندئذ يمكننا أن نعظم من المكون الفكري في الاقتصاد. للأسف، الفكر حزمة متكاملة أو عبوة ينتج عن استخدامها فوائد اقتصادية وتقنية واجتماعية وثقافية، ولكن ينتج عن استخدامها أيضاً أعراض جانبية وتبعات سياسية وأمنية قد لا يستطيع النظام أن يهضمها.

نحن لا ينقصنا البشر، ولا تنقصنا الموارد – عكس ما قد يظنه البعض – ولكن تنقصنا الرؤية الثاقبة، والقيادة الملهمة، التي تستطيع أن تقودنا إلى الأمام من خلال التخطيط الذكي، والتنفيذ المتقن، والالتزام والحزم، والتصميم والعزم، وقبل كل هذا ومعه وبعده، الفكر المجدد، ربنا يكفيكم شر الفكر.





وائل نوارة

Brain Drain
- A Note From the Archive



في كل بلدان العالم، الإنسان هو مصدر الثروة والقيمة المضافة. وبالتالي، فإن الاهتمام بقضية وعلوم التنمية البشرية لا تضاهيه أية أولوية ولا يعلو عليه أي صوت، حتى صوت المعركة، لأن الإنسان أيضاً هو الذي يستطيع أن يحقق النصر في المعارك، هذا بفرض أن النصر هو الهدف. طبعاً هناك استثناء لكل قاعدة. ونظراً لخصوصيتنا الثقافية وظروفنا التي تختلف عن كل بلدان العالم، فقد ابتكرنا علماً جديداً وبرعنا في تقنياته التطبيقية لدرجة مفزعة، ألا وهو علم التصفية البشرية.

هناك، في دول العالم الأخرى المختلفة عنا، تسمع مقولات وحكم فارغة مثل "الرجل المناسب في المكان المناسب"، و"تمكين الإنسان"، و"احتضان المواهب"، وغيرها من الترهات التافهة والتي لا تضمن الولاء، ولا تكفل الخلود في مقاعد الحكم، ولا تساعد على تجميد الواقع الجميل الذي لابد أن نحرص عليه.

أما هنا، فلدينا الحكم الحقيقية الراسخة، مثل "ذكاء المرء يحسب عليه"، و"الرجل المناسب يأتي بواسطة من الرجل المناسب"، و"القهر يولد الطاعة"، و"الشعب لابد أن يُضرب على دماغه"، و"الخلود هو سنة الحياة"، و"اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش"، و"الملف الأسود ينفع يوم العصيان"، مما أدى "لاحتضار المواهب"، و"تمكين أهل الثقة والولاء"، وهجرة المهارات والعقول، وتفشي الإحساس بالظلم والمعاناة من الاكتئاب، وتدهور كل أوجه الحياة، والحمد لله على كل حال.

ونتيجة للتمسك بالسلطة والكراسي الذي نراه في كل مجالات الحياة من صحافة وإعلام ووزارات وهيئات وحكومات، فقد سادت ثقافة مقاومة التغيير بصورة مرضية، حتى أصبح لفظ "التغيير" من الألفاظ القبيحة التي لا يجب التفوه بها باعتبارها سُبة بذيئة وغريبة عن تقاليدنا الأصيلة، وليس أدل على ذلك من اللاءات الثلاثة التي أسعدنا بها المؤتمر الأخير.

ولترسيخ التجميد ومقاومة التغيير، استخدمت النخبة الحاكمة مجموعة من السياسات التلقائية من الإخصاء والإقصاء، والتعقيم والتقليم، والتشكيل والتنكيل، والطرد العكسي والإعدام المعنوي، لضمان تشكيل أجيال تتميز بالمسايرة والامتثال والطاعة والخضوع.

ويأتي الإخصاء بضرب كل من يجرؤ على الاعتراض بصورة تهدد حالة التجميد، بينما ينتشر التقليم للبراعم التي يشي نشاطها المحدود بإمكانية أن تخرج عن الطوع يوماً ما، ثم يأتي التعقيم لتطهير البيئة من أية أفكار أو سلوكيات تدعو للتغيير وتهدد بقاء الأحوال على ما هي عليه. وبالإضافة لأجهزة للرقابة، فقد نجح النظام في غرس مفاهيم الرقابة الداخلية في كل مسئول سواء عن مؤسسة إعلامية أو أكاديمية أو ثقافية، فنجد هؤلاء المسئولين يقومون بالحذف التلقائي لأية أفكار أو عبارات قد تهدد بقاء الوضع على ما هو عليه، فتعطل المسيرة المهنية لأي كاتب أو باحث أو عالم يشتبه في عدم توافق اتجاهاته مع رغبات "المؤسسة".

وتأتي السياسات التعليمية والإعلامية لترسخ تشكيل أفراد المجتمع في قوالب محددة يتعلمون من خلالها أن هناك حدوداً لا يمكن تخطيها حتى في التفكير، فتجد الواحد من هؤلاء إن اشتط في فكره "استعاذ بالله من الشيطان الرجيم"، وتذكر أولاده أو أسر العاملين لديه، بل أن القلم نفسه قد يصيبه شلل رعاش حينما يقترب من التعبير عن الأفكار المخالفة لمبادئ المسايرة والامتثال. وخطورة التشكيل هو أنه يقضي على أجيال بكاملها ويقهرها من الداخل، ويلغي لديها القدرة على التفكير الحر والإبداع، ومن هنا نجد أن المناهج التعليمية ترسخ النفاق والاستظهار والحفظ، ومسايرة الوضع العام والتهليل للحكام والإنجازات التي لا تحدث على أرض الواقع، بينما نجد الصفحات الأولى في الصحف تقوم أيضاً بدورها في عملية غسيل المخ اللازمة لتشكيل أجيال مغيبة عن الوعي وغير قادرة على اكتشاف البديل، فيصبح الواقع المُر بالنسبة لها وكأنه قدر محتوم لا يمكن الفكاك منه.

أما ما يتعلق بعملية الإقصاء أو الطرد العكسي، فنجد أنها تعمل عكس آليات الانتخاب الطبيعي. والأخيرة هي خاصية من خصائص التطور البيولوجي والمجتمعي – وهي نفس فكرة البقاء للأصلح. وقد أدت سياسة تجميد "المؤسسة" ومحاربة التغيير وتكريس الأوضاع على ما هي عليه واتباع سياسات الإخصاء والتعقيم والتشكيل والإقصاء إلى بزوغ هذه الظاهرة الفريدة التي تعمل بمثابة "الانتخاب المقلوب"، فالمجتمع يطرد أفضل عناصره لصالح تكريس الواقع ومنع الارتقاء الداخلي للعناصر الأفضل، ومع منع تلك العناصر من الصعود لأعلى لا يصبح أمامها من سبيل سوى التحرك أفقياً للخروج من المنظومة والالتحاق بمنظومة أخرى تسمح لها بالصعود لأعلى، مثل فقاعات الغاز التي تحاول أن تجد طريقها إلى سطح الماء، وفي حالات أخرى، تعمل هذه العناصر المقهورة على هدم المجتمع ومحاربة النجاح.

وفي مثل هذه البيئة الفاسدة فإن معيار الانتخاب لأعلى ليس فقط هو الولاء، بل أيضاً الضعف واختيار العناصر الفاسدة التي يمكن إزاحتها عند اللزوم بإبراز "ملفات سوداء"، ثم استخدام إعلام الدولة في عمليات الإعدام المعنوي. وبالتالي فلا تسمح الطبقات العليا بصعود عناصر قادرة على إزاحتها فتحاربها وتطردها من المنظومة، وهذه ظاهرة خطيرة بدأت أول ما بدأت في رفض التغيير والرغبة في الخلود في المقاعد، والتي نجدها حولنا في كل مؤسسات الدولة، فجاءت نتيجتها المؤسفة في تفشي ظاهرة الانتخاب المقلوب، التي تغربل المجتمع لتسمح فقط لعناصر ذات قدرات محدودة في الارتقاء لأعلى، مما يضعف المجتمع ككل فضلاً عن أنه يهدم مبادئ العدالة ويحارب طبيعة الأشياء، وهذا ما نسميه بالتصفية البشرية كبديل عن التنمية البشرية.

فعندما يكون المطلوب هو النفاق الإعلامي، فمن الطبيعي أن من يصل لأعلى المناصب الإعلامية يكون هو أكبر المنافقين، وعندما يكون الهدف هو تزييف الانتخابات لتكريس سيطرة حزب ما على الحكم لأطول فترة ممكنة، فمن الطبيعي أن الذي يصل لأعلى المناصب الحزبية هو أعظم المزيفين ... وهكذا.

مع فساد الأهداف تفسد عملية الانتخاب الطبيعي لتعكس هذا الفساد، ومن هنا يظهر أن الفساد لا يقتصر على الرشوة أو المحسوبية أو غيرهما من الظواهر التقليدية، بل إن الفساد يتسع ليضرب جذوره في أعماق المجتمع ويلوث ضمير الأمة، ويفسد طبيعة التعاملات ومنطق الأشياء، ويشوه القيم والسلوكيات، والأهداف والمرجعيات، والنفوس والممارسات.

كيف وصلنا لهذه الحالة؟ والأهم، كيف نخرج منها؟ هذا ما يتعين علينا أن نحاول بحثه في مقالات قادمة بإذن الله.
*****

وائل نوارة
نشرت في
المصري اليوم
16 أكتوبر
2004

Tuesday, August 05, 2008

Permission to Leave
A Note from the Archive

شكرٌ للعطاء

وإذن بالانصراف بسلام

للأستاذ وجيله


وائل نوارة - من أرشيف عام 2003


فاجأنا "الأستاذ" باستئذان جميل يغلبه التواضع، يطلب فيه "الانصراف" ويستعرض التقرير الختامي. ورغم يقين، بأن الفكر ليس له أن يتقاعد، فقد وقفت أتأمل المعاني العميقة وراء هذا الاستئذان، وطافت صور الماضي شخوصه وأشباحه بالوجدان، فشعرت بما يشبه الحنين .. والحسرة .. والأمل.

الحنين لطموحات أطلقها الأستاذ وجيله ومن معه، لماض رأينا أحلامه جميلة رائعة، حتى صحونا على كوابيسه قبيحة مروعة.

الحسرة على شباب غاب، وكهولة ذبلت، وأحلام ضاعت. ولعلني لا أرغب الآن في إفساد هذه المناسبة، باستعراض رسمي، للحساب الختامي، للأستاذ وجيله، ربما لأن الحساب هو من حق أجيال قادمة. وربما، لأنني أتهيب من قسوة الحساب ومرارته. إن نحن انغمسنا فيه الآن، والطريق لا زال وعراً، فقد تزداد ملامحه غموضاً، تتخفى عن قلوبنا وضمائرنا، وأخشى ما أخشاه، أن نضيع فيه، إن نحن ضيعنا طاقاتنا في الحساب والعتاب. أكره أن نبدأ في تناول معاول الهدم والخطر على الأبواب، بدلاً من تركيز كل جهودنا في البناء وتعويض ما فات، تصحيح ما فسد، وفعل ما كان يجب –بل وكان من الممكن- فعله، وتعامى عنه الجميع، سواء من يُحسبون على جيل الأستاذ، أو من هتفوا منا أو من غيرنا لذلك الجيل، أو من قعدوا ساكتين عن الفعل أو الهتاف أو حتى الكلام.

جلسنا نتحدث عن الماضي الجليل
وتبخترت خيوط من الدخان متكاسلة
توقفت الرياح وتباطأت أذرع الطواحين
وزحفت أمواج اليأس متسللة

وجاء صوت من بعيد
يذكرنا بما يجب ولم نفعله
تظاهرنا بالصمم حتى
خبا المصباح فلم نشعله
.... .... .... .... ....
.... .... .... .... ....
.... .... .... .... ....

والأمل، في أن الأستاذ عندما بدأ بالاستئذان، فقد يكون في هذا إيذان، ببدء موجات لطلب الغفران، يترك فيها جيل بأكمله الراية التي توقفت الرياح عن دفعها، ويسلمها لجيل أوشك على الغرق في يأس الكهولة ومتاهة النسيان. نسيان ما يجب أن يكون ولم نفعله.

مصالحة قومية ودعوة للعفو العام
إن الحدث قد يبدو صغيراً، ولكن هذا "الاستئذان" ذا دلالة تاريخية، تفصل بين عصرين، زمن راح، نودعه بمشاعر متناقضة، وزمن آت، ولابد أن يأتي. لابد أن يأتي على أيدينا أو أيدي أولادنا سواء شئنا أم أبينا. في ظل هذا الحدث، انتابتني موجات من الحب والمسامحة، والغفران.

أيها الأستاذ، أقول لكم بكل الحب، لقد عشقنا جيلكم، وإن لم نعشه أو نعه تماماً، أحببناكم حبنا لآبائنا وإن تعددت خطاياهم. أعجبنا بالشجاعة وروح الفروسية بل والرومانسية. مُلئنا زهواً، وتناقشنا لساعات طويلة لغواً، بل وهتفنا في الشرفات حتى دميت حناجرنا الصغيرة – ولا يُعقل أن تتوقعوا أنها للآن صغيرة.

أيها الأستاذ، أقول لجيلكم بكل الصدق، إننا نسامحكم، لأننا نعلم الآن أنكم بشر، ولستم آلهة أو أنبياءً منزهين، كما روج بل وزين بعضكم لبعض.

إننا نشكركم على عطائكم، ونغفر لكم ما قدمتم من ذنب، لأنكم آباؤنا، ونحب أن نعتقد في حسن نواياكم وصدق مقاصدكم.

وفي حمية هذه المصالحة القومية، القلبية بل والتاريخية، نعرض عليكم عرضاً كريماً.

اذهبوا بسلام عليكم السلام. دعونا نعيد البناء على أسس جديدة. إنه عرض خاص لفترة محدودة، قد لا يطول العمر بنا أو بكم – أطال الله في أعماركم – لاقتناصه.

إننا نعرض عليكم هذا الغفران والعفو العام – إن سمحتم لنا – شريطة أن تذهبوا الآن، وقبل فوات الأوان، بما يمثله ضياع الفرصة التاريخية من خطر داهم، علينا وعلى أبنائنا، أحفادكم الأعزاء.

لا نريدكم أن تظهروا على الشاشات، لتحاولوا –عبثـاً- أن تتطهروا من خطايا أو تصححوا ما فات، فلا يمكنكم أنتم في الواقع التصحيح إلا بالذهاب. لا تغامروا بتصفية حسابات، لندفع نحن ثمن المغامرة، فيفلس من يفلس، وينتحر من عجز عن ستر أولاده يوم بدء الدراسة، يأتي خالقه وقد خسر الدنيا وربما الآخرة، يطلب الغفران ممن يملك الرحمة والمغفرة، ويشكو ربه ظلم من ظلوا في مقاعدهم لعقود طويلة، بعد انتهاء العمر الافتراضي.

لقد استنفدت مؤسساتكم مرات الرسوب، وتجعدت وجوهكم مهما حاولتم تجميلها أو صبغها. لقد ضحى جيل أتى من بعدكم بعمره، ليرفع رايات الوطن تحت إمرتكم، ويمسح عاراً أصاب الوطن من جراء رومانسية سياستكم، فحرك ذلك الجيل المنسي عقارب الزمان، وأمسك بمفاتيح المكان، ووضعها بين أيديكم، في إعزاز وانتظر ... ولكنكم عجزتم عن فتح أبواب المستقبل لذلك الجيل المأسوف على شبابه، ولنا ومن يأتي من بعدنا، فكان ما كان.

في أحد الأيام
صحا الصبي مبكراً
ونظر حوله متذكراً
فلم يعجبه ما يرى
وهز رأسه مستنكراً
استفزه العجز .. الفشل .. الظلم والطغيان

قام الفتى قومة هائلة
حطم المقاعد والأصنام
واقتحم الحصون والألغام
ورفع الجباه والأعلام
وحرك عقارب الزمان
وأمسك بمفاتيح المكان
ووضعها بين يديّ الأب
في إعزاز وانتظر

ثم رنا إليّه متعجباً
.... .... .... .... ....
.... .... .... .... ....

.......
.......

الغـد
أيها الأستاذ المحبوب، يا من أنت في عمر أبي، نرجوكم ونتوسل إليكم أن تستمتعوا بالراحة والدعة والسكينة، التي تستحقونها بجدارة بعد جهاد طويل. نود أن ندعو الله لكم بالخير والرحمة، كما يجب أن يفعل كل ابن بار، ولكن ... رحمة بنا وبمستقبلنا، افرجوا عن مستقبل أولادنا الذي لا نستطيع أن نفرط فيه، مهما كان من إعزازنا لكم، ببساطة لأننا لا نمتلكه.

أيها الأب المبجل لا تستمع، لوساوس الخلود أو تنخدع، فاليوم آتٍ آت، بل لعله قد أتى بالفعل. لقد أضعتم الماضي، ثم أدرتم الحاضر بعقل الماضي، أما الغد، فلا يرضيكم ولا يرضي الله أن تحتكروه. لا لضعف منكم أو عدم كفاءة – سامحنا الله، ولكن لكي ينفض الوطن الحبيب عن نفسه أكفان الموتى، وينهض من تلك الحفرة العميقة، لتُبعث من جديد هذه الأمة العريقة، كما يجب أن يكون.

لا نريد أن تظلوا في مقاعدكم حتى تصيبكم الشيخوخة بما لا يليق بمهابتكم أو ينال من وقاركم. نريدكم آباءً مبجلين، وأجداداً محبوبين، يسعدون عندما يرون الأبناء وقد شبوا عن الطوق، يديرون حياتهم بأنفسهم، يخطئون ويصيبون، ولكنهم يتحملون مسئولية أنفسهم، وبيوتهم وأبنائهم، حتى يشب هؤلاء عن الطوق بدورهم، لتستمر دورة الحياة، كما أراد لها الله أن تكون. نود أن ندعو لكم وأن تدعوا لنا، كما يفعل كل الآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد.

علمتمونا أن الجسد الحي يغير خلاياه في كل لحظة، ويجدد دماءه أثناء النوم واليقظة، وأن الجسد الميت فقط هو الذي يتوقف عن التجدد، ليبدأ في التعفن والتحلل، وهذا ما لا تقبلون به للوطن الحبيب، الذي أيضاً علمتمونا تقديسه بعد الله سبحانه.

هل يرضيكم أن يأتي الغد ليجد وجوهاً عابسة، وأيد مرتعشة، وعيوناً انطفأ بريقها ؟ بل هل تظنون أن الغد سوف يأتي إن لم يجد وجوه الصبيان ترحب به بروح الأمل والعزيمة، وملاحة الصبايا تضحك له وتحتفي به ؟ أي غدٍ يكون ذلك ؟ بل أنه بكل أسف يكون بقايا كوابيس الماضي، تستشري كالسرطان فتغزو الحاضر، ثم تتجمل لتوهم الشباب أنه المستقبل. ويهز الشباب رأسه في أدب وأسف وحسرة، فما تعود أن يهزأ بالآباء مهما تجاوزوا.

نرجوكم، اتركوا لنا بريقاً من أمل، لأن الحياة بدونه تؤلم أكثر من الموت، مهما اشتدت قسوة الهراوات. نرجوكم، كفوا عن التعلل بحرج الأوضاع والحاجة لحكمة الكبار. حرج الأوضاع من صنعكم، بل لعله نتيجة لسوء حظكم، الأمران سيان، ولكن من حقنا أن نجرب حظنا في عتبة أخرى.

لماذا الحياة ؟
وماذا يفيد الأمل والشفاه
تنوء بقيد أحنى الجباه
ونحن غفاة

لماذا الزمان
يضِنُ علينا بالصبيان ؟
بحلم يعيد بهاء المكان
ومجداً كان ؟

وكيف الغداة ؟
إذا ما فقد الصبي صباه
وضاع بليل عرض الفتاة
(فرتقناه)

لمَ يا زمان ؟
تحجب عن قلوبنا الفتيان
أبطالاً توقظ الأوطان
والسلطان

وفي الأرحام
بقايا بويضات من ألف عام
صبايا ضحايا عقم الكلام
وظلم الظلام

و ... ... ..
" أثناء غث الكلام .. عجز الظلام والأصنام .. .. ضاق بالألم اللجام
ولدت فصيلة الأقزام .. نشأت تأله الحكام .. وترمم العظام
بدأت تمسك بالزمام .. أخذت تثقب الأرحام والأقلام.. حتى مات الكلام "
(ونحن نيام)
.... .... .... .... ....
.... .... .... .... ....

اذهبوا الآن بسلام، عليكم السلام. ها نحن قد منحنا الإذن. ويبقى عليكم أن تفوا بالوعد.

وائل نوارة
2003
*******************
أعيد نشر هذا المقال الآن - بمناسبة تدوينة للكاتب محمد التهامي التي عرضتها الزميلة مروة رخا بعنوان: "هقولك أفكارك ؟ و أنت تكتب!"، التي تتحدث عن جيل الدكاترة الذين يرفضون أن يفكر الشباب أو يقوموا بتدوين نتاج أفكارهم، أنشر هذا المقال الذي كتبته عام 2003 بمناسبة اعتزال "الأستاذ"، وأذكره بأننا رحبنا باعتزاله وشكرناه على عطائه وشيعناه بكل حب واحترام وتجلة، لكنه يصر على العودة ولا يحتمل البعد عن الأضواء.
*******************

الأبيات مأخوذة بتصرف، عن ديوان "البحث عن الصبي" - وائل نوارة

Thought Monopoly
- Thought Police

في

احتكار

الافتكار



قرأت تدوينة للكاتب محمد التهامي عرضتها الزميلة مروة رخا بعنوان: "هقولك أفكارك ؟ و أنت تكتب!"، التي تتحدث عن جيل الدكاترة الذين يرفضون أن يفكر الشباب أو يقوموا بتدوين نتاج أفكارهم ونشرها في المدونات أو على الإنترنت، وأن ذلك الجيل يرى أنه كان ينبغي على هذا الشباب أن يأخذ الأفكار من الخبراء وأعضاء المجالس وينشرها – بدلاً من أن يتجرأ وينشر الأفكار بصورة عشوائية بعيداً عن أهل "الخبرة الفكرية"!


وقد سمعنا من قبل بعض قيادات الأحزاب "المعارضة" التي تصف مثلاً شباب الفيس بوك بأنهم "عيال لاسعين"، أو أنهم من "القلة المندسة"، أو أنهم "مترفون ومنحرفون". باختصار هناك جيل بالكامل، بل فصيل مكون من جناحين متكاملين، يظن أنه يملك الحقيقة المطلقة، وأن التفكير هو "مهنة" حصرية، مقتصرة على "المفكرين" العظام من الذين اختصتهم الحكومة بالأضواء الإعلامية، والمساحات الصحفية، ومقاعد رئاسة التحرير والتبرير، سواء في الصحف القومية، أو المجالس والمصاطب القومية، أو القنوات التليفزيونية والإذاعية الحكومية، أو هيئة الكتب ووزارة الثقافة الحكومية، وغيرها من هيئات تابعة للجنة الإرشاد القومي، وماكينة البروباجندا الخاصة بالنظام.


ومن نافل القول أن نذكر الجميع، بأن مثل هذه الأجهزة والهيئات القومية، هي من عينة صحافة عيش السرايا، يتبوأها ويجلس على كراسيها ويمسك بنواصيها، ويحتفظ بمفاتيحها، ويصطنع طفاشاتها، ويسطو على خزائنها، مجموعة مميزة من العقداء والعمداء والمخبرين في "جهاز مكافحة الفكر"، ومهمتهم الرئيسية هي التأكد من أن "الفكر" الموجود أو المتاح للنشر في وسائل الإعلام، هو فكر يتوافق مع قيم الطاعة والولاء ومسايرة النظام، وأنه يحتفي بالتوريث والتمديد، ويقدس تجميد الأوضاع لمدد غير محددة، ويجتهد في فنون تحنيط القيادات، وشد جلدهم وصبغ شعرهم وإظهارهم في صور الشباب الأولى باعتبار أنه ليس للزمن تاثير عليهم فهم أبداً مخلدون. أما الفكر الشرير الضار، الذي قد ينادي بالتغيير أو التجديد، أو يتجرأ على الإبداع، أو يتمرد على الأوضاع، وهي الأوضاع المنيلة القائمة، فوأده والتصدي له ودفنه، هي من أولى مهام قيادات شرطة مكافحة الفكر، حيث يفخر الواحد منهم بأن الكاتب الفلاني لم يظهر له مقال في الصحف مثلاً لمدة عشر سنوات نتيجة لاجتهاده في اضطهاده، أو أن الصحيفة الفلانية قد أغلقت لمدة 8 سنوات بناء على تعليماته، أو أن المفكر العلاني قد توفي تليفزيونياً منذ 15 سنة ولم يعد حتى لتسجيلاته القديمة أثر في أرشيف التليفزيون، والفضل ينسب ليقظة العقيد أو العميد أو المخبر حبيب السرايا وعاشق عيش السرايا وشربات عيش السرايا.


ومثل هؤلاء المخبرين بكل تأكيد، هم سقط المتاع في سوق الكانتو الملحق ظلماً بالفكر أو الثقافة أو الإعلام، رغم أنهم يتميزون بقدر غير محدود من السماجة وانعدام الموهبة، مع حقد دفين وعداء سافر معلن وواضح ضد صاحب أي موهبة أو رأي، ولكنهم والحق يقال، لديهم رصيد لا ينتهي من الولاء للنظام، وقدرة غير محدودة على النفاق وتبديل المواقف طبقاً لاتجاه الريح الآتية من السرايا، مهما كانت رائحتها.


ومثل هؤلاء تماماً مثل من يصرخون ويتشنجون في غضب بمجرد أن تتكلم في أي شيء له شبهة علاقة بالدين، فعندها ينتفض الواحد منهم للدفاع عن الدين ويقف بصلابة ضد كفار قريش الذي تمثلهم أنت، وينهيك عن التجرأ بالحديث في أي شيء له علاقة بالدين، باعتبار أن هذا هو شأن المختصين والكهنة وحملة المباخر، باعتبار أن التفكر والاجتهاد هو مهنة حصرية مقصورة أيضاً على طبقة معينة اختصها الله بالعلم والحقيقة دون غيرها، من خلال وصلة إلهية حصرية دي إس إل لا يمكن للعامة أن يشتركوا فيها إلا بعد اجتياز اختبارات عديدة، وإزالة أجزاء معينة من أدمغتهم وبرمجة الأجزاء الباقية حتى تطمئن المؤسسة الدينية إلى أن هؤلاء قادرون على مهام الحفظ والنقل دون إعمال الفكر أو العقل فيما يعرض لها من مشاكل ومعضلات في القرن الواحد والعشرين، فيصبح عليهم أن "يجتهدوا" في البحث عن الفتاوى والاجتهادات ذات الصلة بتلك المعضلات المعاصرة، في كتابات المجتهدين الغابرة، التي تعود إلى القرن الثالث أو الرابع الهجري، أو تلفيق مثل تلك الصلة إن لم تتيسر.


فالفصيل الرافض للفكر كما رأينا، يتكون من جناحين أو قسمين يتكاملان ويتناغمان ويتآمران على الفكر، قسم يتبع النظام وولاؤه لجهاز محاربة الفكر ووزارات الإرشاد القومي، والقسم الآخر يتبع التيارات الدينية وولاؤه لدولة الخلافة ومكتب الإرشاد الديني.

وبين هؤلاء وهؤلاء، ضاع الوطن أو كاد، لأن قواعد العالم الذي نعيش فيه اليوم، تضع جل القيمة المضافة تحت بند الفكر، فالأصول المادية، والموارد الطبيعية والخامات الأولية وحتى العمالة اليدوية، لم يعد لها نفس الوزن الاقتصادي، بل أصبح معظم القيمة المضافة يأتي من نتاج الفكر، سواء في البحوث والتطوير، أو براءات الاختراع، أو من خلال صناعة العلامات التجارية وتسويق البراندات، وهي كلها أنشطة فكرية تحتكرها دول العالم المتقدم، والدول التي اجتهدت في اللحاق بها، بينما تعاني دول العالم الثالث من انعدام أو ندرة هذه الأنشطة الفكرية، نتيجة لانقراض فصيل المفكرين، وضمور عضلات التفكير وهي المخ، تحت تأثير الغسيل المستمر، أو الهيستريا الدينية، وبالتالي فإن نصيب شعوبها من كعكة الاقتصاد العالمي هو نصيب ضئيل لا يسمن ولا يغني من جوع، ومن هنا يأتي الفقر المدقع الذي ترتع فيه هذه الدول.


والعدو الأول لهذه الدول بناء على هذا التحليل، ليس في الحقيقة هو الصهيونية العالمية ولا الإمبريالية الاستعمارية ولا المؤامرات الغربية ولا الإرهاب، وليس العولمة أو ثقب الأوزون، بل أن العدو الأول هو "أجهزة مكافحة الفكر" اللصيقة بالنظم الشمولية، والوجه الآخر لها وهي مؤسسات الهستيريا الدينية في تلك الدول. فمكافحة الفكر والموهبة تبدأ بصورة منظمة "سيستماتيك" منذ السنوات الأولى لكل مواطن وتستمر لحين تحقيق الهدف بنجاح وهو اسئصال الفكر، ربنا يكفيك "شر الفكر". ومن لا ينجح النظام الشمولي أو الهيستيريا الدينية في غسل مخه وبرمجته، يتم طرده خارج المنظومة والمجتمع، فيهاجر غير مأسوف عليه إلى مجتمعات ودول أخرى، يساهم في نهضتها وتقدمها، في نزيف مستمر للعقول، نفرح به كالبلهاء باعتبار أن العاملين بالخارج والمهاجرين يبعثون بجزء من تحويلاتهم بالعملة الصعبة لأهلهم في مصر، أو ينفقون جزءاً من دخولهم في شراء أصول عقارية في مصر، وبهذا يضيفون للاقتصاد القومي ما يشكرون عليه، خاصة أنهم لاقوا الاضطهاد والأمرين من قبل من قبل الجهاز القومي لمكافحة الفكر، ولكننا لا ندرك مدى الخسارة الفادحة، والفرصة الضائعة الناتجة عن هجرة هذه العقول والمواهب، التي تضيف 7 طبقات وأستك من المزايا التنافسية لبلاد أخرى في عالم لا يعرف سوى القوة والمنافسة الشرسة.


ومؤخراً، بدأت الدولة الموازية تجد حلاً لهذه المصيبة، فقد بدأت المنتديات الفكرية والثقافية والمحاورات والمساجلات تظهر وتنمو على استحياء في الفيسبوك، وسبقتها بعض المدونات التي بدأت تعمل بمثابة "إعلام مواز" وصحف موازية، تسجل الأحداث وتنشر الأخبار الممنوعة أو المعتم عليها، ووجهات نظر أصحابها، ومع التنوع الواسع في النقل والنشر والاتجاهات والانحيازات الفكرية، يستطيع القارئ أو المتصفح أن يكون صورة شخصية عن الواقع، هي أفضل بكثير من الصورة الحكومية الرسمية المعتمدة لشكل الواقع، وهي صورة نعلم جميعاً أنها زائفة وبايتة وقديمة، تماماً مثل صور الحكام والزعماء وأزواجهم، التي تصف الواقع طبعاً ولكن في الثمانينات، أو تشد جلد الواقع وتجتهد في صبغ شعره أو تنعيم بشرته أو حقن خدوده بحقن الشباب الوهمية، بينما يعاني الواقع من الشيخوخة والتكلس الفكري والفشل العضوي!


وطبعاً هذا لم يرق للقائمين على الفكر والثقافة، وأولياء أمر الشعب الغرير العبيط، ولله الأمر من قبل ومن بعد. فصرخ هؤلاء جميعاً في صوت واحد، لا وألف لا للفيس بوك والمدونات، التي تفسد أخلاق الشعب وتفتح أعينه على مصائب ومفاسد الحرية والديمقراطية، فجاء مثلاً مشروع قانون تكميم الفضائيات والفيس بوك ليعالج هذا الخلل في السيطرة على مخ الشعب قبل انفلات الأمور خارج نطاق السيطرة، ونلاحظ أن التيارات الدينية على الفيس بوك مثلاً رحبت بمشروع القانون لأنه يتيح السيطرة على الفكر المدني والتقدمي والليبرالي، وحتى نتخلص من "قروبات التنصير" و"العلمانية والإلحاد والانحلال والماسونية والصهيونية العالمية"!


وهنا لابد أن نرد على هؤلاء وهؤلاء. أقول لجيل "الحكماء والخبراء"، وأقول لفصيل "محاربة الفكر" سواء في جناحه المكون من العقداء والعمداء والمخبرين التابعين لشرطة الإرشاد القومي، أو الدعاة النصابين التابعين لشرطة الإرشاد الديني، أقول لهم جميعاً: "لن تستطيعوا تعقيم الفكر أو إخصاء العقول. لقد خرج المارد من القمقم. قيودكم ودوجماتكم هي حدود لكم أنتم ولكنها لا تلزمنا ولن تقيدنا. الفكر ليس حكراً عليكم. خبرتكم بكل أسف لم تفدنا في شيء والدليل هو تدهور أوضاعنا إلى الحضيض في نوبة ولايتكم على مدى نصف قرن." وهنا أنا أتحدث إلى من يمثلون النظام، ومن يدعون أنهم يمثلون المعارضة للنظام من التيارات الدينية، لأننا نعلم جيداً أنهما وجهان لعملة واحدة، عملة رديئة لا يمكن قبولها إلا في ظل احتكار الحقيقة، عملة سقطت سقوطاً مدوياً في الأسواق العالمية كلها، عملة لا يمكن استمرارها لأنها تدور عكس اتجاه عقارب الزمن، عملة مكانها على أفضل تقدير وبمنتهى المجاملة، في متحف العملات التاريخية، أو متحف الفصائل المنقرضة.

وائل نوارة
أغسطس 2008

**************
Original Note:

Feudal System - State Capitalism

عزبنة الدولة

خلال الخمسين عاماً الأخيرة، تعرضت "الدولة" لحالة من "الحكمنة" ثم "العزبنة". فمنذ بداية الستينات، قررت الحكومة أن تسيطر كل أوجه الحياة في مصر، "فأممت" أو في الواقع "حكومت" أو "حكمنت" كل شيء وكل نشاط. والحكمنة تختلف تماماً عن الحوكمة. فالأخيرة تشير إلى ترسيخ مبادئ الإفصاح والشفافية وقواعد الرقابة والمساءلة، للوصول إلى الحكم الرشيد للمؤسسات. أما الحكمنة فهي مرادف للقرصنة، وتشير إلى نوع من أنواع البلطجة الحكومية المقننة والمنسوبة ظلماً إلى الأمة في تعبير "التأميم"، والأمة منها براء. وكما سنرى فالحكمنة عكس الحوكمة في كل شيء وإن اتفقت معها في بعض الحروف.

في البداية تأتي الدولة "فتلقح جثتها" على صاحب العمل أو المبادرة وتتحرش بمشروعه أو مؤسسته، ثم تجبره على "طلب" الانضمام إلى الشركة القابضة الفلانية أو القطاع الإنتاجي العلاني، وتعطيه تعويضات هزلية عن قيمة هذا "الانضمام التطوعي"، وتحوله إلى موظف في المؤسسة التي بناها، ثم تطرده بعد قليل، وفي النهاية تتركه "ليموء" في الشارع. والحكمنة كلمة جامعة مانعة، تدل على سيطرة الحكومة على حياة الناس من قبل ومن بعد، فكل حرف من حروف "الحكمنة"، يشير لحكمة بالغة أو معنى نبيل، فالحاء والكاف يدلان على احتكار الحكومة لكل نشاط، والميم تشير إلى الموت الذي أصاب الدولة من جراء ذلك، والنون تشير إلى "نبوت الفتوة" الذي هو الحكومة وبطشها، والبلطجة التي تمارسها بارتياح تام ودون أي تأنيب ضمير، فهي تمرر القوانين تحت جنح الظلام لتضفي الشرعية على تسلطها وقرصنتها، وتعطي غطاءً أخلاقياً لموظفي عموم الجباية ليردوا به على أي متظلم "أنا لا أضع هذا المال في جيبي، هو يذهب لخير البلد والخزانة العامة."

تجد الحكومة مشروعاً ناجحاً يدر على صاحبه دخلاً يكفيه شر سؤال الناس والحكومة، فتستكثر عليه أن يعيش في كرامة دون أن يحتاج التذلل للحكومة، فتأممه، أو تفرض عليه الضرائب الباهظة حتى يفلس، أو تتهمه بتوظيف الأموال ثم تخضعه للحراسة، أو تلاحقه لسداد قروض بنكية وهي "تأكل عليه" مستحقاته بالمليارات، أو تجعله هدفاً للإعدام المعنوي بتسريب الشرائط الجنسية، أو تلفيق التهم الكيدية، إلى أن تنهار أعماله، فتشعر الحكومة براحة وسعادة بالغة وترى ثمرة نجاحها في حماية الشعب من المستغلين. ولم يقتصر هذا على الأنشطة الاقتصادية، بل امتد للقطاعات الثقافية والاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها.

وعندما أممت الدولة كل شيء و"طفشت" كل صاحب مبادرة أو موهبة أو مهارة، فوجئت أن لديها مجموعة ضخمة من "الخرابات المؤسسية". ففي غياب الإحساس بالتملك تحولت الشركات والجمعيات إلى خرابات ومجمعات. لم تكمن المشكلة فقط في ضياع مفهوم التملك بمعناه القانوني، ولكن الأخطر هو اندثار الشعور بامتلاك جزء من الحلم وبعض لبنات من البناء. ومع اختفاء الفكر الإداري وروح المبادرة والإبداع، وجدت الحكومة أن حصيلة أعوام القرصنة هو أسطول ضخم من السفن "الخربانة" و"المنقورة" ومعظمها على وشك الغرق. نعم، الدفاتر المحاسبية تحتوي على "أصول" موجودة، من مبان ومكاتب وخطوط إنتاج ومخازن على الورق، ولكنها جميعاً خالية من الروح ولا تمثل "أصولاً ذات قيمة سوقية أو قدرة على أن تدر أرباحاً مستقبلية" بالمفهوم الاقتصادي.

ومع هذا الخراب، وجدت الدولة نفسها في وضع فريد. فلديها كيان ضخم، ولكنه "مخوخ" من الداخل، لا يوجد من يديره أو يتحمل مسئوليته، فعهدت بهذه المهمة لمجموعة من المحاسيب وأهل الثقة، سواء من ضباط "الحركة" المباركة أو زملائهم أو تلاميذهم أو من يدينون لهم بالولاء، وفيما بعد اعتمدت على رجال "التنظيم الطليعي"، ثم أعضاء لجان حزب الحاكم الأوفياء والملتزمين بقانون الصمت "الأومرتا"، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ولأن تلك المؤسسات والمصالح أصبحت خرابات جرداء، ذبل الزرع فيها وجف الضرع وتبخر الماء، فقد عجزت الحكومة أن تعطي المقابل أو الراتب "المناسب" للقائمين على تلك المصالح أو العاملين فيها، فوقع بينهما تراض تمخض عن اتفاق غير مكتوب، هو عبارة عن امتياز وترخيص بالاستغلال، استغلال المواطنين طبعاً وسرقتهم و"تقليبهم"، وفرض العمولات الفاحشة والإتاوات والرشاوى الباهظة عليهم إن هم أرادوا التعامل مع المؤسسة أو التعاقد معها بيعاً أو شراءً أو استئجاراً أو توريداً من أي نوع، هذا بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية.

أما الهيئات الحكومية المتحكمة في شئون البلاد وحياة العباد، والمسئولة عن الترخيص لأي نشاط، سواء عقاري أو تجاري أو صناعي، أو حتى تراخيص القيادة والسيارات وتراخيص التصدير أو الاستيراد، أو التحرك أو السفر أو التصريح لأي نشاط من أي نوع، فحدث ولا حرج عن المشارط والأمواس والأدراج نصف المفتوحة، والإتاوات والسرقة بالإكراه وتحت تهديد سلاح "توقيف الحال"، والذي تفضلت الحكومات المتعاقبة مشكورة بوضعه في أيدي هؤلاء الموظفين العموميين عن طريق طبقات ورقع متتالية من القوانين واللوائح التي تمنع وتجرم كل شيء، وتجعل الالتزام بالقانون أمراً شبه مستحيل حتى في أي نشاط بسيط وطبيعي. وبين تلك الطبقات والرقع، تأتي بعناية الثغرات والحفر، والبثور والدمامل والبؤر، التي تتيح للموظف العام أن "يمشي الحال" بعد توقيفه. ولكي "يمشي الحال" مرة أخرى فهو يحتاج إلى تشجيع كبير، وتصفيق وزق وشاي وسجائر، فضلاً عن حافز مادي ضروري لتسليك الطرق الواقفة، وفك العكوسات والأعمال الشريرة، ويعمل بمثابة "المشاية" أو "العصاية" التي يتعكز عليها هذا الحال هو والسيد المسئول.

وهكذا سار الأمر، فمع كل شهر يحصل فيه الموظف على راتب هزلي لا يتناسب مع ظروف الحياة، يتسلم مع إذن القبض تصريحاً ضمنياً يسمح له باستكمال دخله عن طريق الرشوة. ثم صدرت فتوى شرعية تحلل تقديم الرشوة في ظروف معينة، وأصبح الأمر "عال العال".

أعطت الحكومة لعمالها ترخيصاً ضمنياً غير مكتوب بالاستغلال، ينص على أنه "يحق لكل مسئول استخدام سلطته العمومية لاستكمال دخله الحكومي الهزيل عن طريق استغلال الشعب وفرض الإكراميات والرشاوى والإتاوات عليه، وهذا الترخيص لن يعترف به في حالة ضبط الموظف متلبساً، وسوف تنكر الحكومة أي وجود لهذا الترخيص في تلك الحالة."

ولشرح مفهوم "العزبنة"، فقد قسمت الحكومة الدولة إلى مجموعة من العزب والإقطاعيات، ومنحت كل واحد من كبار الموظفين صكاً بملكية إحدى تلك العزب أو بإدارة إحدى تلك الإقطاعيات مع تمتعه بحق الانتفاع. وينص الصك على أنه "يحق لكل مدير مصلحة أن يستخدم المصلحة وأصولها من أجهزة وسيارات حكومية ومصايف وخلافه في أغراضه الشخصية والعائلية، كما يمكن له استخدام مرءوسيه في أعمال التنظيف وشراء لوازم البيت والطهي ورعاية الأطفال وإعطاء مجموعات التقوية لهم. ويمكن التجديد للمسئول حتى يبقى في موقعه بدون حق أقصى والأعمار بيد الله، ويمكن للمدير أن يورث إدارة الشركة أو المصلحة لأولاده، بشرط أن يتجاوزوا سن الثلاثين، وأن يأتي التوريث من خلال ثني ولي القواعد الإدارية، ويمكن في حالات الضرورة القصوى اللجوء لتكسير تلك القواعد في الخفاء وبشرط عدم إحداث ضجيج أو رذاذ أو رائحة كريهة. والحكومة تشجع قيام سوق مقايضة لتبادل المناصب والخدمات بين كبار الموظفين، للأخذ في الاعتبار تباين مؤهلات الأبناء الأحباء وميولهم، وتنوع احتياجات الأقارب وأهل "المدام" لدى المصالح الحكومية المختلفة، مما يحتاج لتعاون المسئولين عنها تحقيقاً للمصلحة المشتركة. كما يحق للمسئول أن يستعين بأولاده في التصدي للمسئولية العامة عن طريق تشجيعهم على مساعدته في العمل، بأن يشرعوا في تكوين الشركات التي تقوم بالتوريد للمصلحة عن طريق الأمر المباشر ودون حد أقصى للقيمة. وفي حالات سوء الحظ قد يتعرض المسئول للملاحقة القانونية إذا قامت حملة إعلامية ضده لفترة تزيد عن 3 أسابيع من النشر المتوالي في الصحف، وهنا سوف تنكر الحكومة أي وجود لهذا الصك، ومع ذلك، فسوف يلقى كبش الفداء كل رعاية في سجون الخمسة نجوم."

ومع انتشار الحكمنة و العزبنة، لم يجد الشعب المسكين أمامه سوى "الحسبنة". حسبنا الله ونعم الوكيل.

Reform Which Nasser Seeks

الإصلاح

من وجهة نظر

عبد الناصر



خلال السنوات الماضية، تصاعدت الأصوات المطالبة بالإصلاح، حتى بدأت الكلمة تفقد معناها، مثل كل الكلمات التي أفرطنا في استخدامها دون جدوى، حتى أضحت خالية من أي معنى أو غاية. وجاء مؤتمر "الحزب الوطني" ليفرض على الشعب "أولويات" انتقائية للإصلاح، ليس طبعاً من ضمنها الإصلاح السياسي والدستوري، فالحزب الوطني الذي يريد تجميد الأوضاع إلى آخر قطرة دم في شرعية النظام، يختزل "الإصلاح" في تخفيضات جمركية وضريبية، حتى أصبحت الصورة مشوشة أمام الكثيرين. لماذا تصر المعارضة على الإصلاح الدستوري؟ ألا يجب أن يأتي الإصلاح الاقتصادي في قائمة الأولويات، حتى يجد الشعب ما يقيم به أوده؟ كيف يمكن أن يؤدي الإصلاح الدستوري المنشود إلى رفع المعاناة عن الشعب بما ينعكس إيجاباً على مصالح المواطن البسيط فيشعر بتحسن مستوى معيشته وانفراج شئون حياته اليومية؟

عبد الناصر الذي أتحدث عنه، ليس الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بل هو مجرد شاب مصري بسيط من الفيوم، تخرج من إحدى الكليات ولم يجد عملاً، فاشترى قطعة أرض في الواحات البحرية بهدف استصلاحها وزراعتها بالأعشاب الطبية وتصديرها للخارج. ومن المعروف أن الزرع يحتاج إلى الماء، وبحث الأخ عبد الناصر عن الماء، فوجد بئراً حكومياً، تكبدت الحكومة مليون جنيهاً في حفره، فاتخذ مثل غيره من المزارعين الإجراءات المطلوبة لاستخدام حصة من ماء هذه البئر في استصلاح وري أرضه. وبعد فترة قصيرة، ونتيجة لإهمال الأجهزة الحكومية المسئولة وتقاعسها عن صيانة البئر، توقف البئر عن إمداد المزارعين بالماء. تقدم عبد الناصر بالشكوى تلو الشكوى، لكل الجهات المسئولة وغير المسئولة، بل وعرض أن يقوم بإصلاح بئر الحكومة من ماله الخاص، ولكن لا حياة لمن تنادي. ماذا يفعل عبد الناصر وغيره من المزارعين، الذين استدانوا من القريب والغريب ليستصلحوا الأرض ويتعيشوا على ثمرها؟

عندما عجز عبد الناصر عن "إصلاح" حال البئر الحكومي، حاول أن يحفر بئراً في "أرضه هو"، ووجد أن عليه الحصول على ترخيص بحفر البئر أولاً. بدأ عبد الناصر في إجراءات الحصول على الترخيص وعلم أن صدور الترخيص يستغرق حوالي 18 شهراً مع الرأفة، وهي الرأفة المشروطة "بحسن السير والسلوك"، وهذا "الحسن" يستلزم امتلاء المحفظة بالأوراق المالية قبل "السير والسلوك" في أروقة الهيئات الحكومية المسئولة عن إصدار التراخيص.

وهنا، اكتشف عبد الناصر مفارقة زمنية تعكس تبايناً رياضياً بين مفهوم الزمن في قوانين الطبيعة وعلوم الأحياء، ومفهوم الزمن عند الحكومة السنية. فقد رفضت الأشجار والنباتات الانتظار دون ماء لمدة 18 شهراً وهي المدة اللازمة لصدور الترخيص. حاول عبد الناصر أن يقنع الزرع بأن عصيان الحكومة في مصر يؤدي لأوخم العواقب، فهبت نسمة رياح جعلت الزرع يشيح بوجهه عنه. وقعت الخصيمة بين عبد الناصر والزرع، غضب الزرع وبدأ يذبل، واصفرت أوراقه وبدأت في التساقط. حاول عبد الناصر مجدداً مع ممثلي الحكومة السنية في الواحات المنسية، فضحكوا منه ومن جهله وسلامة نيته. "هل تتصور يا عبد الناصر أن تتغير لوائح الحكومة من أجلك، فيصدر الترخيص بحفر بئر بعد عدة أيام بدلاً من عدة سنوات؟ هل أنت عبيط يا رجل؟ استعذ بالله من الشيطان الرجيم وعد إلى مزرعتك."

عاد عبد الناصر إلى المزرعة مستسلماً لتسلط الحكومة الجبارة وخلد إلى النوم. وفي صباح اليوم التالي، استيقظ عبد الناصر ليجد بئراً محفوراً في أرضه، والزرع قد ارتوى واستعاد نضارته. وهنا تتباين الحكايات. فعبد الناصر يتهم الزرع بأنه هو الذي تجرأ على عصيان أوامر الحكومة وقام بحفر البئر ليلاً، وشاويش النقطة يتهم عبد الناصر بالتآمر للاعتداء على مخزون المياه الجوفي للصحراء الغربية، كما اقترح البعض أن الأرواح قد سكنت عبد الناصر ليلاً ودفعته لحفر البئر رغماً عنه. وفي كل الأحوال، اضطر عبد الناصر لسداد غرامة مالية ضخمة ويواجه الآن عقوبة السجن بسبب محاولته الآثمة لري زرعه قبل أن يذبل.

الإصلاح من وجهة نظر عبد الناصر، أن يتطابق مفهوم الزمن عند الحكومة مع مفهوم الزمن المعروف في قوانين الطبيعة والأحياء أو يقترب منه. الإصلاح من وجهة نظر عبد الناصر هو أن تساعده الحكومة على ري أرضه وتصدير الأعشاب الطبية، وإن لم تستطع مساعدته فلتصمت وتكفيه آذاها. الإصلاح في وجهة نظر عبد الناصر أن يشعر بالمساواة بينه وبين الكثيرين من محاسيب الحكومة الذين يحصلون على الأراضي والماء دون سعي أو عناء. هذا هو الإصلاح من وجهة نظر عبد الناصر. وهو إصلاح بسيط، ولكنه يحتاج لدستور جديد، دستور يعظم من قيمة المبادرة الفردية، ويلزم الدولة بتقديم الرعاية لكل صاحب مبادرة أو مشروع، مثل كل الدول الأخرى التي سبقتنا، دستور يرسخ روح "السماح" وليس "المنع"، ضرورة "التيسير" وليس "التجريم والعقاب"، مبدأ "افتراض الصدق" وليس "افتراض التآمر"، دستور يتيح محاسبة المسئولين عندما يتعسفون في استخدام السلطة، من أصغر خفير وإلى أكبر موظف في الدولة. هذا هو الدستور الذي يتمناه عبد الناصر.

My Page on Facebook

Wael Nawara on Facebook