فى اجتماع بعيادة الدكتور عبد الجليل مصطفى صباح الأحد 6 فبراير 2011 بحضور عدد من قيادات الجمعية الوطنية للتغيير وشباب الثورة، سادت قناعة بأن النصر فى هذه الثورة لن يكون دائما بالضربة القاضية، ولكن بمزيج من معارك نكسبها بالضربة القاضية وأخرى ننتصر فيها بالنقاط، وهو ما تنبأ بالمسارات المعقدة التى ستأخذها الثورة قبل تحقيق أهدافها. فبعد 12 يوما من الثورة، وصلنا إلى نقطة تجلت فيها بوضوح طبيعة الثورة وعقيدة الشعب المصرى فى ما يتعلق بها. فالشعب المصرى كعادته أوضح أنه لا يحب الدم ولا يتسامح مع من يقود البلاد إلى أوضاع تفتح صنابير الدماء أو تؤدى إلى فوضى شاملة تنهار معها الخدمات الأساسية لفترة طويلة، فتتوقف معها مثلا البنوك والمواصلات وإمدادات الوقود والخبز والسلع الأساسية والأدوية والخدمات الصحية، وقد تنتج عنها حربا أهلية ومعاناة واسعة مثل التى شهدناها لسنوات فى الصومال ودول إفريقية عديدة.
فمصر، بخلاف دول أخرى، هى دولة كثيفة السكان -وتحديات استمرار الحياة الطبيعية أو شبه الطبيعية فيها تستدعى استمرار عمل آلاف الأنظمة الرسمية والموازية بصورة تفاعلية ومتداخلة بدرجة عالية التعقيد. صحيح أن كثيرا من هذه النظم «ذاتى التنظيم» self-organized، وينتمى إلى الدولة الموازية والاقتصاد غير الرسمى، لكنه يعتمد بصورة أو بأخرى على أنظمة رسمية، وانهيار الأنظمة الرسمية بالكامل لعدة أسابيع، سيؤدى إلى تحور الأنظمة الموازية وزيادة تكلفتها بصورة تجعل من الصعب على ملايين المصريين الحصول على الخدمات الأساسية منها، فيشح الخبز والطعام وتبدأ أعمال العنف والسلب والنهب لمجرد الحصول على الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للحياة.
وكانت قد وصلتنا تحذيرات متشابهة ومتكررة من الإخوان المسلمين وبعض الشباب ممن التقوا النائب الجديد آنذاك عمر سليمان خلال اليومين السابقين، بأن عدم القبول بخطته (خطة مبارك) التى تضمنت تغييرات محدودة، مع بقاء مبارك حتى انتهاء مدته الرئاسية الخامسة فى شهر سبتمبر! وتعهد سليمان بعدم ترشح مبارك أو نجله فى الانتخابات التالية. وكان التحذير هو أن الاستمرار فى رفض الحوار مع سليمان إلا بعد رحيل مبارك، سينتج عنه انقلاب عسكرى فى نهاية الأسبوع (بحلول 11 فبراير) وهو ما حدث بالفعل. وكان الموقف المبدئى الذى اتخذته الجمعية الوطنية للتغيير والبرلمان الشعبى (الموازى) وخالفه الإخوان المسلمون وبعض الشباب الذين ذهبوا فرادى، هو رفض الحوار إلا بعد رحيل مبارك.
وكان تقديرى الشخصى أن بقاء مبارك لعدة أشهر يحمل مخاطر كبيرة جدا على الثورة والثوار، وأن وصول الجيش إلى السلطة سيكون مؤقتا، فكتبت يوم 10 فبراير 2011 «لا نخشى من انقلاب عسكرى» لأن الثورة قامت بالفعل وأن تدخل الجيش سيكون «لتفعيل الإرادة الشعبية» التى أفصحت عن نفسها يوم 25 يناير وما تلاه، وأننا لا نخشى أن يمسك الجيش بالسلطة ولا يعطيها إلى المدنيين، لأن معادلة توازن القوى بين السلطة والشعب قد تغيرت فى مصر إلى الأبد، ولأن الشعب هتف «لا دينية ولا عسكرية.. عايزينها دولة مدنية». وكان تقديرى أيضا، أنه حتى لو قررت الجمعية الوطنية للتغيير أو أى جهة أخرى التحاور مع عمر سليمان فإن نتائج هذا الحوار لن تلزم الثورة أو من فى الميدان، وبالتالى فمن الأجدى الاستماع إلى «العقل الجمعى» للثورة والتفاعل معه على موجة الفكر الثورى لا الانتهازى، بعيدا عن صفقات الإخوان وسعيهم إلى الحصول على أكبر قدر من المكاسب من الثورة التى التحقوا بها بعد 4 أيام!
الثورة على الطريقة المصرية إذن كانت فى رأيى «سلمية» من جانب الثوار والشعب، أما من سقطوا من ضحايا فكانوا نتيجة لعنف السلطة وليس عنف الثوار، إلا فى حالات محدودة أغلبها هى حالات دفاع عن النفس أو كرد فعل محدود لعنف مبالغ فيه من جانب السلطة. وهذه «السلمية» وعدم القبول بمخاطر تعريض البلاد لحرب أهلية أو فوضى أو معاناة شديدة، ظهرت مرات كثيرة فى خلال عامى الثورة، منها مثلا فى أحداث وزارة الدفاع فى مايو 2012، حيث امتنع كثير من الثوار عن الانضمام إلى الصدامات فى مواجهة الجيش فى محيط العباسية، وعارض الشعب بشدة هذه التظاهرات ليس تأييدا للمجلس العسكرى بقدر ما هو حفاظ على الجيش كركن مهم فى الدولة المصرية. وظهرت عقيدة الثورة المصرية أيضا فى نتيجة انتخابات الرئاسة، حيث دعم عاصرو الليمون من مؤيدى الثورة مرشح الإخوان د.مرسى حتى لا يعود النظام القديم بأى صورة، كما صوت لمرسى قطاع خشى على الوطن من مخاطر رد فعل الإخوان المسلمين الذين هددوا علنا «بتوليع البلد» حال فوز شفيق، أما معظم من أيدوا شفيق فقد أيدوه لنفس السبب السابق تقريبا من وجهة نظر أخرى، وهو أنهم يخشون من استمرار الفوضى ويريدون استعادة الاستقرار، وبالطبع لا يريدون قيام ديكتاتورية دينية على أيدى الإخوان وأذرعهم.
ورغم الطبيعة السلمية للثورة التى أدعيها أنا، فإن هذه اللوحة السلمية ملطخة بالدماء فى كل أنحائها لأسباب عديدة منها ما يتعلق بطول مسار الثورة نفسه. فالثورة هى حالة من المشاعر والأحاسيس الملتهبة، التى قد تهدأ مع الزمن بطبيعة الأمور، قبل أن تتحقق أهدافها. وفى لحظات عتمة يظهر أن الإجهاد قد طال الجميع، وأن الاستمرار غير مجدٍ وضرب من الانتحار، وتتعالى الدعوات بالقبول بالفتات التى تلقيه السلطة فى طريق الثورة، ويضطر البعض إلى أن يعودوا إلى أعمالهم ومشاغلهم، ويبدو وكأن جذوة الثورة ستنطفأ.
وهنا يظهر الشهيد بريشة عملاقة يغمسها فى دمه الطاهر ويلطخ بها مشهد الثورة، ليوقد نيران تلهب المشاعر، توقظ الثورة فى نفوس الشعب، ويسقط الجرحى والشهداء من جديد، لأن الشهيد لا يرضى أن يذهب دمه هدرا، فيزور أرواحا أطهر من فينا كلما كادت نار الثورة أن تخبو فى النفوس.
فوقود الثورة «السلمية» إذن هو دماء الشهيد الذى يرقد تحت الثرى، و«عيون» الشهيد الحى الذى يمشى بيننا، مهما ادعينا غير ذلك.
اتضحت طبيعة الثورة «كمعركة طويلة بالنقاط» مرات أخرى فى أثناء الموجة الثالثة من الثورة وفى أحداث الاتحادية، عندما استمرت المظاهرات المليونية لعدة أسابيع رغم أن الإخوان ظنوا أن الثورة قد خمدت تماما، حتى اضطر مرسى لإلغاء القرارات التى سميت زيفا بالإعلان الدستورى جزئيا، فهدأت حدة الثورة بعد أن كادت تطيح بمرسى وإخوانه، ورغم إصرار مرسى على طرح «دستور» برهامى المعيب على الشعب فى الاستفتاء، فضل الشعب أن يرضى بمكسب جزئى ويؤجل باقى المطالب والحساب إلى جولة أخرى، بعد أن رأى عزم الإخوان المسلمين والجماعات الأخرى التى تعتبر كأذرع عسكرية للإخوان علاوة على ميليشيات الإخوان أنفسهم، على إراقة الدماء ودفع البلاد إلى حرب أهلية كما هددوا بذلك فى الفضائيات، رغم اتضاح صغر حجم وتأثير تلك الجماعات فى المواجهات التى اندلعت فى مختلف المحافظات وفى أحداث الاتحادية والإسكندرية، إلا أن المعلومات حول قيام تلك الجماعات بتخزين كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والصواريخ العابرة للمدن والمضادة للطائرات والدبابات، ضخم من خطر تلك الجماعات الإرهابية مهما كانت صغيرة حجما. وبعد أيام شارك نحو 30% من الناخبين فى الاستفتاء، وأصرت الكتلة المؤيدة للثورة على رفض الدستور فى الصناديق كما رفضوه فى الميادين والتظاهرات، ومرة أخرى تتضح الطبيعة المركبة للثورة Hybrid Revolution وضرورة الالتزام بالنفس الطويل للنجاح فى الوصول إلى أهدافها.
والآن المرحلة القادمة لا تقل تعقيدا وتركيبا عما مضى. فعلى المسار الثورى، تحشد قوى الثورة لموجة من الاحتجاجات تبدأ يوم الجمعة 25 يناير بعد أقل من أسبوعين، لإسقاط دستور الإخوان الذى يضع «قيودا كاملة (على الحقوق والحريات) لم توجد من قبل فى أى دستور مصرى» على حد اعتراف برهامى نفسه، بينما تستعد قوى سياسية مؤيدة للثورة لدخول انتخابات مجلس النواب فى خلال أسابيع قليلة. فالمسار الأول يضغط لإصلاح العملية السياسية، والمسار الثانى يشارك فى العملية السياسية رغم عوارها وفسادها. ولعل الإخوان يدركون أنهم فى سباق مع الزمن، حيث يحاول مرسى أن ينصب حوارا وطنيا لتعديل دستور أُقر منذ أيام قليلة ولم تجف أحباره بعد، ونجد أحد المشاركين فى الحوار من حلفاء الإخوان أنفسهم يقول إن هناك 160 مادة فى الدستور تحتاج إلى تعديل، أى أن أكثر من ثلثى مواد الدستور الذى مُرر منذ أيام قليلة وقال عنه الإخوان وحلفاؤهم إنه أفضل دساتير العالم قاطبة معيبة، والآن يسعون إلى تغييره بسرعة فى محاولة لاحتواء ثورة الغضب القادمة، وتتعجب لماذا مرروا هذا الكائن المشوه بتكلفة ألف شهيد وجريح ومليارات ضاعت فى الاستفتاء وعشرات المليارات ضاعت فى خسائر للاقتصاد المصرى وانهيار العملة الوطنية، وشهور بل سنوات ضاعت من عمر الوطن كان يمكن أن نستخدمها فى بناء نهضة حقيقية بعد أعظم ثورة شعبية شهدها التاريخ، لولا أن جماعة صغيرة تصر على اختطاف الوطن مدعومة بالبترودولارات ودواعى الحفاظ على المصالح الصهيوأمريكية فى المنطقة.
فى هذه المرحلة القادمة نذكر أنفسنا بحلم الشهيد. «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية، مساواة، مواطنة، ديمقراطية، ودولة مدنية». وهذا الحلم لن يتحقق إلا بأن نسير فى هذه المسارات المتوازية، ونكسب ما نستطيعه من المعارك بالضربة القاضية ولكن نستعد لأن النصر فى معظم الجولات سيكون بالنقاط. الهدف الأول هو أن نقيم نظاما ديمقراطيا حقيقيا يُمثل فيه الشعب، فيرى نفسه عندما ينظر فى وجوه النواب والنائبات، والوزراء والوزيرات، أما عندما تنظر فترى فقط السحنة البرهامية مع احترامنا لأصحابها، تعلم أن هناك فصيلا واحدا يهيمن وحده على قرارات وتشريعات وسياسات ومقدرات وثروات الوطن، مستعينا بأموال البترودولار التى يعتذر أصحابها الآن عن ضخها فى جيوب وسيالات مشايخ الإفك وقنوات التكفير.
فى هذه المرحلة نذكر أنفسنا بواجبنا نحو الشهيد. أن نتمسك بحلمه البسيط، والنبيل، والمشروع، والممكن. حلم مصر قوية متقدمة يعيش فيها شعبها بكرامة وعزة. نذكر أنفسنا أننا لا بد أن نستمر فى السير فى هذه المسارات المتعددة معا. لأن هذه هى طبيعة التغيير على الطريقة المصرية.
No comments:
Post a Comment