أستأذن القارئ الكريم أن نخرج من حوار الدستور و«التأسيسية»، والاعترافات المصورة للبرهامى، عن دوره الخبيث الإجرامى، فى مؤامرة سرقة «التأسيسية» والدستور، لاغتيال حقوق وحريات الشعب المصرى المغدور، نظرا إلى زيادة حوادث القطارات والمزلقانات بصورة أسبوعية بل أحيانا يومية، وأحدث تلك الفواجع شهدته «البلد» عندنا، شبشير الحصة، مركز طنطا، فى تصادم قطار كفر الشيخ مع سيارة أجرة ميكروباص، سقط ضحيته 15 مصابا بينهم طفلان.
تكرار هذه الحوادث وغيرها من نماذج الفشل، يولد إحساسا غريبا يشعر به البعض أحيانا، بوجود لعنة شريرة تجعل الفشل قدرا محتوما ونهاية غير سعيدة لكل ما نفعله فى مصر!
احترنا لسنوات طويلة فى فهم أسباب هذا الفشل المزمن، الذى يصيبنا بوابل من كوارث وأصفار متكررة فى كل مجال، حتى أصبح الصفر ضيفا ثقيلا لا فكاك منه، وجاءت النكت أن حكومتنا هى حكومة صديقة للصفر، أو أنها حكومة نحس ملعونة تجلب الكوارث والمصائب على الشعب. وبعد بحث طويل تكتشف أن الفشل مركب بطريقة هيكلية داخل منطق حياتنا «Life Algorithm» وطريقة تفكيرنا. الطبيعى مثلا أن اثنين زائد اثنين يساوى أربعة. ولكن ماذا لو كانت نتيجة العملية فى حياتنا لا تساوى أربعة بالضرورة، فأحيانا تساوى 3، وقد يكون الناتج 1 أو 2، إلا إذا كانت لك واسطة من مسؤول مهم أو كنت صديقا للباشمهندس، وعندها ممكن أن تأتى النتيجة 7، وربما يطرح الباشمهندس فيها البركة فتساوى 20 مثلا أو حتى 30، بينما إن كنت من خارج دائرة الثقة الخاصة بالباشمهندس، أو لم تقم بتفتيح مخك مع المسؤول، فقد تؤول نتيجة العملية لتصبح صفرا.
ومثل هذه الأمثلة كثير لا يعد ولا يحصى سواء فى وضع موازنة الدولة، أو ترسية المناقصات الحكومية، أو التعيينات فى المناصب الهامة، أو نتائج الانتخابات، أو تشكيل المجالس والجمعيات والهيئات التأسيسية، أو تخصيص الموازنات للمشروعات الحكومية، من مدارس وطرق وكبارى وسكك حديدية، سواء مشروعات البناء أو التجديد والصيانة، التى تقع جميعها خارج أى مواصفات أمان هندسية، وغيرها ملايين من الأمثلة الممسوخة، التى نراها كل يوم، وتتميز جميعها بأنها تخالف المنطق الطبيعى، وهو أن الشخص الأنسب للمنصب والأفضل تأهيلا له يتم اختياره للمهمة، أو أن العرض الأنسب فنيا وكلفة يفوز بالمناقصة، أو أن الأهداف العامة للدولة يتم تحويلها إلى خطط تنفيذية بموازنات توازن بين الموارد المتاحة وأولويات المهام المطلوب تنفيذها بصورة جيدة وآمنة، تقلل من مخاطر الحوادث، وتضمن تنفيذ الأعمال طبقا للمواصفات المحددة والمتعارف عليها.
وهذا الخلل فى منطق الأشياء يهدد بإحباط أى عمل أو نشاط، لأن أساس النجاح فى أى مبادرة أو مشروع هو التخطيط، والتخطيط يبنى فى الأساس على توقع سيناريوهات محتملة للمستقبل، وهذا التوقع يأتى نتيجة لحسابات وأسس وقوانين متفق عليها فى علوم الفيزياء والرياضيات والهندسة والإدارة والمحاسبة والاقتصاد وغيرها، فإذا فسدت هذه الحسابات، أو اختلت الأسس التى تُبنى عليها، يكون النجاح إما ضربا من ضروب الحظ، أو فى الأغلب كنتيجة للفساد والالتفاف حول القوانين والنظم المعلنة، واستخدام عوامل خفية أو جماعات سرية، ويكون الفشل هو النتيجة الطبيعية، وهذا هو المنطق الرياضى للأمور.
وقبل هذه الحادثة الأخيرة، فجعنا مثل كل المصريين منذ أسابيع قليلة، بحادثة أخرى أشد ألما، نتج عنها وفاة 53 طفلا مصريا فى عمر الزهور، بكل ما يحمله موت بل إصابة طفل واحد لأسرته المكلومة من فجيعة وآلام فوق احتمال البشر، فما بالك أن تفقد أسرة واحدة ثلاثة أطفال، وأن تفقد بلدة صغيرة عشرات الأطفال، هنا يخرج الموضوع عن إطار الحزن ويدخل فى إطار الفاجعة القومية للأمة كلها. ماذا كان رد فعل الدولة على هذه الكارثة؟ قام السيد الرئيس بتحويل المسؤولين عن الحادثة إلى النيابة العامة، وهذا أمر عادى فى الأحوال الطبيعية، لكن عندما تكون هذه الحادثة متكررة بصورة أسبوعية، ربما من ستر ربنا ليس بنفس الحجم من عدد الضحايا وفجيعة كونهم أطفالا، ولكن حوادث القطارات والمزلقانات المتكررة سمة رئيسية فى الأخبار اليومية لمصر. لماذا تتكرر هذه الحوادث منذ عصر مبارك وإلى اليوم؟
يقول المهندس يحيى إبراهيم نائب رئيس سكك حديد مصر، إن الوضع فى السكة الحديد مأساوى وكارثى، مشيرا إلى تكرار هذه الحوادث ما دامت تتنكر الحكومة ووزارة المالية لتعهداتهما وتمتنعان عن سداد المخصصات المالية لهيئة السكك الحديدية، وطالب المسؤول بغلق خطوط السكة الحديد حرصا على حياة المواطنين إلى أن تلتزم الحكومة بتعهداتها بالتطوير أمام الشعب، ووصف تصريحات الحكومة بتوفير 8 مليارات لتطوير الهيئة بالمسكنات لامتصاص غضب الشارع عقب كارثة قطار أسيوط، حيث إن إجمالى العجز فى ميزانية الهيئة ما بين المخصصات التى تحتاج إليها، والواقع يبلغ 5 مليارات جنيه سنويا! وقال إن إجمالى مديونيات الهيئة لـ60 شركة منفذة بلغت 600 مليون جنيه، مما أدى إلى امتناع الشركات عن تنفيذ أعمال الصيانة للمزلقانات وتوريد قطع الغيار للهيئة، مما سبب نقصا شديدا فى معدات تجديد السكة وصيانة الجرارات وكهربة الإشارات المسؤولة عن توقيف القطار أتوماتيكيا، فى حالة عدم تلقيه إشارة من عامل المزلقان.
فى هذه الحالة، المجرم الحقيقى ليس عامل المزلقان، بل هو الحكومات المتعاقبة بما فيها مجلس الوزراء الحالى ورئيس الجمهورية نفسه. ويزيد الطين بلة أن الرئيس هو دكتور مهندس، وأنه يعلم جيدا أن تحويل عامل المزلقان إلى النيابة هو تستر على الجريمة الأصلية وتشتيت للمسؤولية السياسية والجنائية، لأن تكرر كوارث القطارات هو حتمية منطقية ورياضية، فى ظل سياسة الحكومة بالإصرار على عدم صيانة القطارات ونظم الإشارات ومنظومة الأمان وإدارة المخاطر فى هيئة السكة الحديد.
ففى كل يوم، تقوم الحكومة بتسيير القطارات على شبكة السكك الحديدية التى تفتقر إلى أدنى قواعد السلامة، فهى تعطى لسائق القطار وعامل المزلقان ووزير النقل تصريحا ضمنيا بالقتل ممهورا بتوقيع وزير المالية ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، نعم، تصريح بقتل المواطنين من ركاب القطارات، ولا دخل هنا للإهمال أو القضاء والقدر فى ما حدث وسوف يتكرر بكل أسف، لأن الإصرار على إدارة الأمور طبقا للوغاريتمات فاسدة ولا متساويات واضحة هى جريمة جنائية مكتملة الأركان.
لكن ماذا تفعل الحكومة وماذا يفعل الرئيس -هذا الرئيس وغيره- فى ظل محدودية الموارد؟ أول شىء يفعله الرئيس، هو أن يضع الأكفاء فى مواقع المسؤولية، بصرف النظر عن هلاوس التمكين وتعيين أهل الثقة فى المناصب القيادية لمجرد أنهم من أهلى وعشيرتى، وهى الهلاوس التى تتحول بسرعة لتصبح حبلا يلتف حول عنق الجماعة ومن يواليها. ثانى شىء، هو إدارة موارد الدولة ومخصصاتها فى مسارين متوازيين، الأول يعطى أولوية آنية لتقليل مخاطر الكوارث والمجاعات وانهيار الأمن وتوقف الاقتصاد والخدمات الأساسية على المدى القصير، والثانى يقوم بحل المشكلات جذريا على المدى الأطول. الشىء الثالث هو مصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع، والسعى لتكوين جبهة داخلية قوية من جميع القوى السياسية والمجتمعية، للتصدى لهذه الظروف الاستثنائية، وبناء رؤية موحدة للمستقبل.
كارثة القطار هى نفسها مشكلة «التأسيسية»، وهى أن هناك جماعة تمثل طائفة واحدة صغيرة جدا مهما كبرت، مقارنة بدولة ضخمة شديدة التنوع فى مكوناتها، دولة تقابلها تحديات جسيمة، وإصرار هذه الجماعة على أن تهيمن على مشهد لا يمكن لأى جماعة أو طائفة مهما أوتيت من مهارة أو قوة أو شعبية أو ريالات، أن تتمكن وحدها من التصدى له.
أتذكر جيدا حوارى مع عصام العريان ومحمد البلتاجى بعد الثورة فى فبراير ومارس 2011 فى الجمعية الوطنية للتغيير، عندما طالبت أن تتحد جميع القوى المشاركة فى الثورة فى وضع رؤية موحدة لإدارة المرحلة الانتقالية ووضع دستور مصر الثورة، فكان الرد أن تحالفنا كان مؤقتا وانتهت الحاجة إليه وأننا اليوم قد أصبحنا متنافسين، كل يسعى لمصلحة حزبه أو جماعته، وهى رؤية تسببت فى انقسام البلاد وتباطؤ الاقتصاد وتوقف خطط الإصلاح بما يعمق من النتائج الكارثية للفشل الهيكلى الذى نعانى منه أصلا، وصولا إلى تمرير دستور مسروق بمؤامرة خبيثة كما رأينا فى اعترافات البرهامى، دستور يقوم على الخداع والافتئات على حقوق وحريات الشعب وشركاء الوطن، وبالتالى يزيد من حالة الاحتقان والاحتراب السياسى والمجتمعى، وما يعنيه هذا من المزيد من الصدامات وتأخر مواجهة التحديات الجسيمة التى تواجه البلاد. أتذكر هذا الحوار الآن بكل أسف.