مقدمة في المنهج
يقوم منهجنا في هذا المبحث على التوفيق أو التوافق بين التاريخ الموثق للأقدمين المصريين وأساطيرهم الدينية من ناحية، وبين الأديان الثلاثة الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام، التي ظهرت بعد ذلك التاريخ بعدة آلاف من السنين. والدافع الرئيسي لهذا المنهج التوافقي الذي اخترناه هو وجود تشابه ضخم لا يمكن إنكاره أو دحضه بين أساطير الأقدمين وبين التراث العبراني الذي اشتركت المسيحية بصورة كبيرة فيه، كما اشترك فيه الإسلام أيضاً ربما بصورة أقل، ولكن المساحات المشتركة في كل الأحوال هي مساحات واسعة لا يمكن معها إنكار الأصول المشتركة. وليس هدفنا هنا هو إثبات أن أصل هذا التراث الإنساني هو مصري بحت، لأننا نؤمن بالتفاعل والتواصل بين المصريين وبين الشعوب المجاورة في التراث الروحي، ولكن أيضاً لا يمكننا تجاهل الفارق الزمني الشاسع بين تاريخ تسجيل القصص الدينية لقدماء المصريين وأول تسجيل مفترض للتراث العبراني، وأن هذا الفارق يأتي لصالح قدماء المصريين.
منهج التوافق بين التاريخ الموثق للأقدمين وبين الأديان
والعهد القديم وهو جزء لا يتجزأ من الكتاب المقدس الذي يعده المسيحيون "كلمة الله"، فيه مساحات مشتركة ضخمة مع العقيدة الإسلامية، تتجلى في قصص الأنبياء المذكورة في القرآن الكريم، وفي كثير من الأحاديث الشريفة، كما استعان المفسرون المسلمون بالتراث العبراني، وخاصة في اسماء الأنبياء والأماكن والأحداث التي لم يأت ذكرها في القرآن أو الأحاديث بصورة مباشرة صريحة. ويصبح على الباحث إما أن يختار منهجاً تصادمياً أو توافقياً، وقد اخترنا المنهج التوافقي الذي يبحث عن المساحات المشتركة ويرى فيها دليلاً على أن أساطير قدماء المصريين قد تكون مستوحاة من تراث أنبياء أقدمين مثل "إدريس" (أوزوريس – عازر)، أتى ذكرهم في الكتب المقدسة. وهذا المنهج يقتضي أن مثل هؤلاء الأنبياء كانوا مصريين وليسوا عبرانيين، لأن ذكرهم في التاريخ المصري يظهر بصورة مبكرة، تسبق وجود العبرانيين كأمة بعدة آلاف من السنين. وفي كل الأحوال، فقد خضع العبرانيون للحكم المصري لفترات طويلة بدءاً من الدولة الحديثة، سواء بنزوح جماعات ضخمة منهم إلى مصر Egypt Proper تحت ضغط موجات الجفاف والمجاعات التي صاحبته، أو عندما وسع ملوك الدولة الحديثة من رقعة الإمبراطورية المصرية بضم فلسطين وأجزاء كبيرة من الشام والعراق وأقاموا الحصون ووضعوا الحاميات المصرية لتشكل خطوط دفاع متقدمة، لحماية البوابات الشرقية لمصر، وهي التي تبين خطرها بعد غزو الهكسوس لمصر، وبهذ فإن العبرانيين يمكن النظر إليهم، تجاوزاً وبصورة فنية بحتة، كمصريين طوال الفترة من 1550 ق.م. وصولاً لنهايات الدولة الحديثة حوالي 1070 ق.م.
إذن الاعتماد على المنهج التجريبي في قراءة التاريخ، وهو الذي يستخدم الحفريات وطرق التأريخ العلمية، ويضع النظريات حول تسلسل الأحداث، ثم يختبرها بالقياس على أحداث أخرى وهكذا، يمكن أن يعطي نتائج لا تتناقض بالضرورة مع جوهر العقائد الدينية، لكنه يقتضي نوعاً من المرونة التي تعيد صياغة وترتيب الأحداث دون المساس بجوهر العقيدة نفسها.
والخيار في النهاية للقارئ أي منهج يحوز قناعته.
1 comment:
شكراً لكم ع الموضوعات المتنوعة ...
Post a Comment