السقف المانع
نشر بالمصري اليوم 30 أكتوبر 2004
جاء مؤتمر الحزب الوطني الأخير تحت عنوان "الفكر الجديد وأولويات الإصلاح". وهو عنوان ذكي خبيث، جاء مدعماً بعشرات اللافتات الضخمة التي تحتل الميادين والطرق الرئيسية، تطل عليك من خلالها وجوه مجموعة من المصريين الغلابة، كلهم مبتسمون في تفاؤل بالفكر الجديد، ولسان حالهم يقول: "نريد أن نخرج من الفقر أولاً، دعونا من موضوع تغيير الدستور والانتخابات الحرة المباشرة، فنحن لا نمانع في التجديد أو التوريث، ولكن المهم التركيز على التنمية الاقتصادية ورفع مستويات المعيشة". وبناء على طلب الجماهير، فقد أعلن المؤتمر في نهايته "ثلاث لاءات"، وقرر أن تغيير الدستور ليس من أولويات الإصلاح.
ورغم اقتناعي بجدية الحكومة الذكية في تنشيط الاقتصاد المصري، والاتفاق العام على أهمية الإصلاح الاقتصادي وانتشال الشعب من قيعان بحور الفقر، فإنني يسوءني أن أبشر الحكومة ولجنة السياسات، بأنه لا يمكن الوصول لتنمية اقتصادية مستدامة دون تفعيل برنامج شامل متزامن، يشمل الإصلاح السياسي والدستوري والتشريعي والإداري، والإعلامي والتعليمي والاجتماعي.
لقد أشرت في مقال سابق إلى ظاهرة تفاوت المعدلات Rate Mismatch وهي تصف في أحد جوانبها التفاوت بين معدل نمو القطاع الخاص وبين معدل تطوير البيئة السياسية التشريعية الإدارية، على اعتبار أن هذا التفاوت يتسبب في ضياع الطاقات الاقتصادية عند كل مرة يحدث فيها الاصطدام الحتمي والدوري - المتكرر بانتظام - بين منحنى النمو الاقتصادي و"السقف السياسي التشريعي الإداري المانع"، ودللت على هذا بآلاف المشاكل والعوائق والعقبات البيروقراطية التي تواجه القطاع الخاص وتتسبب في تعثره وتمنعه من النمو، وصورت هذا بسيارة صغيرة ينمو محركها في الحجم والقدرة، بينما يبقى هيكلها - الشاسيه - على حاله بل ويصيبه الصدأ، مما يضع "سقفاً مانعاً" يحد من نمو الاقتصاد الوطني، باعتبار ناتج القطاع الخاص يمثل المكون الأعظم والمتنامي من الناتج القومي، وهو الطرح الذي أعادت نشره مجلة "النيوزويك"، فأغضب البعض الذي اتهمني "بنفخ" القطاع الخاص والتحيز له وتجاهل الفساد فيه.
إن الدعوة للاستثمار والتنمية مع وجود هذا "السقف المانع"، إنما هي دعوة لإهدار الموارد والطاقات، مثل من يحاول أن يقفز عالياً داخل "عشة فراخ"، وبعد العديد من الكدمات الدامية سوف يكتشف إنه كلما حاول القفز بقوة أكبر، يصطدم رأسه بالسقف بصورة أعنف وتصبح الكدمات أكثر إيلاماً، وهنا يصبح الحل إما شق فتحة في سقف عشة الفراخ، أو رفع مستوى السقف، أو الخروج من "العشة" والقفز بحرية في الهواء الطلق.
لقد بدأت مشكلة هذا السقف المانع منذ الستينيات مع الميل الطبيعي للنظام الشمولي نحو فرض سيطرة الدولة على كل مظاهر الحياة Authoritarian Approach . وتدريجياً، جاءت القوانين لتكرس هيمنة الدولة ونظام الحكم على كل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. جرم القانون كل نشاط فردي أو جماعي خارج الإطار الحكومي، وقصر معظم الأنشطة على أجهزة الدولة نفسها وأعطى الحكام سلطات لا نهائية دون أن يقابل ذلك حساب أو مسئولية.
وفي السبعينيات، حاول النظام أن يتبنى الديمقراطية الغربية ويتشبه بالأصدقاء الجدد، إلا إنه عندما جاء وقت الاختبار الحقيقي وظهر أن الأسلوب الغربي يمكن أن يفرز معارضة حقيقية، وبدلاً من أن يتراجع النظام عن الديمقراطية التي اكتشف أنها لا تناسبه، قرر أن يغزل قماش الديمقراطية بخيوط القوانين الشمولية، ليفرز مسخاً مظهره التعددية الديمقراطية وجوهره الأحادية واحتكار السلطة، فسمعنا لأول مرة عن ديمقراطية ذات أنياب ومخالب، وكبير العيلة الذي يستخدم مفرمة سيادة القانون في تحويل المعارضين إلى أصابع كفتة وطرب، ونظراً لأن الشعب جائع ولا يذوق الكباب إلا فيما ندر، فقد خرجت المظاهرات – التي نظمتها الحكومة - تهتف "أفرم أفرم ...." تشجع الحكومة بل وتطالبها بفرم المعارضة استعداداً لشيها.
إن هذا يفسر اتجاه القوانين للمبالغة في فرض سيطرة الدولة وسطوتها على كل أنشطة الحياة، واستخدام العبارات الفضفاضة التي يمكن أن تمنع بل وتجرم كل شيء، والتناقض في اللوائح التي تحرم جميع الأنشطة فيضطر الجميع للتحايل على القانون، ويقع سيئو الحظ ضحايا وكباش فداء بصورة عشوائية أو اختيارية. وعلى الرغم من أن القانون هو القانون في نهاية الأمر، إلا أن هناك فروق جوهرية بين القانون في دولة شمولية وأخرى ديمقراطية. ففي مصر تأتي القوانين من أعلى إلى أسفل بصورة فوقية سلطوية، لتعبر عن وجهة نظر النخبة الحاكمة وتحقق أهدافها السياسية والإعلامية، فتولد منفصمة عن واقع ما يعيشه الشعب. وفي نفس الوقت، ترضي هذه القوانين السلطوية شهوة الحكام في السيطرة، فهم لا يطيقون أن يعمل أحد بصورة مستقلة عن إرادتهم، ويستمتعون بفكرة أن ما يجري من خير في البلاد ويأتي من رزق للعباد إنما يتحقق على أيديهم وبفضل توجيهاتهم، أما المشاكل فهي من الشعب أو بسبب قلة من كباش الفداء الذين يضحي بهم النظام بصــــــورة دورية لامتصاص الغضـب الجــماهيري بـهدف اســـتمرار المـــــســــــرحية .The Show Must Go On
أما في الدول الديمقراطية، فيكتشف الشعب – من خلال ممثليه ومؤسساته - القوانين التي تصلح للزمان والمكان، وبالتالي يأتي القانون كحل تشريعي يوثق ما اتفق المجتمع على تطبيقه من نظم وأعراف. الفرق في الحالتين أن القانون عندما يفرض من أعلى وبصورة فوقية، فلا يمكن في الغالب تطبيقه لأنه يغفل اعتبارات المواءمة، ومع تفريغ العملية الانتخابية من مضمونها، يفقد المشرعون الشرعية التي تؤهلهم للتشريع (!) وصياغة القوانين أو إقرارها، وبالتالي يتعامل الشعب مع هذه القوانين كأنها غير موجودة، أولاً لافتقاد المشرعين – والنظام ككل - الشرعية، وثانياً وهو الأهم، لأن تلك القوانين لا تصلح للتطبيق نظراً لأنها لم تأت من رحم التجربة الشعبية، وهنا ينشأ الانفصام القومي بين النظام والشعب، بين القانون والعرف، بين الممنوع والممكن، ويتولد عن هذه التناقضات الحادة مأساة الفوضى المنظمة المتعمدة التي نعيشها كل يوم، والتي تشبه حالة من العصيان المدني غير المعلن، يعبر بها الشعب من خلال اللاوعي الجماعي عن رفضه لنظام لم يختره، ويعلن بصورة عملية عن عدم التزامه بقوانين لم يُسأل عند صياغتها ولم يشترك في إقرارها.
مما سبق، يتضح استحالة تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة دون تفعيل الإصلاح الدستوري والسياسي والتشريعي والإداري. لا يمكن لحكومة ذكية أو حتى عبقرية أن تخرجنا من النفق المظلم الذي ننزلق فيه منذ سنوات طويلة، دون حدوث الإصلاحات الهيكلية والدستورية والسياسية المطلوبة في بنية النظام. وبالتالي، وحتى يتوقف النزيف المستمر، الناشئ عن الكدمات الدورية نتيجة لمحاولات القفز داخل "عشة الفراخ"، وهو ما رأيناه عبر عقدين من تعثر محاولات التنمية - بدءاً بمشكلة توظيف الأموال، وإهدار مئات المليارات في الساحل الشمالي ومدن الأشباح، والمشروعات القومية ضعيفة الجدوى، مروراً بالركود الاقتصادي وكساد سوق العقارات والتدهور الحاد في الجنيه المصري، وعشرات المليارات التي تنفق سنوياً على نظام تعليمي فاشل، وماكينة إعلامية عزف الشعب عن مشاهدتها، فضلاً عن تعثر آلاف الشركات، وضياع عشرات أخرى من المليارات في قروض معدومة - حتى نتخلص من كل هذه المصائب، فإننا نتمنى أن تقف "لجنة السياسات" في صف واحد مع باقي القوى الوطنية، وتعيد النظر في "أولويات الإصلاح"، بحيث تتبنى تفعيل الإصلاح السياسي دون إبطاء، بدءاً بتعديل الدستور، وتحديث البنية التشريعية والإدارية للدولة.
No comments:
Post a Comment