لو رأينا سيناريوهات المستقبل، هل يمكن أن نختار أحدها ونسلك الطريق الذي يأخذنا له؟ أم أننا اخترنا بطبيعتنا المحددة أحد المسارات منذ زمن طويل ولا يمكن أن نحيد عنه الآن، وقدرنا أن نلتقي بالنهاية المحتومة؟
السيناريو الأول: تتحول الثورة للعنف ويسقط النظام ولكن!
بدأت مجموعات من الشباب الملثم في تصعيد العنف ضد قوات الأمن، وأعلنت أن الفوضى هي نتيجة لغياب العدل والقصاص، وهجمت على المحلات والمنشآت الحيوية، وقطعت الطرق والكباري السكك الحديدية ومترو الأنفاق، وبدأت هذه الجماعات الفوضوية تستولى على الأتوبيسات وسيارات الأمن المركزي وتهاجم بها محابس ورموز السلطة، مثل التليفزيون وقصور الرئاسة والوزارات السيادية، بينما انسحبت معظم الحركات السلمية ووقفت بعض القوى السياسية في مؤخرة الأحداث تنتظر ما ستسفر عنه المصادمات، ربما تفرز موازين جديدة للقوى تعضد موقفها السياسي والتنظيمي الضعيف، أو عل المواجهات تفرز فراغاً في السلطة يتقدمون بسرعة من المؤخرة لاستغلاله. وانسحب أفراد الشعب المتعاطفون مع الثورة عندما رأوا أنهم ينجرون لمصادمات تنخذ المبادأة بالعنف سبيلاً لها، أما الحركات السلمية، فقد تركت كلها تقريبا الميدان باستثناء خدمات الإسعاف والمساعدات الحقوقية لمن يلقى القبض عليهم.
ولعدة أيام استمرت المواجهات الدامية وحروب الشوارع وامتدت لتشمل رقعة واسعة غير محددة، حيث كانت تأتي الضربات من مجموعات صغيرة في أماكن متفرقة، مثل أقسام الشرطة ومقرات الحزب الحاكم وجماعته، وأعلن الحزب الحاكم أن الشرطة متواطئة مع الفوضويين، رغم أن الشرطة كانت من أكثر المتضررين من الأحداث أفراداً وعتاداً ومنشآت، وبدأت الجماعات الجهادية تخرج بأسلحتها، لتتسع رقعة المواجهات وتتعقد، تارة بين الشرطة والفوضويين، وتارة بين الفوضويين والجماعات الجهادية، وفي معظم الأحيان بين الشرطة وبين أطراف متعددة، أو بين أطراف غير محددة بعضها البعض.
وتدريجيا انهارت قدرة الشرطة على مواجهة الأحداث، وبدأت بعض المنشآت الحيوية ومحطات الكهرباء والمياه والقناطر ووسائل الإعلام تتساقط في أيدي مسلحين متعددي الانتماءات، وأعلنت القوات المسلحة أن الوضع على وشك الانفلات بالكامل فنزلت بكامل ثقلها مدعومة بمطالبات من القوى السياسية محليا ودوليا وسط تأييد شعبي واسع، وأعلنت الأحكام العرفية، ونجح الجيش في أيام قليلة في استعادة السيطرة على بعض المنشآت الهامة، وقلت حدة الاشتباكات إلى حد ما مع عودة اللجان الشعبية وتعاونها مع الجيش.
قرر الجيش إلغاء الدستور الجديد سبب المصائب، وعودة العمل بدستور 1971 بعد تعديله، ودعى القوى السياسية للحوار حول تشكيل مجلس رئاسي مدني عسكري، لإنقاذ البلاد من الفوضى، وبعد أيام من مناقشات عقيمة، انسحبت القوى الدينية من الحوار، وأعلنت أن الجيش يحابي القوى السياسية المدنية، وأنه لا بديل عن عودة الشرعية والرئيس المنتخب والدستور الذي أقره الشعب، وعندما رفض الجيش تلك المطالب بحجة أنها لا تتفق مع معطيات الواقع المعقد، الذي يستدعي تشكيل جبهة سياسية واسعة تشمل قوى أخرى خلاف الإسلاميين للوصول للسلام الاجتماعي، أعلنت الجماعات الدينية تكفير قيادات الجيش، وأنهم قد خضعوا لابتزاز بني علمان ومن يساندهم من القوى الغربية، وأعلنوا الجهاد المسلح ضد الدولة الكافرة التي ترفض تطبيق شرع الله.
ومع ذلك تشكل المجلس المدني العسكري بمشاركة بعض الرموز الدينية، ولكن الجماعات الجهادية بدأت في شن هجمات متتالية على قوات الجيش والشرطة والمنشآت الحيوية، وأعلنت انفصال سيناء وقيام إمارة إسلامية بها، واستغلت إسرائيل الفرصة وبدأت تخترق الحدود المصرية بصورة منتظمة بحجة الدفاع عن نفسها وحماية حدودها، مهددة باحتلال سيناء لأي نقطة تراها مناسبة للدفاع عن أمنها الاستراتيجي إذا لم تنجح السلطة المصرية في استعادة السيطرة على شبه الجزيرة في خلال مهلة محددة.
واستمر الوضع المأساوي غير المستقر لسنوات عديدة، وازدادت المعاناة وشحت السلع الأساسية وانهار الأمن والخدمات بصورة غير مسبوقة، ووقفت الدولة المصرية الحديثة مترنحة على حافة الانهيار.
السيناريو 2: تتحول الثورة للعنف ولكنها تفشل ويولد نظام جديد متوحش
مع قيام المجموعات الفوضوية بمهاجمة الجيش والشرطة والمنشآت الحيوية، طالب الجيش القوى السياسية المعارضة بسحب تنظيماتها من الشارع وإدانة العنف، ولكن في الواقع لم تكن هناك سيطرة حقيقية للمعارضة على الأحداث، فأعلن الجيش أن المعارضة لم تستجب لنداء العقل، وأنها تغامر بإشعال حرب أهلية تهدد المصالح العليا للبلاد، وأعلن الجيش أنه نتيجة لهذا سيتدخل لحماية الشرعية التي اختارها الشعب، وأعلن الرئيس الأحكام العرفية، وأصدر النائب العام الأمر بالقبض على قيادات القوى السياسية المعارضة والحركات الشبابية والإعلاميين المحرضين، وفوض الرئيس القوات المسلحة في اتخاذ ما تراه مناسباً لاستعادة السيطرة على الأوضاع، وحظت هذه القرارات بتأييد واسع من الشعب الذي ضج من غياب السلع الأساسية. فرض الجيش حظر تجول طويل وأعلن التعامل بحزم مع أي محاولة لخرق حظر التجول أو تكدير الأمن، وتم بالفعل إطلاق نيران حية على بعض من خرقوا حظر التجول ليكونوا عبرة لغيرهم، ولكن هذا أدى لتعاظم الغضب ضد الجيش والدولة لدى الجماعات الثورية التي تحول معظمها للعنف ملتحقاً بصفوف الفوضويين، وتصاعدت وتيرة الصدامات العنيفة، ولكن الجيش نجح في استعادة السيطرة على زمام الأمور تدريجياً بتكلفة باهظة من الأرواح والاعتقالات، ثم أخذ في تأمين جميع المصالح والمنشآت والإعلام بصورة مباشرة، وبالتالي بدأت قبضة السلطة المدنية تتقلص، ثم بدأ الجيش في القبض على العناصر الفوضوية والجهادية والكشف عن تسليحها، وألقى بعشرات الآلاف في السجون وتم إعدام المئات ممن أعلن تورطهم في حمل السلاح أو القيام بأعمال عنف وتخريب، ولكن الجماعة لم ترض بخروج السلطة من يدها بهذه الطريقة، حيث أصبحت سلطات الرئيس تقريباً شرفية ومراسمية، وأصبحت كل السلطات في يد الجيش، الذي تواجد ضباطه في كل موقع ومنشأة ومصلحة لحمايتها، ولكن الجيش نجح في احتواء هذا الغضب من خلال إعطاء الجماعة بعض مساحات السلطة والاقتصاد، فرضيت بذلك إلى حين، مضمرة الانقلاب على الجيش في أقرب فرصة، واستمرت البلاد في وضع غير مستقر، وتراجعت الحريات والديمقراطية لأسوأ مستوى لها في البلاد على مر قرن ونصف.
السيناريو 3: تبقى الثورة سلمية وتسعى القوى السياسية للتوافق وتنجح في بناء نظام جديد
أعلنت قيادات المعارضة أن هدفها هو إسقاط دستور الجماعة بصورة سلمية وحذرت من العنف، وشكلت مجموعات كثيفة من الثوار للحيلولة بين الجماعات الفوضوية وبين التصادم مع الشرطة، وأعلنت قيادات شباب الثوار أن اللجوء للعنف هو بمثابة شهادة وفاة للثورة، لأن الشعب سيلفظ جر البلاد للفوضى، ونجحت تنظيمات المعارضة السلمية في جذب أعداد كبيرة من المؤيدين في الميدان، وأصبحت الجماعات الفوضوية معزولة وانكشف صغر حجمها وتأثيرها الضعيف، وبدأ أعضاؤها ينسلون منها واحداً بعد الآخر لينضموا للتنظيمات الثورية السلمية أو يؤيدونها ويمشون وراءها. وحاصر الثوار قصر الاتحادية، وبعد عدة أيام وضغوط من وراء الستار من جهات متعددة، أعلن الرئيس إلغاء العمل بالدستور المعيوب، والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وفوض رئيس المحكمة الدستورية العليا في رئاسة البلاد بصورة مؤقتة، وتم تشكيل لجنة بتمثيل متوازن من كافة أطياف الشعب لوضع مسودة لدستور الثورة، وقام تيار إصلاحي من شباب الجماعة بالإطاحة بالقيادات "التي شاخت" وأعلنوا حل تنظيمات الجماعة السرية وميليشياتها العسكرية وتصفية شركاتها، وأسس البعض الآخر جمعيات دعوية وأقسموا على الابتعاد عن السياسة بشكل كامل، مكتفين بوجود أحزاب سياسية تمثلهم دون تداخل بين السياسة والعمل الدعوي، وأعلن حزبهم بعد إعادة تشكيله أنه لن يسعى للحصول على الأغلبية في البرلمان القادم، وأنه سيكتفي بالمنافسة على ثلث المقاعد، حتى لا يحصد سلطة أكبر من تمثيله الحقيقي في المجتمع، وحتى لا يصبح تفوقه التنظيمي واللوجيستي سبباً لهلاكه، مع إعطاء دور أكبر لشباب الثوار والمرأة والمسيحيين والعمال والفلاحين وأهل البدو والنوبة بجانب الخبراء والعلماء والمفكرين، وبدأت البلاد لأول مرة تتنسم عبير السلام الاجتماعي، وبدا أن الصراع السياسي الطويل قد أقنع جميع القوى والطوائف أنه لا يمكن التخلص من أي طرف، وأن حصول أي حزب أو جماعة على نصيب أكبر من حجمه الحقيقي هو عبء عليه وليس ميزة، وأن المشاركة في المسئولية بين الجميع عقب ثورة عظيمة، هو الحل الوحيد لبناء نظام جديد يتسع للجميع ويسمح بالخروج من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتفاقمة. وفي خلال شهور قليلة، بدأت وطأة المشاكل والأزمات والكوارث تخف تدريجياً، ثم بدأت مصر تحصد ثمار الاستقرار السياسي اقتصادياً واجتماعيا، ولم ترض بعض القوى الإقليمية والدولية عن هذا الوضع الجديد، وبدأت تحيك المؤامرات لوضع بذور الفرقة بين المصريين من جديد، خشية من القومة الهائلة للعملاق المصري من سباته العميق.
خاتمة
والآن، أي سيناريو نختار؟ وهل يمكن أن نقوم بعمل فلاش باك من السيناريو المطلوب ونشرع في تنفيذه اليوم؟
كتب هذا المقال مساء 24 يناير 2013 وتم إرساله لجريدة التحرير صباح الجمعة 25 يناير
No comments:
Post a Comment