كوابيس صباح ديسمبرى - وائل نوارة - التحرير
فى عتمة الليل، تسمع صراخًا يشقّ السكون. الصراخ يشكو من ألم فوق احتمال البشر. ولكن هناك شيئًا آخر. شيئًا ما وراء الألم. يستمر الصراخ، تنهض وتسرع ناحية الصوت. تجد عشة قريبة يشع منها ضوء ملوث بسخام ودخان، عليها لافتة مليطة بطلاء حديث بحروف مشوهة تقول «دكان التأسيسية»، وبالداخل، امرأة ترقد على سرير معدنى قذر، يحيط بها مجموعة من الملثَّمين، بأيديهم أدوات ملوثة تقطر دمًا. هل يقومون بإجراء عملية فى هذه العشة القذرة وعلى هذا الضوء الخافت الأقرب لظلام دامس؟! ورغم أنك لم ترَ وجوههم، فإنك تشعر أنك تعرفهم جيدًا ولكنك تكذِّب نفسك لأنك لا تريد أن تصدق. حدسك يقول إنهم بعض إخوتك، أبناء السيدة الطيبة ربة البيت الذى تعيشون فيه جميعا من خيرها، لكن مَن هذه المرأة الراقدة؟ تحرك السيدة رأسها المُنهَك بخدر الألم وتلتقى عيناها مع عينيك فتصيبك رجفة شديدة عندما تدرك أن هذه السيدة هى أمك وأمهم، ربة البيت وصاحبة الخير كله. لكن ماذا يفعلون بالأم الحبيبة الرؤوم؟ تكتشف أن الأدوات هى مناشير ومشارط، ومن طرف عينيك ترى مشهدًا كابوسيًّا: أحد إخوتك الملثمين وقد سقط لثامه فبدت من تحته لحيته المشعَّثة، يمسك بقدم، بعد أن فصلها عن الجسد الذى فقد الإحساس من هول الألم. وآخر يمسك بيد مقطوعة تقطر دما. والثالث يسلخ قطعة من الجلد ويضعها فى سيالة جلبابه القصير الملوث ببقع دموية. أى جنون أصاب الإخوة؟ وأى لعنة شريرة حلت عليهم وعلى المكان؟
هذا ليس بكابوس.
هذا هو الواقع الذى نعيشه. هذه هى السيناريوهات المخيفة التى تهدد بتمزيق الوطن. ما السبب فى هذا الوضع الذى وصلنا إليه؟ هل كان هذا هو حلم الشهداء؟ كيف نخرج من هذا الوضع الكابوسى قبل أن يتمزق جسد الأم ربة البيت؟
السبب الحقيقى فى ما وصلنا إليه هو وجود حالة من الصراع المدمر فى مصر. صراع ولاءات وصراع أجندات. صراع أجيال وصراع أيديولوجيات. صراع بين سلطة تنفيذية متعسفة تريد أن تحول القضاء إلى خادم عندها، والقضاء الذى يرفض أن يصبح تابعًا مطيعًا يأتمر بأمرها وينفِّذ أجندتها ويتغاضى عن هفواتها وأخطائها، يتعامى عن جرائمها وكيانها غير الشرعى، نعم كيانها السرى الأخطبوطى المتورط فى تنظيمات دولية وقضايا غسل أموال وصفقات إقليمية على حساب الوطن، تريد أن ترهبه ليغض الطرْف عن إعلاناتها اللا دستورية وإصرارها على اغتصاب السلطة والحنث باليمين الدستورية، أن يدير وجهه للناحية الأخرى عندما تشكل الجماعة لجنة تأسيسية لصياغة دستور لمصر، لا يوجد بها أى عضو سوى أعضاء الجماعة والتابعين لها والمتواطئين معها.
صراع بين سلطة تنفيذية تريد أن تسيطر جماعتها المُسِنَّة الرجعية الفاسدة على مقاليد الأمور فى البلاد، وتستبيح أرضها وثرواتها وتستأثر منفردة بقرارها، وقضاء ينفذ القانون ويحاول أن يحكم بالعدل فى وقت أصبح فيه العدل منبوذًا ومكروهًا، لدرجة أن تبذل السلطة الجهد وتستصدر الفرمانات لتعطيله واغتياله إن أمكن.
صراع ولاءات بين قطاع كبير يمثِّل غالبية المصريين، يرى أن ولاءه السياسى الأول للوطن، وجماعة سرية دولية ترى فى نفسها أولوية تعلو على الوطن، وتتخفى وراء الدين الذى يقدسه المصريون، لتمرر أجندتها فى السيطرة والتوسع من خلال غزو سرطانى فيروسى، يعمل على اختراق الدول والمجتمعات، ليغير من شفرتها الجينية، بغرض أن تتحول دولة مثل مصر من جمهورية مستقلة وطنية قائدة للمنطقة وملهمة للعالم، إلى إمارة إخوانية خاضعة لإرادة الجماعة فى دولة فاشية، ويتحول المجتمع من مجتمع مصرى متنوع إلى قبيلة وهابية إخوانية، وتمسخ ثقافته وتتشوه من ثقافة مصرية أصيلة بنت الأرض والنهر والجغرافيا والتاريخ، ثقافة تقوم على التسامح والتعايش واحترام التعددية والخصوصية، ثقافة شعب يعشق الحرية ويحب الفن والأدب والإبداع، إلى ثقافة سلفية نقلية متعنعنة ومتعصبة، متشنجة وإقصائية، متعسكرة ومتخندقة بميليشياتها وجماعاتها السرية ومصالحها الملوثة، بما يمهد الأرض لقيام وتجذر الدولة الفاشية المستهدفة.
الإخوان ومَن والاهم يدَّعون أنهم يفعلون ما يفعلون إعلاءً لإرادة الشعب وانتصارا للثورة. هل نفهم من هذا أن مصلحة الوطن شىء وإرادة الشعب شىء آخر وأهداف الثورة شىء ثالث؟ بالطبع لا، لكنهم وغيرهم يبتذلون هذه المصطلحات لتُضفِى على المصلحة الشخصية والطمع والجشع، هالة من القداسة تمنعك من الاعتراض أو المساءلة.
الإخوان يمسكون بالجسد بوضع اليد، ويجذبونه ناحيتهم، مهددين كل طرف يعارضهم بتمزيق الجسد وتوليع البلد، يعلمون أن باقى أبناء الأم لا يزال ولاؤهم للأم، ولن يقبلوا بأى حال تمزيقها، فيبتزونهم لتمرير خطط الجماعة وإرواء شبقها للسلطة والمال والهيمنة والتوسع.
الديمقراطية هى آلية لإدارة الصراع المجتمعى بصورة صحية وسلمية، ولكن عندما يسعى فصيل، يمتلك تأييدا شعبيا محدودا، للهيمنة، ويصر على الانفراد وحده بوضع شكل الدولة ومقوماتها وقواعد العملية السياسية التى سيتم التنافس السياسى على أساسها، هنا هذا الفصيل يدفع باقى قوى المجتمع خارج مربع التوافق ونحو فضاء المواجهة.
عادة ما يتم وضع قواعد اللعبة -أى لعبة- بالتوافق بين اللاعبين قبل أى تنافس. التنافس لا بد أن يأتى على أساس القواعد التى يتوافق حولها المتنافسون. المشكلة الحقيقية هى أن أحد الأطراف المتنافسة تَلاعَب بالسلطة الانتقالية ليضع وحده قواعد اللعبة لصالحه ويرسم خريطة الطريق فى غياب الآخرين. ومع ذلك، فلم يحصل مرسى إلا على 25% من أصوات الناخبين فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، بعد جهد جهيد وإنفاق رهيب فاق الحد الذى يضعه القانون بمئات المرات، وبعد حشد بالبقالة والمال وكل الوسائل، ومع ذلك لم يحصل إلا على ما يعادل نحو 10% من أصوات المقيدين فى الجداول الانتخابية. تعالوا نفترض أن جماعة الإخوان ومواليها لهم حتى 30% شعبية، هل يُعقل أن يحاول طرف له 30% تأييدًا شعبيًّا أن يحصل على 80% من السيطرة على اللجنة التأسيسية، ليكتب منفردًا دستور البلاد، بينما أيضا هو يمسك بـ100% من الرئاسة و100% من الوزارات، فيتحكم فى السلطة التنفيذية كلها؟ ولا يقنع بهذا بل يستولى على سلطة التشريع، ثم يصدر الفرمات الإمبراطورية ليهيمن أيضًا على السلطة القضائية، وهكذا أخضع السلطات الثلاثة وجمعها فى قبضته، ثم لا يكتفى بهذا وذاك وتلك ودُوكْهم، فاستولى على سلطة إضافية، هى فوق كل هذه السلطات، وهى سلطة إصدار إعلانات دستورية، أى أن كلمة الرئيس تصبح دستورًا يمكن أن ينشئ السلطات ويؤسس لأوضاع تناسبه ويسطر الدساتير وحده لمصلحته ومصلحة أهله وعشيرته، فضلًا عن سَنّ القوانين وقيامه وإياهم بالهيمنة على سياسات ومقدرات وموارد وثروات البلاد.
ماذا توقعت جماعة الإخوان، الصغيرة فى الحجم جدًّا مهما كبرت بالنسبة إلى الشعب المصرى- عندما تحاول أن تسيطر وتهيمن على مصر كلها وتستبعد المصريين جميعا خارج دائرة القرار؟ هل توقعت أن يزغرد المصريون قبل المصريات ويستقبلوهم بالورود والرياحين وماء الزهر ويرشوا فوق رؤوسهم الملح لخزى العين؟ الملايين التى زحفت على ميادين التحرير يوم ثلاثاء الغضب، وهتفت بسقوط دولة المرشد وسقوط الإعلان الدستورى وسقوط الجمعية التأسيسية بل وحل الجماعة الأخطبوطية وسقوط نظامها كله، قامت بأقل ردّ فعل طبيعى لا بد لأى عاقل أن يتوقعه. المشكلة أن جماعة الإخوان المسلمين لم تفهم جوهر الثورة واستخفّت بالمصريين بصورة مهينة، لأنها لم تشارك فى الثورة بقلبها، وإنما التحقت بها فى عجالة فى مرحلة متأخرة بعد حسم الأمور بغرض تحقيق مصلحة، وانشغلت فور ذلك الملحق بالقفز والركوب لامتطاء عجلة الثورة لتحقيق تلك المصلحة الضيقة التى تخص الجماعة وحدها، محاولة اقتطاف ثمار لم يحِن بعدُ وقتُ قطافها، فذاقوا المرارة مرتين، مرارة الجشع والسرقة وقلة البركة، ومرارة الاستعجال على التهام ثمرة غير ناضجة.
ويأتى السؤال: كيف يمكن الخروج من الأزمة؟ عادة ما يكون الرد هو أن الحل يبدأ بأن يقلل كل طرف من شدة الجذب، وأن يتنازل عن جزء من مطالبه، للدخول فى مربع التوافق، وتتخلى جميع الأطراف عن الرغبة فى إقصاء الأطراف الأخرى والبحث عن الوجود المنفرد والسلطة المطلقة.
ولكن فى هذه الحالة أنظر إلى الواقع فأجد أن الرئيس وجماعته لديهم كل شىء وباقى التيارات السياسية والمجتمع ككل ليس بيدهم شىء حتى يتركوه. هم غير ممثلين فى لجنة صياغة الدستور، غير موجودين فى الحكومة، لم يعد لهم حق مقاضاة الرئيس إن وقع عليهم عدوان، بعد أن حصَّن نفسه بقراراته، ولم يعد لديهم شىء ليخسروه، لم يعد لديهم سوى الميدان بكل رمزيته وشرعيته، وشرعية وقوة وجبروت الميدان ليست بأمور بسيطة أو هينة، فهى المنشئ الحقيقى للسلطة القائمة، هى التى أزالت حاكما وأسقطت نظامًا ووضعت آخرين بديلا، لكن بعض الناس لا يعلمون، نسوا أو تناسوا أو صوَّر لهم غرورهم أنهم فوق المصريين، بل أراد الله أن يكشف نفاقهم فختم على قلوبهم فعمهوا فى غيهم لا يبصرون.
الإجابة إذن، أن من بيدهم السلطة، ومن بادروا بالعدوان والاستئثار والانفراد، عليهم أن يعودوا، وإن عدتم عدنا. لن ينجح طرف فى إقصاء الأطراف الأخرى والانفراد وحده بقرار مصر، واستمرار محاولة جذب ذراع أو صباع أو قدم من الأم، لن ينتهى إلا بتمزق الأم إلى أشلاء تقطر دمًا. هذا هو كابوس هذا الصباح الديسمبرى.
No comments:
Post a Comment