كشفت الشبكات الاجتماعية عن فيديو خطير، يشمل اعترافات للشيخ برهامى، أحد أعضاء اللجنة «التأسيسية» لوضع الدستور، وأحد رجال الدعوة السلفية. وتوضح هذه الاعترافات عدة أمور. أولها وجود مؤامرة على الشعب للسيطرة على الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، فبدلا من انتخاب جمعية تأسيسية تعبر عن الشعب بكل فئاته طبقا للإعلان الدستورى، استقر عزم التيار الطائفى (الإخوان ومن مشى فى ركابهم من سلفيين ومنافقين وتوابع)، على السيطرة على «التأسيسية» بالخداع. فبعد أن تم حل «التأسيسية» الأولى بحكم المحكمة، عجز التيار الطائفى عن تشكيل جمعية تأسيسية تحظى بالتوافق، فقرروا اللجوء إلى التدليس، فاتفقوا أولا مع التيارات المدنية على أن «يقتسموا» تشكيل «التأسيسية»، بحيث يحصل التيار الطائفى على 50% ويحصل باقى القوى على الـ50% الأخرى، رغم أن حجم التيار الطائفى فى الشارع لا يتعدى 30% طبقا لنتيجة المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية التى ظهرت فى أثناء هذه المداولات، ورغم أن 60% من الشعب المصرى مستقلّ وغير مؤدلَج ولا ينتمى إلى أى تيار أصلا، وكان يجب أن يُمثَّل فى أعضاء مستقلين من النقابات والاتحادات العمالية والفلاحية والغرف التجارية وهيئات التدريس ومؤسسات المجتمع المدنى وهكذا، فإن التيار الطائفى لجأ إلى حيلة رخصية شرحها برهامى بكل فخر، بأن قام بزرع عناصر وخلايا نائمة موالية للتيار الطائفى فى الـ50% المخصصة للتيارات المدنية والمجتمعية، وبهذا حصلت أقلية متطرفة صغيرة على أغلبية مطلقة فى الجمعية التأسيسية تتيح لها التلاعب بهوية البلاد والتآمر على شعبها.
ثم جاءت الخطوة الثانية، حيث اعترف برهامى فى الفيديو بأن الثوار، الذين كفَّرَهم التيار السلفى وقت الثورة وقبلها وحرَّم خروجهم على الحاكم، كانوا يحلمون بإقامة دولة مدنية تقوم على الديمقراطية والمواطنة، وحاول برهامى ورفاقه أن يحذفوا أى إشارة إلى مبادئ الديمقراطية والمواطنة التى تبناها الثوار، ولكنه نجح فقط فى حذف مصطلح «دولة مدنية» تماما من الدستور، رغم أن الإخوان صرحوا فى مرات عديدة أنهم مع تأسيس دولة مدنية بمرجعية إسلامية، ولكنهم كالعادة لحسوا كلامهم. ومن المؤسف أن يجتهد برهامى ورفاقه فى اغتيال حلم الشهداء، الذين حرروا التيار الطائفى من السجون وأخرجوهم من الجحور، ولكن للأسف هذه هى طريقة برهامى فى ردّ جميل الشهداء باغتيال حلمهم النبيل والمشروع.
ثم جاءت الخطوة التالية بالتلاعب فى نصوص الدستور من خلال وضع ألفاظ مطاطة وغير مفهومة لباقى أعضاء «التأسيسية» خصوصا المسيحيين، ويعترف برهامى بأن الألفاظ التى وضعها غير مفهومة لـ«العلمانيين والنصارى»، وأنها تفتح الباب على مصراعيه للتلاعب فى التشريعات بل والأحكام القضائية من خلال تضمين المادة «219» لكمّ ضخم من الاجتهادات المتناقضة التى عفا عليها الزمن والتى تمكِّن المشرِّع والقاضى إن أراد من أن يعصف بحقوق وحريات المواطنين وينزل بهم العقوبات من كتب ومتون صفراء متهالكة.
ثم يشرح برهامى بكل فخر كيف استغل الأزهرَ فى وضع حزمة من المواد تغتال الحقوق والحريات، عن طريق دس هذه السموم فى ورقة واحدة وفى وسطها مادة تمنع عزل شيخ الأزهر، وبهذا يجبر شيخ الأزهر على اختيار الحزمة كلها بما فيها النصوص المسمومة التى تعصف بحقوق المصريين، رغم أن برهامى يوضح فى اعترافاته نيته المؤجلة فى العصف بشيخ الأزهر وبالأزهر كله فور أن تستقر لهم الأمور، لأن الشعب الآن على حد قوله يحترم الأزهر ويجله وبالتالى لا بد من تأجيل هذا المخطط الآن، فيرد أحد الشيوخ فى نفس الفيديو: «الآن قد اطمأن قلبى»، بما يوضح عزم هذه المجموعة على هدم ركن مهمّ من أركان الدولة المصرية، وهو الأزهر الشريف، وسر تربصهم به هو كونه منارة للإسلام «الوسطىّ المصرىّ»، وهو جزء أصيل من الهوية المصرية، ولا بد لهدم هذه الهوية وغزو الوعى المصرى بالفكر الوهابى المستورد، من القضاء على المقاومة المناعية المصرية المتمثلة فى الأزهر أو غزو الأزهر نفسه ليتحول إلى الوهابية.
ويستطرد برهامى فيوضّح أن المواد التى نجح فى تمريرها لم تدخل من قبل فى أى دستور مصرى، فى دليل آخر على التوجُّه الاستعمارى للتيار الطائفى.
ثم يشرح برهامى كيف استطاع وضع مادة تنسف الحقوق والحريات، رغم أن ملايين المصريين خرجوا فى الثورة ينادون بالحرية (عيش - حرية - عدالة اجتماعية - كرامة إنسانية)، إلا أن برهامى قرر أن المصريين لا يستحقون هذه الحرية وأصر على اغتيالها، من خلال مادة غامضة تقول «تمارَس الحقوق والحريات بما لايخالف المقومات الأساسية المنصوص عليها فى هذا الدستور»، وهى ما يفتح الباب لاغتيال الحريات بموجب أى فقرة فى صفحة صفراء من ملايين الصفحات التى دُوِّنَت فى عهد الدولة الأموية أو العباسية مثلا، والتى تشكل الآن المرجعية المطاطية للمشرِّع بل والقاضى!
ويستطرد البرهامى ليشرح كيف نجح فى نسف حقوق الإنسان، فيقول إن حرية العقيدة، وحرية الفكر، وحرية الرأى، وحرية الإبداع، كلها أصبحت مقيَّدة بفضل النصوص المسمومة التى نجح فى أضافتها، وكيف أن هذا الدستور به «قيود كاملة لم توجد فى أى دستور مصرى من قبل»!
ونأتى لنقطة مفصلية تكفى لهدم هذا الدستور كله، حيث استطاع برهامى بمعاونة عضو آخر فى «التأسيسية» أن يضع نصا فى المادة «76» يتيح استحداث عقوبات وجرائم دون نص قانونى! ويقول برهامى إن العوا قام بإضافة عبارة تقول «لا جريمة ولا عقوب إلا بنص قانونى أو دستورى»، وهو ما يفتح الباب لأى قاضٍ أن يحكم مثلا بصَلْب أحد معارضى الحاكم بحُجَّة أنه من المفسدين فى الأرض مستندا إلى الموادّ «2» و«4» و«76» و«219»، وأحد المتون القديمة التى تمثل جسما ضخما هلاميا مطَّاطيًّا يعد الآن مصدرا للتشريع والعقوبة، وهو ما حذرنا منه فى مقال سابق، ولكن قيل لنا «لا تغرقوا فى سوء الظن» ليتضح أن هذا كان هو الغرض الرئيسى لوضع هذه العبارة. والطبيعى أن الدستور يخاطب المشرِّع أو المحكمة الدستورية العليا أو المحكمة الإدارية، ولكن الآن أصبح الدستور يخاطب القاضى، ويمكِّنه من إدانة اى شخص وإنزال عقوبات به دون وجود أى قانون يجرِّم هذه الأفعال، بل يمكِّن هيئات مجتمعية أن تقوم بنفسها بتطبيق حدود تراها مناسبة من وجهة نظرها، حيث يتيح الدستور طبقا لبرهامى إنشاء «هيئات للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» بقانون ينظمها.
ومن المفارقات أن المادة «76» فى دستور مبارك كانت أحد أهم أسباب الثورة والإطاحة به.
وقد تم وضع هذه العبارة بعكس جميع الدساتير والتشريعات فى العالم رغم اعتراض القضاة من أعضاء «التأسيسية»، ومنهم على حد قول برهامى «قضاة إسلاميين تعبونا قوى لأنهم شاربين القانون ولم يستطيعوا التخلى عنه»، ورأوا فى هذه العبارة عوارا دستوريا واضحا، ولكن هذه المادة مُررت، ومن العجيب أن يطلب العوا الكلمة وسط عملية التصويت ويرفض علنا هذه المادة، رغم أن برهامى يقول إن العوا نفسه هو الذى اقترح نص المادة قبلا، ولعله تراجع بعد أن فكَّر فى العواقب الوخيمة، لكن هذه المادة لا يصح معها مجرد التصويت بـ«لا» مع الاستمرار فى «التأسيسية»، لأنها تنسف فكرة دولة القانون والفصل بين السلطات من الأساس، حيث تتيح للقضاء استحداث عقوبات لم يقرَّها المشرِّع وتنسف أيضا فكرة «السيادة للشعب»، والاختلاف حول هذه المادة لا يصحّ بمجرد رفضها فى التصويت، بل بالانسحاب من «التأسيسية» وفضح هذه الكارثة إن أراد العضو الإنصاف لا مجرد إبراء الذمة صوريًّا، بينما يترك الجريمة تكتمل، كما تظهر النية المبيتة فى نسف فكرة دولة القانون وإقامة دولة الفقيه فى اعترافات برهامى بخصوص المحكمة الدستورية العليا وما رأيناه من حصار المحكمة من أنصار التيار الطائفى.
ويوضح برهامى كيف تجاهلت «التأسيسية» المسيحيين، وأن الكنيسة لم تحصل على أى من مطالبها، ويطالب زملاءه بأن يتشددوا فى الإعلام ضد البابا والكنيسة الذين تجرؤوا وطالبوا بالتدخل فى صياغة المواد الدستورية قائلا «إزاى البابا يتكلم بهذا الأسلوب؟»!
ثم يستطرد برهامى ويوضح كيف دسّ كلمة «المجتمع» فى المادة «10»، لتمكن قانون الحسبة وحمايته من الطعن عليه بعدم الدستورية، وكيف أن هذه المادة ستُستخدم فى تفعيل قانون الحسبة، الذى يتيح لأى شخص أو هيئة غير ذات مصلحة فى أى موضوع، أن تلاحق الكتاب والمبدعين وأى شخص لا تعجبهم آراؤه أو أفعاله بدعاوى قضائية، قد تتضمن تكفيره وخروجه من الملة وما ينتج عن ذلك من آثار قد تصل إلى حد تطليقه من زوجته مثلا أو المطالبة بإعدامه نتيجة لرأى لم يعجب المدعين، وكيف ستُستخدم أيضا فى تشريع قانون لإنشاء هيئة لـ«الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، تعمل بمثابة شرطة أخلاقية ودينية، على نفس النمط الوهابى، مثل المجموعات التى قتلت شاب السويس وتتعدى على المصريين فى أماكن عديدة بدعوى حماية الدين.
ويوضح برهامى لزملائه أن الشعب المصرى له رغبات أخرى، وبالتالى يجب أن يحتالوا على الظروف للوصول إلى ما يريدون، وهو ما ينفذه برهامى والتيار الطائفى حرفيا.
ومن العجيب أنه فور تنبُّه المصريين وظهور ضجة حول الفيلم، أزيلت معظم الأفلام التى توضح المؤامرة من موقع «يوتيوب»، بحجة أنها تعتدى على الملكية الفكرية لمجموعة «إم بى سى - MBC»، ولم نعلم قبلا أن «إم بى سى» تمتلك قناة «أنا السلفى».
إن هذا الفيديو يوضح الطبيعة الاستعمارية لمخطط التيار الطائفى، الذى يخطط لغزو الهوية المصرية بصورة فيروسية، تهدم المقاومة المناعية للشخصية القومية، وتدسّ مكانها جينات وهابية متحورة، بهدف السيطرة والتمكين، وهى محاولات يجب على كل وطنى مصرى أن ينتبه ويتصدى لها بكل الوسائل السلمية، بعد أن اتضحت النية الخبيثة للتيار الطائفى، وعدم تورعه عن استخدام الخداع والتدليس والرشاوى والصفقات المشبوهة لتحقيق هذه الأهداف الآثمة.
No comments:
Post a Comment